عن خيبات الروح في "خدعة همنجواي" لأحمد مجدي همام

حين يصطدم الفرد بقسوة الواقع

AlMajalla
AlMajalla

عن خيبات الروح في "خدعة همنجواي" لأحمد مجدي همام

في أحدث أعمال الروائي والقاص المصري أحمد مجدي همام الموسوم "خدعة همنجواي" ( دار العين 128 صفحة)، تتأرجح القصص القصيرة كأوراق شجر في عاصفة، لتكشف عن هشاشة النفس البشرية وتحديات الحياة القاسية. فمن خلال 12 قصة، ينسج همام لوحة أدبية عكست تصادم الإنسان مع واقعه القاسي وتيهه في خيبات لا تنتهي، مترجما من حيث لا يدري عقيدة توماس مورتون في كتابه "بذرو التأمّل" القاضية بأن "الحياة تتطلب من كل شخص أن يفعل أكثر من مجرد البقاء على قيد الحياة"، ذلك أن "كل حدث في حياة كل إنسان على الأرض يزرع في روحه شيئا ما"، يضطرها إلى التغير، مما يعكس في الوقت ذاته بشاعة تعقيدات الوجود الإنساني وجمالاته وصراعاته المستمرة.

في قصة "أزمة اقتصادية"، يكتب همّام الألم بألم ينتقل تلقائيا إلى قارئه، كاشفا عن وجهه الحقيقي في التفاصيل الصغيرة، حيث تُظهر القصة كيف أن السبيكة الذهبية التي يحملها البطل ليست مجرد مادة، بل هي رمز للأمل الضائع في عالم من الضغوط المالية.

يُظهر لنا همام كيف تتداخل الأحلام مع الواقع في صورة مشوشة، معبرا عن ذلك بعبارة قوية: "التضخم يأكل كل شيء إلا الذهب". تجسد هذه العبارة الازدواجية بين الأمل والمادية، حيث يصبح الذهب الجسر الذي يحاول البطل عبوره نحو النجاة، لكنه يدرك في النهاية أن هذا الجسر لن يمكّنه من الهروب من الأزمات.

استكشاف الألم الداخلي

في قصصه، يتعامل همام مع كلماته كأنها عمليات جراحية مفتوحة على أرواح أبطاله. أسلوبه يشبه موج البحر الذي يتصاعد ببطء، ثم يرتطم بالساحل فجأة، ليترك القارئ عاريا أمام تساؤلاته، فالكاتب هنا لم يمهد لقصصه كما اعتاد أن يفعل التقليديون، بل ألقى بقرائه مباشرة في خضم الحدث، من دون إضاعة الوقت، مما جعل سرده يتدفق مثل نبضات القلب المتسارعة، فارضا على كلماته أن تندمج مع الزمن، سعيا منه ليوضح أنه صاحب أسلوب مبتكر، وأن لا غاية له من كتاباته إلا أن يكتب ولو لمرة واحدة كتابا يكون عصيا على الوقت، بحيث يستمر في مرافقة الإنسان ما دام هذا الأخير يملك روحا.

تتأرجح القصص القصيرة في "خدعة همنجواي" بين الحقيقة والخديعة، بين ما نعيشه وما نحلم به

هكذا اختار الكاتب في سعيه لتحقيق هذه الغاية، لغة تتميز بعمقها وثرائها، فتمكن من رسم مشاعر شخصياته وتشكيل أفكارها بوضوح وجاذبية، مازجا بين اللغة اليومية والمصطلحات الأدبية، مما جعل نصوص قصصه قريبة من القارئ، محتفظة بعمقها الفني، على غرار ما نجد في قصة "فلسفة النار"، حين أبرز شعور الإحباط لدى بطل قصته من خلال استخدامه وصف النار كرمز للانهيار الداخلي، يكتب: "النار تأكله من الداخل، كأنها تعكس كل آلامه ومخاوفه". هنا، تتضح قوة اللغة كأداة تعبير عن الصراعات الداخلية.

shutterstock

كما أن استخدام الكاتب للأسطورة في قصة "النقطة الزرقاء" يضفي طابعا فلسفيا على الكتابة، حيث تمثل النقطة تلك الأبعاد المجهولة من الوجود التي يسعى الشخص للعثور عليها. هذا يعكس فهمه العميق للموضوعات الإنسانية المعقدة، ويؤكد فكرة أن الحياة مليئة بالأسئلة التي لا نجد لها إجابات واضحة. يمكن اعتبار لغة همام أداة تعبير قوية تساهم في خلق جو من التوتر والحساسية، مما يعزز تأثير النص على القارئ، فكما يقول نيتشه: "من لا يستطيع أن يجد الكلمات المناسبة، لا يمكنه أن يعبر عن الوجود نفسه".

صراعات متجددة

في عمق القصص، تتفتح موضوعات تتناثر مثل أزهار على شاطئ الحياة، فتأخذنا من الغربة الروحية إلى الأزمات الاقتصادية، ومن الألم الوجودي إلى البحث عن الذات في عالم يتغير بسرعة.

نجد في قصة "أزمة اقتصادية" صورة قاتمة لرجل يتأرجح على حافة الانهيار، يعيش حياته بين الديون والأمل المتآكل، وتصبح السبيكة الذهبية التي يحملها رمزا للهروب من هذا العالم المليء بالتناقضات. لكن ما يبقى في نهاية المطاف هو السؤال الوجودي العميق: هل يمكن أن نحتمي بالذهب من ضياع الروح؟ هل المال قادر على إنقاذ الإنسان من العدم؟

shutterstock

أما في "فلسفة النار"، فيروي همام قصة سعيد، الذي يحرق نفسه كتعبير عن عجزه في مواجهة واقعٍ يعصف به. سعيد ليس مجرد شخصية عابرة، بل هو تجسيد للإنسان الذي يحترق داخليا قبل أن يُحرق خارجيا، وكأن النار التي تأكله هي انعكاس لاحتراقه النفسي المستمر. هنا، يعبر الكاتب عن الألم الوجودي من خلال صور نارية، تُحاكي في صخبها صوت الإنسان المتألم الذي لا يجد من يسمعه في هذا العالم.

من الصعب ألا يتأمل القارئ النقطة الزرقاء التي تنبثق في قصة "النقطة الزرقاء"، كأنها لحظة من الضوء المتوهج في بحر الظلام. النقطة التي تتراقص على جدار حياة البطل، هي رمز للحلم، للجنون، للحقيقة المراوغة التي تطارد الإنسان في كل لحظة. همام يجعل من تلك النقطة نافذة على أعماق الروح، فهي تبدأ بريئة وبطيئة، ثم تتسارع، تتسارع حتى تتحول إلى عاصفة تبتلع البطل، وتتركه تائها بين الواقع والهلوسات. النقطة الزرقاء هنا هي كناية عن الأسئلة الكبيرة التي لا نجد لها جوابا، عن ذلك الوميض الذي يلاحقنا لكنه يتوارى كلما اقتربنا منه.

هذه النقطة الزرقاء كناية عن الأسئلة الكبيرة التي لا نجد لها جوابا، عن ذلك الوميض الذي يلاحقنا لكنه يتوارى كلما اقتربنا منه

شخصيات أحمد مجدي همام لا تعيش فقط على الورق، بل تنبض بين السطور، تبحث عن الخلاص وسط متاهة الوجود. همام لا يُقدم لنا أبطالا منتصرين، بل يُسقط الضوء على المهزومين، المقهورين، الذين يعيشون في هامش الحياة.

في "الغائر الصوت"، نجد الشخصية التي تتصارع مع فكرة العودة إلى الإيمان بعد انقطاع طويل. بطل القصة الذي يقف في منتصف الطريق بين اليأس والخوف، يحاول أن يجد طريقا إلى السلام الداخلي من خلال الصلاة، لكنه في كل خطوة يشعر بوطأة الفشل، وكأن العودة إلى الذات أصعب من التوبة نفسها.

يختار همام شخصياته بعناية، فيجعل منها رموزا إنسانية تعبر عن هشاشة النفس البشرية. هذه الشخصيات لا تبحث عن النجاح، بل تحاول النجاة فقط، في عالمٍ مليء بالعقبات والخسارات. بطل قصة "أزمة اقتصادية" هو مثال صارخ للإنسان الذي يفقد السيطرة على حياته، ويجد نفسه غارقا في دوامة من التحديات المالية والاجتماعية التي لا يستطيع تجاوزها. هذا النوع من الشخصيات يجعل القارئ يتماهى معها، يشعر بآلامها وتطلعاتها، مما يمنح النصوص بُعدا إنسانيا عميقا.

shutterstock

أحلام محطّمة

تحمل المجموعة نقدا عميقا للمجتمع المعاصر، ففي كل قصة نجد لمحة من واقع اجتماعي أو سياسي يُثقل كاهل الأبطال. يعبّر همام عن قضايا اجتماعية واقتصادية من خلال قصص شخصية تبدو بسيطة في ظاهرها، لكنها مليئة بالتعقيدات الداخلية. في "صدقة"، على سبيل المثل، نجد نقدا لفكرة العطاء المجتمعي، وكيف يمكن أن يتحول الفعل الخيري إلى مجرد استعراض أو استغلال. المتسول الذي يظهر في القصة ليس فقط شخصا يطلب المال، بل هو رمز لفئة كاملة تعيش على هامش المجتمع، ضحية للسياسات والتوجهات التي لا تأبه بمصيرهم.

وتتجلى فلسفة الحياة والموت بوضوح في "فلسفة النار"، حيث تصبح النار رمزية للفناء والاحتراق الداخلي الذي يعاني منه سعيد. يحاول البطل أن يتماهى مع النار، ويهرب من قسوة الحياة، لكنه يجد نفسه في النهاية مجرد رماد، تماما كما تتحول الأحلام والتطلعات إلى لا شيء. همام هنا يقدم رؤية فلسفية سوداوية عن المصير الإنساني، في عالم يتخلى فيه الناس عن إنسانيتهم في سبيل البقاء.

شخصيات أحمد مجدي همام لا تعيش فقط على الورق، بل تنبض بين السطور، تبحث عن الخلاص وسط متاهة الوجود

مجموعة "خدعة همنجواي" ليست مجرد مجموعة قصصية عابرة، بل هي تأمل عميق في طبيعة الحياة البشرية وصراعاتها، فقد نسج أحمد مجدي نصوصا تحمل في طياتها نقدا اجتماعيا وفلسفيا عميقا، وتبرز بمهارة الحيرة الإنسانية أمام تحديات العصر، فالأبطال الذين يقدمهم همام لا يسعون إلى النصر، بل إلى النجاة، وسط عالم يضيق بهم يوما بعد يوم. ومع كل قصة، نجد أنفسنا نسقط في دوامة من التساؤلات حول الخسارة، الحب، والفشل، مما يجعل هذه المجموعة علامة فارقة في الأدب العربي المعاصر.

"خدعة همنجواي" ليست فقط مجموعة قصص، بل هي مرآة لأرواحنا التي تتأرجح بين الواقع والحلم، بين الأمل والخسارة، ونحن نمضي في طريق مليء بالخدع والتناقضات، في رحلة لا نعرف لها نهاية.

font change

مقالات ذات صلة