ذاكرة إبداعية سورية: بصيص ضوء في الظلام

في كتاب "معتقلون ومعتقلات - الفن يوثّق والأرشيف يتحدث"

ذاكرة إبداعية سورية: بصيص ضوء في الظلام

تنتقل الحروب ومذابحها من بلد عربي إلى آخر، أقله منذ أكثر من عقد من السنوات، إذا كان ممكنا نسيان أو تناسي مذابح حروب لبنان الأهلية، الداخلية والإقليمية (1975- 1990)، قبل أن تسبقها وتمهّد لها حرب أهلية أردنية - فلسطينية (1970). والحروب على العراق وفيه، ليست أقل من "ملحمة" مديدة (1980- 2017) حوّلته إلى ما يشبه "محميّة" إيرانية. أما عشرية "الربيع العربي" (2010- 2020) فأغرقت دولا عربية عدة (سوريا، ليبيا، اليمن، السودان) في حروب أهلية مستمرة، وأدخلت دولا أخرى في أزمةٍ اقتصادية صعبة (مصر)، وسياسية - اقتصادية (تونس، لبنان). ومنذ سنة نعيش كابوس حرب إبادة إسرائيلية لفلسطينيّي غزة، التي منها هاجمت "حماس" مستوطنات إسرائيلية، قبل أن تمتدّ هذه الحرب إلى لبنان الذي أصبح ميدانها الرئيس.

شريط من وقائع وصور

مناسبة رسم هذه الخريطة السريعة والمكثّفة للحروب والمذابح في ديار عربية كثيرة، هي صدور كتاب/ مجلد وثائقي عن المذبحة السورية المهولة، بل عن وجه جزئي وتفصيلي من وجوهها السوداء: المعتقلون والمغيّبون قسريا. وهذا عملٌ مسالم ونادر في خضم الحروب العربية ودبيب مقاتلها السائرة.

فالتوثيق وتقصي المعلومات عن الحوادث والمقاتل، ومن ثم التأريخ لها، جهدُ قِلَّةٍ من أشخاص (سوريين هنا) شتتتهم المذبحة السورية في ديار الله الواسعة. وهم ينشطون في سبيل تحويل مآسيهم ومآسي بلدهم شريطا من كلماتٍ وصور ورسوم، قد تساعدهم وسواهم من السوريين في تحمُّل العيش في المنافي.

الكتاب الجديد عنوانه "معتقلون ومعتقلات - الفن يوثّق والأرشيف يتحدث". وهو من تأليف فريق عمل "ذاكرة إبداعية للثورة السورية". وصدر عن "دار رياض الريس للنشر" في بيروت. وقد أنجزه فريق العمل التوثيقي (أمل الياس، أمال نعمة، روبن متري، سنا يازجي، جابر بكر، ووسام جلاحج) من مادة جمعها على موقع إلكتروني أنشأه لأرشفة وقائع الاعتقال والتعذيب والتغييب القسري، التي اعتمدها النظام السوري، إلى جانب القتل والإبادة الجماعية، سياسة يومية ضد السوريين الثائرين عليه، طلبا للحرية والكرامة الإنسانية. وكان الموقع قد أُطلِق في 16 أكتوبر/ تشرين الأول 2021، فجمع ما استطاع من مادة وثائقية عن المبادرات التي اهتمّت بمسألة الاعتقال والتغييب، ما بين العامين 2011 و2020، ثم نسّقها، وصنّفها وبوّبها، في محاور وموضوعات وتواريخ وحوادث وأطوار، لتسهيل تصفّحها وقراءتها على نحو مترابط ويؤرخ للثورة السورية المغدورة.

يجمع الكتاب مادة وثائقية عن المبادرات التي اهتمت بمسألة الاعتقال والتغييب في سوريا، ما بين العامين 2011 و2020

لكن الكتاب لا يدّعي إحصاء جميع المعتقلين والمغيبين من الجنسين، حسبما جاء في مقدمته. بل هو "تطرّق إلى من توافرت عنهم/هن أعمال فنية وإبداعية": لافتات، شعارات، رسوم غرافيتي، غناء شعبي، فن تشكيلي، كتب، منشورات، وأفلام... وقد صُنّفت هذه الأعمال وفق السياقات الحديثة الزمنية والمكانية، العريضة والعامة، التي ظهرت فيها، ثم أُدرجت في سياقات ومنعطفات ثورة السوريين. وقد بلغ عددها في الأرشيف وفي الكتاب حتى صدوره (أكتوبر/ تشرين الأول 2024) ما يزيد على 1565 عملا، ويجري باستمرار تحديثها على الموقع الإلكتروني. ذلك أن فريق "ذاكرة إبداعية للثورة السورية" يعتبر مسألة الاعتقال والتغييب "من أهم ما يعتمل في وجدان عموم السوريين. ولعلها من المشتركات الوحيدة بينهم اليوم". وهي "بدأت تُترجم في الملاحقات والدعاوى والأحكام القضائية في بلدان اللجوء السوري (أوروبا تحديدا)، ضد مرتكبي انتهاكات حقوق الإنسان في سوريا، وعلى رأسهم النظام السوري، إلى جانب قوى الأمر الواقع على الجغرافيا السورية".

 ديلاور عمر
الحرية لجميع معتقلي الرأي في سجون سلطات الأمر الواقع، 2024.

وحسب "الشبكة السورية لحقوق الإنسان"، بلغت حصيلة الحوادث التي اختار الكتاب مادته منها، على النحو التالي:

  • الاعتقال التعسفي بين مارس/ آذار 2011 ويوليو/ تموز 2024، بلغت حصيلته ما يزيد على 156757 شخصا.
  • ضحايا التعذيب بلغ عددهم في المدة نفسها 15393 شخصا.
  • ضحايا الاختفاء القسري حتى 30 أغسطس/ آب 2023، بلغ عددهم ما لا يقل عن 112713 شخصا.

وإذا كان النظام السوري هو الضالع الأساس في ارتكاب هذه الجرائم، فإن "قوى الأمر الواقع" - أي الجماعات المسلحة كلها في سوريا - ساهمت بدورها في ارتكابها، وسارت على نهج النظام الديكتاتوري.

ضرورة النسيان والتذكّر

اللافت أن فريق عمل "ذاكرة إبداعية" يرى في مقدمة الكتاب، أن "النسيان حقٌ للإنسان"، بل هو غريزة إنسانية عملية، كي يتمكن البشر ويقووا على استئناف حياتهم وترميمها بعد ما يتعرضون له من مآسٍ مدمرة. أما الذاكرة أو التذكّر، فضروريان "ضد الإنكار والتفلُّت من العقاب". أي أن النسيان ضرورة إنسانية للعيش، فيما التذكر ضرورة سياسية لتعزيز المقدرة على العيش.

ويأتي دور الثقافة والفن، لا سيما الفوريان وفي الأماكن العامة، "فريدا من نوعه" في الثورة السورية: تصوير وقائعها ومشاهدها ولحظاتها اليومية وشعاراتها وتجمعاتها... بكاميرات الهواتف المحمولة، وبثها على وسائط التواصل الاجتماعي. ويحضر الفن أيضا حضورا بارزا بأنواعه الأخرى كافة، مجسِّدا انخراط الفنانين والمثقفين في النشاط السياسي الاحتجاجي، وانخراط عموم الناس في النشاط نفسه. وذلك في تصوير "أعمق الأحداث والتطورات، وصولا إلى أشد لحظاتها رعبا".

كار
زنزانة، 2014.

يتألف الكتاب من 10 فصول، يتناول كلٌّ منها شريطا سرديا لعام كامل، فتظهر فيه الأعمال الفنية التي تناولت معتقلين ومغيبين قسريا، ونبذات سيرية عنهم وعن نشاطهم وأعمالهم، إضافة إلى إيراد بيانات وشهادات توثّق لحظات اعتقالهم وتغييبهم، وكذلك الحملات التي أُطلقلت دفاعا عنهم ولإطلاق سراحهم. ويبدأ كل فصل بمقدمة تلخص الطابع العام للسنة التي ترتبط بها معطيات وأحداث ومنعطفات مفصلية في مسار الثورة السورية. ويلي المقدمة عرض تفصيلي لما أمكن توثيقه من انتهاكات النظام وقوى الأمر الواقع المسلحة المتناسلة. ويجري ربط الانتهاكات بالحوادث التي لابستها ونجمت عنها، حسب المكان والزمان.

النسيان ضرورة إنسانية للعيش، فيما التذكر ضرورة سياسية لتعزيز المقدرة على العيش

وهذا كله يستند إلى مئات المصادر في كل فصل من الكتاب، موثقا التحركات الاحتجاجية السورية، وما واكبها من تحركات خارجية، شعبية وجماعية وفردية، إضافة إلى الحملات على وسائط التواصل الاجتماعي.

ينتهي كل فصل بفقرة عنوانها "إنتاج إبداعي"، يوثق فيها فريق العمل معظم ما جمعه على منصته الإلكترونية من أعمال فنية وثقافية على أنواعها. وهذه ينشر الكتاب المئات منها في نهاية فصوله، فتُخرج النص التوثيقي إلى عالم الفن والإبداع، الذي هو موضوع الكتاب، إلى جانب توثيق وقائع الاعتقال والتغييب. وقد بلغ إجمالي عدد الحواشي الواردة في الكتاب 4564 حاشية متنوعة المصادر:

  • تقارير وأبحاث ومراسيم وبيانات صدرت عن هيئات رسمية ودولية.
  • مواقع إلكترونية وإخبارية.
  • مقاطع "يوتيوب" وصفحات "فيسبوك".
  • المتوافر من مصادر حقوقية، دراسات قانونية، وتقارير أممية.

نماذج أسلوب التوثيق

نقدم هنا بعض نماذج من الأسلوب التوثيقي الدقيق المعتمد في فصول الكتاب العشرة:

  • المحامي خليل معتوق: بتاريخ 2-10-2012 اختفى المحامي معتوق، أثناء توجهه صباحا إلى مقر عمله، برفقة زميل له يدعى محمد ظاطا. ولم تعد ترد شهادة عن مشاهدة أي منهما، إلا في روايات من مصادر غير رسمية، قال أصحابها إنهما شوهدا في فروع مختلفة تابعة لأجهزة النظام الأمنية. وحتى تاريخ إعداد هذا الفصل (الثاني) من الكتاب، أصبح الإثنان في عداد المختفين قسريا.

خليل معتوق مدير تنفيذي للمركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، ورئيس المركز السوري للدفاع عن المعتقلين، ودافع عن العديد منهم أمام المحاكم العسكرية ومحاكم أمن الدولة ومحاكم مدنية.

ابراهيم عادل.
السجين، 2019.

  • المهندس باسل خرطبيل: في 1-8-2017 تلقت الناشطة نورا غازي الصفدي خبرا يؤكد أن النظام السوري نفذ حكما بإعدام زوجها مهندس البرمجيات باسل خرطبيل، في 3-10-2015. نعت منظمات حقوقية وإنسانية، وجهات عربية ودولية، الناشط الشاب، حسبما علّقت أنّا نبستات المديرة العامة للبحوث في منظمة العفو الدولية، قائلة: وفاة خرطبيل تذكير مفعم بالأسى لنا، وبالأهوال التي تشهدها السجون السورية كل يوم: التعذيب وسوء المعاملة والإعدام. وهذه أفعال ترقى إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية.

وكانت المخابرات العسكرية السورية اعتقلت خرطبيل في 15-3-2012 مدة 8 أشهر، فتعرض أثناءها للتعذيب. وفي ديسمبر/ كانون الأول 2012 نُقل إلى سجن عدرا في دمشق، فبقي هناك حتى 3-10-2015، ثم اقتيد إلى جهة مجهولة. بعد ذلك ذاع خبر صدور حكم بإعدامه، وسط مطالبات محلية ودولية بالكشف عن مصيره.

يُعرف خرطبيل أيضا باسم باسل الصفدي، نسبة إلى قرية صفد الفلسطينية التي تعود أصوله إليها. كان ناشطا بارزا في الدفاع عن حرية التعبير، فاستخدم مهاراته التقنية في البرمجيات لتحقيقها وللوصول إلى المعلومات بواسطة الإنترنت. فاز بجوائز عدة في سنة 2013. وأدرجت مجلة "فورين بوليسي" اسمه في قائمة أفضل 100 مفكر عالمي لسنة 2012. وأطلقت شركة "رينو بوكس" الفرنسية اسمه على أحدث برامجها في العام 2018، تكريما له.

  • بلغ عدد ما وثقه أرشيف "ذاكرة إبداعية" من أعمال مشروع "معتقلون ومغيبون"، 85 عملا فنيا للعام 2017، حتى تاريخ إعداد هذا الفصل (السابع) من الكتاب. ورصد فريق العمل اعتقال الملحن والمغني سمير أكتع. وصدرت في هذا العام 5 كتب رصدت تجربة الاعتقال: رواية "المحاكمات الإلهية" لجابر بكر. رواية "جاسوس من أجل لا أحد" لباسل صنب، وتروي سيرته الذاتية، تجربته ومشاهداته أثناء اعتقاله في أقبية النظام السوري. المجموعة القصصية "دم العصافير: مدونة الحرب" للؤي علي خليل. كتاب "هذه ثورتي" لمحمد جلال. ودراسة "الجحيم خارج السجن" لمنظمة "ياسمين الحرية".

أُنتِج في العام 2017 فيديو كاريكاتور "سجن صيدنايا: المسلخ البشري" لعبد المهيمن بدوي. وفيلم "لأولئك المنسيين في المسالخ الذين لا نتذكرهم إلا مع التقارير الدولية" لمؤسسة "الإنتاج ضجيج". وفيلم "مفقودي سوريا القضية ضد الأسد" لسارة أفشر. وتناولت ياسمين فضة في فيلمها "المختفون" قصة اختفاء المهندس باسل خرطبيل. وفي فيلمه "معسكر اعتقال الغوطة الشرقية"، قارن جابر بكر بين معاناة المعتقلين ومعاناة المحاصرين في الغوطة.

تصوير التجمعات والتظاهرات بكاميرات الهواتف الشخصية المحمولة، وبثّ صورها على وسائط التواصل الاجتماعي، سرعان ما أصبحا من الأعمال الأساسية اللصيقة بشتى أنواع التحركات اليومية

ربيع الأمل والإحباط

ربما، بل على الأرجح، أن الثورة السورية تفوقت، في إقبال شبابها على تصوير وقائع يومياتها، على مثيلاتها من ثورات "الربيع العربي". فتصوير التجمعات والتظاهرات بكاميرات الهواتف الشخصية المحمولة، وبثّ صورها على وسائط التواصل الاجتماعي، سرعان ما أصبحا من الأعمال الأساسية اللصيقة بشتى أنواع التحركات اليومية وأساليبها، تلك التي تصرّفَ المتظاهرون موقنين أن فعلها في الواقع، إنما يعادل فعل التصوير وبثّ الصور في فضاءات العلانية العامة المعاصرة.

وقد يكون مبعث ذلك جوعٌ مزمن إلى الاحتشاد والكلام والهتاف والغناء في الأماكن العامة. وهذا نظير جوع آخر يعادله إلى الحرية الممتنعة، المقموعة والمستحيلة، منذ عقود في سوريا، أكثر بكثير من سواها في بلدان "الربيع العربي"، كمصر وتونس مثلا. ثم أن "الربيع" ذاك في بلدانه كلها، كان ربيع التصوير الآني المباشر لتجمعات الطلب المفاجئ على الحرية، قدر كونه نداء أو صرخة ملتاعة يطلقها المتظاهرون ويوجهونها على نحو أساسي إلى "العالم الحر"، قائلين له: انظر، شاهِد صورنا، وشاهِدنا هنا في شوارع بلداننا الديكتاتورية، حيث نتجمع ونتظاهر طلبا لحرية تعتبرها من قيمك الأساسية، وتريد أنت أن تتحقق وتصير قيمة أساسية في ديارنا.

  خالد بركة
صامت، 2020.

وهذا يعني أن "العالم الغربي الحر" كان هو المخاطَب الأساسي لشباب "الربيع العربي"، إلى جانب مخاطبتهم أهالي بلدانهم وشعوبها، كي يخرجوا إلى شوارع الحرية. لذا كان التصوير الحيّ والصور الحية، وبثها في فضاءات العلانية العامة، الوسيلة الأولى في تلك المخاطبات التي سرعان ما تأرجحت بين الأمل والإحباط. وهو التأرجح الذي استطال زمنا ورعبا وقتلا في البلاد السورية، فحمل أهلها الثائرين على الهتاف أخيرا: "ما إلنا غيرك يا ألله".

إسرائيل تردم بالدم نوافذ طهران

أدى ذاك التأرجح الطويل في سوريا القتل والمجازر والإبادة، إلى توليد فنون تعبيرية جديدة في القول والإعلان والهتاف والشعارات والبيانات والغناء والرسم والتصوير... وهذه ربما كان لبعضها تراث قريب زمنا، يرقى إلى ما بعد وفاة حافظ الأسد في العام 2000، وتوريثه رئاسة الجمهورية السورية لابنه بشار الشاب، الذي سرعان ما بادر إلى الكلام عن ضرورة الإصلاح. وهذا ما أدى إلى استبشار مثقفين وشباب وفنانين سوريين أو تهيأ لهم - وهم كانوا ممن سبق اعتقلالهم وسجنهم سنوات مديدة، ومن عشرات ألوف السجناء السوريين - أن الحقبة الجديدة قد تكون بداية نهاية كابوس صامت، عاشوه وعاشته أجيال سابقة في سجون السجن السوري الكبير منذ عقود.

انفجرت تلك الفنون وشاعت مع انفجار الاحتجاجات في مطلع العام 2011، وظلت تتسع وتزدهر حتى نهاية عشرية "الربيع" السوري، الذي تحول ربيعا أسود. وكانت تلك الفنون سوداء بدورها. وقد وثّق كتاب "ذاكرة إبداعية ..." ما استطاع من أعمالها في العشرية السوداء. وربما يكون الحراك السوري المديد تميّز عن سواه في بلدان "الربيع العربي" بهذه الأعمال الفنية.

وليد المصري.
مفقود، 2012.

أما سؤال: ما جدوى هذا التميّز السوري؟ فمتروك أمره في ذمة التاريخ الآتي، الذي لا تزال صفحاته الحالية أو الراهنة سوداء فاحمة. بل هي ازدادت سوادا في بلاد "الربيع العربي". وهذه بلاد بلغ الرعب والتدمير والقتل فيها مستوى كارثيا. وصارت دماء أهلها المستباحة من صنعاء إلى غزة فبيروت، نوافذ مشرّعة لطهران "الحرس الثوري" على البحرين، الأحمر والأبيض المتوسط.

وها إسرائيل - دولة استعمار الشعب الفلسطيني، بل دولة الرغبة العارمة في اختفائه أو محوه وإبادته - تردم بجيشها الإسبارطي الاستعماري، وبطيرانه الحربي وتكنولوجيته السيبرانية، هذه النوافذ الإيرانية بدماء أهل البلدان إياها. وها دماء غزةَ "حماس" ولبنان "حزب الله" تصبغ مياه البحر المتوسط.

سرعان ما أدى التصحر السياسي والخراب الاجتماعي والاقتصادي والثقافي إلى حروب أهلية عبثية، كانت بدأت في لبنان وتناسلت بعد حين من الزمن في بلدان المشرق

بصيص ضوء في الظلام؟

يبقى أن نتساءل أيضا: ما مسؤولية أهل بلدان "الربيع العربي" عن المقاتل التي يغرقون اليوم هم فيها؟

هنا لا جدوى من ترك أمر هذا السؤال للتاريخ الآتي. أنه سؤال اللحظة الراهنة. ويجب طرحه على الحاضر، قدر طرحه أيضا على بلدان المشرق العربي قي ماضيها القريب والبعيد. أقله منذ انهيار السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى (1914- 1918). فمنذ ذلك الحين، وجد المشرق أنه في حال من التيه المفاجئ، كـ"يتيم" على خرائط العالم والتاريخ. ولا يزال كثيرون حتى الساعة ينعون خرائط سايكس - بيكو ويشتمونها، لأن خرائطهما الاستعمارية، البريطانية والفرنسية، غدرت بالعرب وتركتهم على هامش التاريخ.

هشام مروان
منفردة، 2019.

ثم سرعان ما استرسلت نخبة البلاد المشرقية وعامتها في التباكي على يتمها، ذاك الذي يشكل الوجه الآخر لاستئناس النخب والعامة وطربهم في استعادة أصداء العظمة الحضارية للإمبراطورية العربية الإسلامية وأمجادها في مواضي التاريخ وأيامه الخوالي. وهم في هذا يعتبون على قسوة العالم عليهم، وعدم إجلاله تلك العظمة الماضية.

وغالبا ما صرفوا أيام تيههم في رتق عجزهم المقيم عن مباشرة العالم والتاريخ، وعن علاج مشكلاتهم - وخصوصا معضلة قيام إسرائيل وتشريدها الشعب الفلسطيني - بعنتريات الانقلابات العسكرية ومجالس قيادة الثورة، التي أمّمت (صارت) كل شيء، ودمرت البنى الاجتماعية، ومحقت الحياة السياسية، وأرست نظام الحزب الواحد القائد للدولة والأمة والمجتمع، بشخص القائد والزعيم البطل الذي لن يجود الزمان بمثله. 

ولما أزّفت مصادفات "الربيع العربي"، سرعان ما أدى التصحر السياسي والخراب الاجتماعي والاقتصادي والثقافي إلى حروب أهلية عبثية. وهي كانت بدأت في لبنان وتناسلت بعد حين من الزمن في بلدان المشرق.

أما العمل التوثيقي في كتاب "ذاكرة إبداعية للثورة السورية"، فلا يشكل أكثر من خطوة صغيرة على طريق التأريخ الذي لا يزال مظلما، ويحتاج إلى بصيص ضوء وخطوات أخرى في الظلام.

font change

مقالات ذات صلة