الأفيون... السم والسحر صناعة بـ68 مليار دولار

التأثير الاقتصادي لإدمان المخدرات هائل.. وسوق المسكنات الألم وحدها بلغت 26 مليار دولارفي عام 2020

لينا جرادات
لينا جرادات

الأفيون... السم والسحر صناعة بـ68 مليار دولار

ثمرة خشخاش الأفيون الممنوعة صناعة تبلغ قيمتها 68 مليار دولار، وترتب على الاقتصاد العالمي تكاليف تزيد على تريليون دولار أميركي للسيطرة عليها، وعلاج الإدمان، فضلا عن الخسائر الاقتصادية. فكيف تصنع الأفيونات، وهل لها فوائد طبية؟

الأفيونات، وهي الشكل الطبي لعصارة الأفيون المجففة المستخرجة من أغشية البذور، فئة من مسكنات الألم القوية. وقد أصبحت مكونا حيويا لا يقتصر على الطب الحديث. بل إن المصريين القدماء استخدموها لتسكين الألم أيضا. غير أن احتمال إساءة استخدامها وإدمانها أحدث أزمة عالمية ذات آثار اقتصادية واجتماعية كبيرة. فالطبيعة المزدوجة للأفيونات تجعلها عبئا اقتصاديا عالميا وإقليميا، خاصة بسبب إدمانها، وثمة حاجة إلى استراتيجيات قوية للسيطرة على تجارة الأفيونات على الصعيد العالمي وفي الشرق الأوسط.

الاستخدام الطبي

تُوصف الأفيونات الطبية عادة لتسكين الآلام الشديدة. وعند استخدامها بشكل صحيح تحت إشراف طبي، يمكن أن تدخل الأفيونات تحسنا كبيرا على جودة حياة المرضى. على سبيل المثل، يستخدم المورفين (المخدر الأكثر شهرة) غالبا في الرعاية التلطيفية لضمان أن يعيش المرضى المصابون بأمراض مميتة أيامهم الأخيرة بكرامة وبأقل قدر ممكن من الألم. على نحو ذلك، يشيع وصف أدوية مثل الأكسيكودون والهيدروكودون للسيطرة على الآلام الحادة في أعقاب العمليات الجراحية أو الإصابات البليغة.

تتوسع سوق الأفيونات القانونية وغير القانونية، وفي عام 2020، بلغت قيمة السوق العالمية لمسكنات الألم نحو 26 مليار دولار

وعلى الرغم من فوائد الأفيونات، فإنها يمكن أن تتسبب بإدمان شديد. تحدث إساءة الاستخدام عندما يتناول الأفراد هذه الأدوية دون وصفة طبية، أو بجرعات أعلى مما وصفه الطبيب، أو يستخدمون مواد أفيونية غير مشروعة مثل الهيروين (الذي يصنع من المورفين). ويمكن أن تؤدي إساءة الاستخدام هذه إلى الإدمان والجرعات المفرطة والوفاة، مما يخلق أزمة صحية عامة. تنبع الطبيعة الإدمانية للأفيونات من قدرتها على إحداث النشوة بالإضافة إلى تسكين الآلام. وقد تؤدي هذه النشوة إلى الاستخدام الترفيهي، الذي يتحول بسرعة إلى إدمان. فيرفع الجسم القدرة على احتمال الدواء، مما يتطلب جرعات أعلى لإحداث الأثر نفسه، ويزيد خطر الجرعات المفرطة، ويؤدي مع الأسف إلى كثير من حالات الوفاة. وقدرت منظمة الصحة العالمية أن 125 ألف شخص في العالم توفوا في سنة 2019 بسبب جرعة مفرطة من الأفيونات.

وفي أعقاب جائحة "كوفيد-19"، لوحظ تزايد إدمان الأفيونات نتيجة للإجهاد والآثار النفسية للجائحة، مما فاقم الأزمة، وأدى إلى تسجيل رقم قياسي للوفيات الناجمة عن جرعة مفرطة وتزايد العبء الاقتصادي.

سوق مسكّنات الألم: 26 مليار دولار

تتميز سوق الأفيونات القانونية وغير القانونية بالاتساع. ففي سنة 2020، بلغت قيمة السوق العالمية لمسكنات الألم نحو 26 مليار دولار، تستحوذ الأفيونات على جانب كبير منها. وتشمل السوق القانونية الأدوية الموصوفة للاستخدام الطبي المشروع، لكن السوق غير القانونية للأفيونات، بما في ذلك الهيروين والمسكنات الأفيونية التركيبية مثل "الفنتانيل"، تضيف مبلغا لا يمكن تقديره إلى هذا الإجمالي. وكان "الفنتانيل" على وجه الخصوص محركاً مهماً لأزمة الأفيونات لقوته وسهولة تصنيعه وتوزيعه بطريقة غير مشروعة.

أفغانستان المنتج الأكبر للأفيون

تتوسع سوق الأفيونات في آسيا والشرق الأوسط. وتعد دول مثل إيران وأفغانستان من كبار منتجي الأفيون غير المشروع، وتقدمان مساهمة كبيرة في الإمدادات العالمية. على سبيل المثل، تنتج أفغانستان أكثر من 80 في المئة من الأفيون في العالم، الذي يكرر بعد ذلك إلى هيروين ويوزع في جميع أنحاء العالم. ولهذا الإنتاج تداعيات عميقة لا على المنطقة فحسب وإنما على العالم أيضا، إذ يغذي التجارة الدولية للمخدرات ويساهم في أزمة الأفيونات العالمية. لكن زراعة الخشخاش وإنتاج الأفيون شهدا في سنة 2023 انخفاضا كبيرا في أفغانستان بعدما أعلنت السلطات الفعلية حظر "زراعة الخشخاش وكل أنواع المخدرات" في أبريل/نيسان 2022.

أ.ف.ب
مزارع أفغاني يجمع الأفيون الخام في حقل الخشخاش بإقليم ننغرهار في 29 أبريل 2013

ونتيجة لذلك انخفضت إمدادات الأفيون والهيروين ذي الجودة العالية المعد للتصدير من محصول سنة 2023. وشهد إنتاج الأفيون انخفاضا مماثلا بنسبة 95 في المئة، من 6200 طن أنتجت في سنة 2022 إلى 333 طنا في سنة 2023. ومع أن ذلك يبدو خطوة كبيرة في السيطرة على هذه التجارة، فإنه يمكن أن يكون سلاحا ذا حدين عندما تحل دول أخرى محل أفغانستان لتلبية الطلب العالمي.

بينما تنمو سوق الأفيونات الطبية في الدول ذات أنظمة الرعاية الصحية المتقدمة مثل مصر والمملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة، تظل السوق غير القانونية كبيرة ويصعب قياسها بدقة. وقد شهدت هذه الدول ارتفاعا في وصف الأفيونات لتسكين الآلام، وهو أمر مفيد للمرضى، ولكنه يزيد أيضا أخطار تحويلها وإساءة استخدامها. كما تشمل سوق الشرق الأوسط الأفيونات التركيبية، التي تزايد توفرها وترتبط بأخطار صحية جسيمة، بما في ذلك الجرعة المفرطة والوفاة.

العبء الاقتصادي لإدمان المواد الأفيونية

التأثير الاقتصادي لإدمان الأفيونات هائل، ويشمل تكاليف الرعاية الصحية لعلاج الإدمان، وزيارات أقسام الطوارئ، والرعاية الطويلة الأجل. على سبيل المثال، في الولايات المتحدة، بلغت التكلفة الاقتصادية لأزمة الأفيونات رقما قياسيا قدره 1,5 تريليون دولار في سنة 2020، بزيادة قدرها 37 في المئة عما كانت في سنة 2017. ويشمل هذا الرقم تكاليف الرعاية الصحية، والإنتاجية المفتقدة، ونفقات العدالة الجنائية، وبرامج الرعاية الاجتماعية.

ولا تقتصر التكلفة على النواحي المادية فحسب، بل تتعداها إلى التكلفة الاجتماعية أيضا، إذ تعاني الأسر والمجتمعات من الإدمان وعواقبه. وقد فاقمت جائحة "كوفيد-19" أزمة الأفيونات، فعطلت الحصول على علاج تعاطي المخدرات وزادت الإجهاد الاجتماعي والاقتصادي، مما أدى بدوره إلى ارتفاع إساءة استخدام الأفيونات والوفيات الناجمة عن الجرعات المفرطة. وسُجل أكبر عدد على الإطلاق من الوفيات الناجمة عن جرعات مفرطة من الأفيونات في سنتي 2020 و2021، مما أبرز الأثر العميق للجائحة على هذه القضية الحرجة بالفعل.

بلغت التكلفة الاقتصادية لأزمة الأفيونات في الولايات المتحدة الأميركية رقما قياسيا قدره 1,5 تريليون دولار في سنة 2020

وفي الشرق الأوسط، تفرض إساءة استخدام الأفيونات أيضا أعباء اقتصادية كبيرة. فتتعرض أنظمة الرعاية الصحية للضغط بسبب الحاجة إلى علاج الإدمان والمشكلات الصحية المرتبطة به، في حين تنفق سلطات إنفاذ القانون موارد كبيرة لمكافحة تجارة المخدرات غير المشروعة. ويشمل الأثر الاجتماعي تفكك الأسر والجريمة وانخفاض إنتاجية القوة العاملة. على سبيل المثل، تنفق مصر ملايين الدولارات سنويا للسيطرة على الإدمان من خلال الحملات الصحية العامة وإعادة التأهيل والعلاج، وكان يجدر تخصيصها لتعزيز الاقتصاد لولا مواجهة تلك الأزمة.

خطة للسيطرة على تجارة الأفيونات

السيطرة على تجارة الأفيونات ليست سهلة ولن تكون كذلك، ولم تنجح أي دولة في وضع خطة للقضاء عليها تماما، لكن من الضروري وضع استراتيجية شاملة للحد منها قدر الإمكان. يمكن أن يساعد تحسين برامج مراقبة الوصفات الطبية في تتبع وصفات الأفيونات وتنظيمها، مما يقلل أخطار إساءة الاستخدام. ويمكن أن تشمل هذه البرامج قواعد بيانات تتعقب الوصفات الطبية لمختلف مقدمي الرعاية الصحية والصيدليات، مما يضمن عدم حصول المرضى على وصفات متعددة من مصادر مختلفة.

السياسات التنظيمية الصارمة المتعلقة ببيع الأفيونات وتوزيعها، بما في ذلك تشديد القيود على شركات الأدوية ومقدمي الرعاية الصحية، يمكن أن تمنع الإفراط في وصف الأدوية والمبيعات غير المشروعة. ويمكن أن تشمل هذه اللوائح قيودا على كمية الأفيونات التي يمكن وصفها في وقت واحد، والتدريب الإلزامي لمقدمي الرعاية الصحية على أخطار وصف الأفيونات، وتوقيع عقوبات صارمة على من ينتهكون اللوائح.

لينا جرادات

إن حملات التوعية العامة ضرورية لتعريف الجمهور بأخطار إساءة استخدام الأفيونات وعلامات الإدمان، بغية تقليل الطلب عليها ومنع إساءة استخدامها. كما يمكن أن يكون لإدراج التوعية عن أخطار إساءة استخدام الأفيونات في المناهج الدراسية للمدارس والجامعات دور مهم. ويمكن أن يزود الشباب معلومات أفضل عن أخطار إساءة استخدام الأفيونات وعواقبها قبل أن يواجهوا تلك المواد. وللعائلات دور حاسم أيضا، إذ يمكن أن يعزز التواصل المفتوح والتوعية داخل المنزل الرسائل المتلقاة في المدرسة وفي الحملات العامة. ويستطيع الآباء بمناقشة أخطار الأفيونات مساعدة أبنائهم في اتخاذ قرارات مستنيرة وتجنب الوقوع في فخ الإدمان.

علاج الإدمان وإعادة التأهيل

كما أن توسيع نطاق الوصول إلى خدمات علاج الإدمان وإعادة التأهيل، بما في ذلك العلاج بمساعدة الأدوية، يمكن أن يساعد من يعانون من الاعتماد على الأفيونات في التعافي وإعادة الاندماج في المجتمع. ويعد العلاج بمساعدة الأدوية، وتقديم المشورة والعلاج السلوكي، المعيار الذهبي لعلاج إدمان الأفيونات. ويمكن أن تساعد زيادة توفر العلاج بمساعدة الأدوية في تقليل عدد حالات الجرعات المفرطة والوفيات ذات الصلة بالأفيونات.

السيطرة على تجارة الأفيونات ليست سهلة ولن تكون كذلك، ولم تنجح أي دولة في القضاء عليها تماما، لكن من الضروري وضع استراتيجية شاملة للحد منها قدر الإمكان

ويساعد تطوير أنظمة دعم قوية للأفراد في مرحلة التعافي، مثل تقديم المشورة والتدريب الوظيفي والخدمات الاجتماعية، في نجاحهم على المدى الطويل ويمنع الانتكاس. كما أن تعزيز قدرات الهيئات الموكلة بإنفاذ القانون على مكافحة تجارة الأفيونات غير المشروعة، بما في ذلك تزويدها بتدريب ومعدات أفضل، يمكن أن يقلل الأفيونات غير المشروعة المعروضة. ويشمل ذلك زيادة عدد ضباط إنفاذ القانون المكلفين مكافحة المخدرات، وتوفير تدريب متقدم على كشف شحنات المخدرات واعتراضها، وتزويد الضباط بأحدث التقنيات لتتبع عمليات الإتجار بالمخدرات والتحقيق فيها.

أ.ف.ب
أقراص مسكن الألم الأفيوني أوكسيكودون التي تم تسليمها بناء على وصفة طبية تم تناولها في 18 سبتمبر 2019 في واشنطن العاصمة

ويمكن أن يساعد التعاون مع الهيئات الدولية والدول المجاورة للتصدي لتجارة الأفيونات العابرة للحدود في السيطرة على تدفق المخدرات غير المشروعة إلى داخل المنطقة وخارجها.

إن الاستثمار في البحث وجمع البيانات عن استخدام الأفيونات وإساءة استخدامها والإدمان أمر بالغ الأهمية للاسترشاد بها في اتخاذ القرارات المتعلقة بالسياسات وتوجيه التدخلات بمزيد من الفاعلية. كما أن إجراء دراسات مفصلة بشأن التأثير الاقتصادي لإساءة استخدام الأفيونات في الشرق الأوسط يمكن أن يبرز الأهمية الشديدة للقضية ويبرر تخصيص الموارد لمكافحتها. ويمكن أن تساعد البحوث أيضا في تحديد أكثر الاستراتيجيات فاعلية للوقاية من إدمان الأفيونات وعلاجها، مما يضمن استخدام الموارد بطرق أشد تأثيرا.

يستطيع الشرق الأوسط بتنفيذ هذه الاستراتيجيات السيطرة على تجارة الأفيونات، وتخفيف العبء الاقتصادي للإدمان، وحماية الصحة العامة. ويشكل تحقيق التوازن بين الاستخدام الطبي المشروع للأفيونات وتدابير الوقاية من إساءة استخدامها أمرا حاسما لضمان جودة حياة الأفراد والمجتمع الأوسع. والهدف هو إتاحة تسكين الألم لمن يحتاجون إليه مع تقليل أخطار الإدمان وإساءة الاستخدام، مما يخلق مجتمعا أكثر أمانا وعافية للجميع.

font change

مقالات ذات صلة