الحب في الزمن الصعب... كيف تغيّر مفهوم الرومانسية في الأفلام الجديدة؟https://www.majalla.com/node/322767/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D8%A7%D9%84%D8%AD%D8%A8-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%B2%D9%85%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B5%D8%B9%D8%A8-%D9%83%D9%8A%D9%81-%D8%AA%D8%BA%D9%8A%D9%91%D8%B1-%D9%85%D9%81%D9%87%D9%88%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%B1%D9%88%D9%85%D8%A7%D9%86%D8%B3%D9%8A%D8%A9-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D8%A3%D9%81%D9%84%D8%A7%D9%85-%D8%A7%D9%84%D8%AC%D8%AF%D9%8A%D8%AF%D8%A9%D8%9F
من العسير أن نضع تعريفا محددا للحب في زمننا، في ظلّ التحولات التكنولوجية المتسارعة، والحروب التي تندلع يوميا حول العالم، مع عودة الأوبئة وضحاياها، مقابل زيادة الطلب على محتوى التنمية الذاتية والتحليل النفسي، في جميع اللغات ومن مختلف الثقافات. ذلك كله وأكثر، تغيّر بلا شك مفهوم الحب وتغيرت طرق التعبير عنه.
السينما التي طالما عكست صورة وردية لاثنين في حالة حب، أو سوداوية كئيبة حين يفقد أحدهما الآخر، لم تستسلم أمام هذه التغيّرات بل سعت إلى مواكبتها. في الأصل، تُعدّ الأفلام الرومانسية أرسخ الأنواع التي بدأ بها فن السينما علاقته الحميمة مع الجمهور، فلا حلم أجمل من حلم الحب، يمكن بيعه لنا كمتفرجين مبهورين، لنعيشه مؤقتا على الشاشة. من السينما الأميركية، ما زلنا نتذكر على سبيل المثل "ذهب مع الريح"، و"تايتانيك". وحتى في السينما المصرية، وهي سينما أكثر تحفظا في التعبير عن الغرام، نتذكر "أغلى من حياتي" و"حبيبي دائما".
في السنوات الأخيرة، لم تعد الرومانسية فنجان السينما المصرية المفضل. تأتي قصة الحب ثانوية في سياق الأحداث، إذ ترتبط أهداف البطل (لأن معظم الأبطال حاليا من الذكور!)، بالتوسع الطبقي والاجتماعي والمادي، ومن بين هذه الأهداف يأتي اقترانه التكميلي بالبطلة. مع ذلك، لا تزال أفلام رومانسية قليلة، بين حين وحين، تخطب ود المراهقين، وتتوسل بمطربيهم المحبوبين. والنتيجة أنه لم يعد في إمكاننا تقريبا مشاهدة أفلام رومانسية بالمعنى الذي عرفناه من قبل. على الضفة الأخرى، لا تزال السينما الأميركية تُنتج هذا النوع وبغزارة، مخاطبةً المستويات كافةً من مراهقين وناضجين، ولا تزال تحقق إنتاجاتها أرباحا ضخمة على مستوى شباك التذاكر العالمي.
كلا الفيلمين يحقق نجاحا ملحوظا في شباك التذاكر ويجذب جمهورا متشوقا لتذوق حب سينمائي ما
أخيرا، استقبلت دور العرض المصرية فيلم "عاشق"، من بطولة أحمد حاتم وأسماء أبو اليزيد. وطُرِح الفيلم في لحظة تشهد نجاحا جماهيريا ملحوظا لآخر مشاركات حاتم الفنية في مسلسل "عمر أفندي". العنوان "عاشق"، وفي الملصق حاتم يمسك بيد أسماء، وسط البحر، بينما السحب تظللهما، يشيران إلى تحديات ضبابية أمام قصة الحب التي يُفترض أنها تجمع بينهما.
أما فيلم "ينتهي معنا" It ends with us، فمقتبس من رواية رومانسية ذائعة الصيت بالعنوان نفسه للكاتبة الأميركية كولين هوفر. باعت الرواية ما لا يقل عن أربعة ملايين نسخة في الولايات المتحدة وحدها، وتحكي حياة "لي لي بلوم" المتعاطفة المفرطة الرومانسية، والمحبة للزهور، كما يُخبرنا الملصق، وسيقلب الحبّ حياتها رأسا على عقب مرتين، ويواجهها بشروخ ذاكرة الصدمة التي أورثها إياها أب طاغية وأم مستسلمة.
كلا الفيلمين يحقق حاليا نجاحا ملحوظا في شباك التذاكر، ويجذب جمهورا متشوقا لتذوق حب سينمائي ما. يتصدر "عاشق" شباك التذاكر المصري حاليا، بينما يحصد الأميركي "ينتهي معنا" أرباحا بمئات الملايين حول العالم. فكيف جاء تشخيص الحب، إذن، بين الفيلمين؟
"عاشق"... أشباح الحب وظلاله
من تأليف محمود زهران وإخراج عمرو صلاح، يأتي "عاشق"، الذي يبيعنا إعلانه الترويجي فيلما مختلفا إلى حد ما، عن ذلك الذي يمكننا مشاهدته فعلا في القاعة المظلمة. يوحي مصطلح "عاشق" إلى جانب الحب الذي يحمله البطل، بقصص الجن العاشق، التي راجت لفترة طويلة، ولا تزال تحفظها الذاكرة الشعبية، عن حكايات حب خارقة بين بشر وكائنات من العالم السفلي. استثمر "الإنس والجن" 1985، من تأليف محمد عثمان، وإخراج محمد راضي لعادل إمام ويسرا، في هذه الثيمة، وهو أحد أعمال قليلة في نوع الرعب المصري. ربما يذكّرنا "عاشق" بهذا النوع من القصص، لكن هذا التذكر ليس كل ما يقدِّمه فيلم يعلن أصحابه انتماءهم إلى عصر آخر، سواء في فهمهم للسينما، أو حتى في فهمهم للحب.
ينهض "عاشق" على حبكة ملتوية، يمهد لها المخرج منذ بداية الأحداث بزرع شذرات من الماضي، في ثنايا مشاهد الفيلم، القصير نسبيا. والواقع أن الحبكة الملتوية، هي حيلة سينمائية رائجة جدا في إنتاجات السينما المصرية الجديدة. على هذا الالتواء تنهض مثلا سلسلة أفلام "ولاد رزق"، الأنجح في شباك التذاكر المصري في السنوات الأخيرة. ويسعى صُنّاع هذا النوع عادة إلى تضليل المشاهد عبر جرّه إلى توقع معين لتطور الأحداث، بينما يقع التطور في مسار آخر يُذهِل المتفرج. المشكلة فقط أن بعض هذه الأعمال تفقد الكثير من بريقها، حين ينكشف لجمهورها السرّ. مما يجعلها أفلام صالحة لمشاهدة واحدة لا أكثر، لا سيما أن "عاشق" تحديدا، يُفرِط فصله الأخير، في شرح تفاصيل الحيلة.
مع ذلك، فإن الاتجاه المخالف الذي يسلكه "عاشق"، والذي ينقله بطبيعة الحال من خانة الرعب الرومانسي، إلى الإثارة والتشويق، يحميه من اتهامات الدجل التي كان يمكن أن تلاحقه، لو أنه قدَّم فيلما على منوال "الإنس والجن" ولو بجرعة حب أكبر. السؤال المنطقي الذي يطرح نفسه بعد المشاهدة: هو أين الحب من هذه القصة؟ أين العشق، الذي أخبرنا به العنوان؟ أين مسكة اليد الرقيقة بين حبيبين؟
تنتصر أشباح الماضي والضغينة والرغبة السوداء في الانتقام على كل ما سواها، وربما حتى على أحلام المشاهدين في الفرجة على قصة تبعث الأمل في المستقبل
يبدأ "عاشق" من لحظة يكون فيها الحب المزعوم قد تشكّل فعلا ورسخ بين الحبيبين، من دون أن نراه، يبدو تحصيلا حاصلا. نفهمه من الأغنيات المختارة لتوصيل مزاج الحب، ونرى الطبيب النفسي مالك (أحمد حاتم)، يقرر مخالفة لأخلاق مهنته، أن يتزوج من مريضته فريدة، التي لم يملك إلا أن يقع في حبها، وأن يقبل أخطاءها، التي اختصته للاعتراف بها. وذلك على الرغم أيضا من كوابيسها وهلوساتها، والعلاج الدوائي الذي ينبغي أن تلتزمه. في إقدام مالك على الزواج بفريدة، ليس فقط مغامرة غير محسوبة بمستقبله المهني لأجل هذا الحب الذي يعبِّر عنه بكلمتي استسلام: "حبيتها... حبيتها"، لكنها أيضا مغامرة بالدخول معها إلى هذا العالم المظلم الذي تتخبط فيه وحدها ويدفع أباها (محسن محيي الدين)، للاستعانة بشيخ (سامي مغاوري) كي يُبعِد ما يتصوّر أنه هذا الجن العاشق عن ابنته.
إننا نتساءل مثل فريدة نفسها، إن كان هذا الحب حقا موجودا في قلب مالك؟ وهل لا يزال هناك من يبيع كل العالم من أجل أن يشتري محبوبه؟ شاهدنا هذا في الأفلام القديمة. الإجابة الجديدة تأتي للأسف هنا بالنفي. تنتصر أشباح الماضي والضغينة والرغبة السوداء في الانتقام على كل ما سواها، وربما حتى على أحلام المشاهدين في الفرجة على قصة تبعث الأمل في المستقبل. "عاشق" هو فيلم قريب الشبه من عالمنا الذي يقاتل بعضه بعضا، بمزاعم وأعذار شتى، لكنها جميعا تلغي احتمال الحياة، وتنتصر للظلام والموت. النقطة التي كان يمكن أن يصير بعدها "عاشق" فيلما ثالثا، لا الذي باعه لنا الإعلان، ولا الذي شاهدناه فعلا، هو التركيز على الظلال التي تلقيها صدمات الطفولة على حياة الشباب، على خياراتهم الحياتية والعاطفية، على وقوعهم في أسر الإدمان والسلوكيات المدمرة للذات والآخرين، لا سيما حين تتصل بعلاقة عنيفة ومؤذية بين الأب والأم. صحيح أن صُنّاع "عاشق"، لا يستثمرون كثيرا في هذا التحليل النفسي، إنما يركزون على كيف سيبهرون المشاهد بحبكتهم الملتوية، إلا أن الفيلم بشكل عام يقدِّم نظرة بانورامية لعالم فريدة كنموذج لضحية العنف الأسري، مما سمح لأسماء أبو اليزيد بتقديم أداء حساس، وكذلك تحسّن الأداء التمثيلي لأحمد حاتم، مقارنة بما شاهدناه في "عمر أفندي".
"ينتهي معنا"... رومانسية بلا أوهام
يقدِّم "ينتهي معنا" كل ما يحلم به أي محبّ للأفلام الرومانسية الأميركية. نظرات غرام، وقبلات، وممارسة للحب. يقدِّم أيضا شابا يعترف أنه غير قادر على الخوض في علاقة طويلة هو رايل (يؤدي دوره مخرج الفيلم جوستين بلدوني)، وشابة جميلة وحذرة هي لي لي بلوم (بليك ليفلي)، تقرر الابتعاد عن هذا الجرّاح الوسيم والصريح، لأنها ترى كما تقول له "إنك تفوت شيئا جميلا"، فيكون لنا بعد ذلك أن نتابع هذه المراوحة المثيرة، بين رغبتها في الفرار، التي تجعلها مرغوبة أكثر في عيني الطبيب، وبين تمسّكه هو بها، وقراره تغيير حياته القديمة من أجلها.
مع ذلك، فإن ما يجعل "ينتهي معنا" فيلما مهما، هو بالضبط قدرته على الحديث عن الصدمة العابرة للأجيال، ومجددا، مثل "عاشق" عن تأثير عنف الأب الجسدي تجاه الأم، هذه المرة بتركيز أكبر، على حياة الابنة لي لي بلوم، التي تتصوّر أن كنز علي بابا انفتح أمامها، بمجرد أن وقع في غرامها شاب ناجح وثري. لكن يباغتنا كما يباغتها الماضي، الذي لا يختفي هكذا من تلقاء نفسه، بل يعاود الظهور والتجسّد طالما لم يواجَه. وهي فكرة تجعل من "ينتهي معنا"، الطويل نسبيا، إذ يتجاوز زمنه الساعتين، فيلما رومانسيا ناضجا، لا يرى صُنّاعه أن الحب يصلح كل شيء.
مثل "عاشق" أيضا، يلعب شريط الصوت والأغنيات دورا في تحقيق مزاج الحب بين الاثنين. وتضيف ملونة الألوان الخريفية، لمسة من خصوصية لعالم "ينتهي معنا"، المنتظر من عشاق الرواية المقتبس عنها. ومع أن العلاقة تُبنى هنا منطقيا، على العكس من "عاشق"، بين لي لي ورايل، أي إنها تنشأ وتتطور أمامنا، إلا أن نقصا محسوسا يكتنف هذا الحب. فهل هو تأثير العصر، عصرنا، غير المُصدِّق في الحب؟ أم هو ماضي رايل، ومعتقداته، التي لم تجعله صادقا تماما في نزوعه العاطفي؟
على أي حال، يحتوي "ينتهي معنا" على حبكة ملتوية، مثله مثل "عاشق". حققها المونتاج من خلال القطع في بعض المَشاهد، التي يكشف استكمالها في الربع الأخير من الفيلم، عن رؤية مغايرة لما يحدث في العلاقة بين الحبيبين، وهي رؤية كانت عصية على الإدراك حتى على لي لي بلوم نفسها. من ناحية أخرى، مهّد السيناريو من تأليف كريستي هال، لظهور الرجل الثاني أطلس (براندون سكلنار)، في حياة لي لي، والذي ليس سوى رجلها الأول. عبر خيط الماضي الذي يتغلغل وسط الحاضر، كأنما يعيد لا وعي لي لي تركيب ذاكرة قديمة، ومؤثرة بشدة على الحاضر. كما لي لي تعرّض أطلس، لعنف أسري وهجران من جانب الأم، وقد نسج المراهقان معا، حياة سرية موازية لمرارات حياتهما الماضية، وتركا رغم القسوة، ذكريات نقية لأحدهما الآخر.
الواقع أن العلاقة كما جسدها المراهقان لي لي وأطلس (أداهما الممثلان إيزابيلا فيرير وأليكس نيوستيدر)، تبدو أصدق وأجمل من العلاقات التي يُنشئها الكبار في الفيلم. وتظهر شخصية أطلس، كنموذج مناقض لا فقط للوالد العنيف، إنما كذلك للحبيب الحالي رايل، فهو واعٍ أكثر بجراحه.
الحب كعصا سحرية، لم يعد له وجود. لم تعد نظارة الحب "عمياء"، كما يقول المثل الشعبي، ولا عادت أفلامه كذلك
صحيح أن تقاطع لي لي بلوم، مع أطلس، ثانية في حياتها، وهي الآن شابة في عقدها الثالث، تفتتح عملها الأول (محل لبيع الزهور) بعد عشرين عاما تقريبا من لقائها الأول به، ينهض على المصادفة، التي تكثر في الفيلم، إلا أن هذا الظهور للحبيب الأول يحافظ على الطابع الحالم لفيلم، كان يمكن أن يصير أكثر كآبة لو طابق حياتنا، حين نضطر إلى الاستغناء تماما عن الحب والعودة إلى وحدتنا.
تقول كاتبة الرواية إنها استلهمت "ينتهي معنا" من تجربة والدتها مع زوج مسيء، تركت أثرا لا يُمحى في ذاكرة الابنة الكاتبة. على أي حال، يبدو أن الحب القديم الذي كان يصنع المعجزات، الحب كعصا سحرية، لم يعد له وجود. لم تعد نظارة الحب "عمياء"، كما يقول المثل الشعبي، ولا عادت أفلامه كذلك.