صار الكلام السياسي والتفكير السياسي وكل ما يتصل بالسياسة في بيروت- وفي لبنان استطرادا- مجرد لغو خالص، وضربٍ من المشقة والغثيان يضاعفان الاختناق العام والشخصي. وربما العزلة والانكفاء على النفس والصمت، وعلى القليل القليل من الكلمات الحميمة والأشخاص الحميمين، وأشباح الذكريات، هنا أو في البلاد البعيدة، هي ما تبقى من حياة تتضاءل وتتلاشى يوما بعد يوم. كأنما الكآبة والحداد صارا مصدر المقدرة على الاستمرار في مكابدة العيش.
فهل تحملنا هذه الأطنان من القنابل- نحن المنقادين والمتروكين لأقدارنا في مطحنة اللحم البشري بلبنان الممزّق والشريد كلقيط صغير بين البحر المتوسط وحضاراته القديمة، والبر الآسيوي الشاسع– على التفكير في هذا النوع المروع من القصاص المتساقط علينا من سماء صارت أصلب من الفولاذ؟ وهذا ما سبقتنا إليه غزة منذ أكثر من سنة، ولا تزال تضربها فصول العقاب، من دون أن يطلب منها أحد التوبة أو المغفرة.
وهنا في لبنان هل لدينا وسط اختناقنا، شللنا ورعبنا وهلعنا، أن نطلب المغفرة والتوبة، وممن نطلبها؟ وهل نعلم أصلا من نحن، ومن كنا، وفي أي بلاد نعيش، وهل لها تاريخ، أم إنها مجرد لطخة جغرافية وبشرية سقطت أو أسقطناها في هذه الهاوية؟
وربما تتساقط علينا أطنان القنابل لتنبعث دوامة الأحقاد والضغائن تلك التي سميناها سياسة وحياة سياسية. وهي تنبعث حيّة، طازجة وملتهبة، ما دامت متأرِّثة في ديارنا منذ دهر، ووحدها شكلت وتشكل نواة وعينا وعقلنا الاجتماعي والسياسي وفهمنا العالم.
نعم إننا نعيش في مطحنة لحم بشري. وقد يستحيل العثور على صفة أو تشبيه آخر لما حدث وينظرنا في كل يوم وليلة.
وهناك من يتضرع قائلا: يا ليتنا اكتفينا بمقاتل أحقادنا وضغائننا القديمة، ولم يورِّطنا "الحزب" الحاكم ويورِّط نفسه وأهله في زعمه "مساندة" غزة. وهنالك أيضا من يتحسر على الشهور الأولى من تلك "المساندة" التي كانت أشبه بنزهة استجمام حربية.
ربما تتساقط علينا أطنان القنابل لتنبعث دوامة الأحقاد والضغائن تلك التي سميناها سياسة وحياة سياسية
أما من ينفِّذ هذه المطحنة فهم أبناء وأحفاد من فروا ناجين من أعنف أقدار التاريخ الأوروبي الدموي الحديث. فروا إلى بلاد استعصى على أهلها وشعوبها تبصُّرُ مصيرهم ومصيرها، وخصوصا في لحظة تقاسم العالم بين إمبراطوريتي الحرب الباردة الدولية والقارية. وإحدى هاتين الإمبراطوريتين تبنّت أولئك الناجين كأنهم ولدوا من رحمها، ووحدهم أيتام التاريخ القومي في العالم.
والبلاد المضطربة التاريخ والمصير– وهي التي فرَّ إلى شطر منها أولئك الناجون من محرقة التاريخ الأوروبي والعالمي القومي الحديث- تضاعف غرق شعوبها في دوامات من الكلام الحماسي واليأس والضياع والعُظام الإمبراطوري الآفل، وفي زوابع من الحروب الأهلية.
ومنفذو مطحنة اللحم البشري في غزة ولبنان، زودهم العقل البشري البارد بأحدث تقنياته اللامتناهية الدقة والمعادلات الرياضية الصمّاء والمحنّطة بالرخاء والسعادة. لكنهم أضافوا إلى هذا كله أقدم أساطير الخلاص الديني، أشرسها وأشدها إرادة وقوة دموية وصلافة حربية، عقب الحرب العالمية الثانية.
أخيرا، وبعدما حوّل أولئك الخلاصيون أسطورتهم تلك إلى قوة تفوق قوة الواقع أضعافا مضاعفة، سجنوا 2,5 مليون فلسطيني في الجهل والفقر والتيه في غزة. ثم نسوهم، وانصرفوا مهجوسين بالكشف عما يفعله "حزبٌ" طوّر في لبنان أحدث عقيدة خلاصية رفعت الحدود بين الحياة والموت، الوجود والعدم.
وهو "حزب" ممتلئ صلفًا وحيوية هذيانيين، أرغما الجماعات اللبنانية على الرضوخ والاستسلام له بالقوة، بعدما أرهق لبنان ومزّقه وأفقره. لكن ذاك "الحزب" لم يكتفِ بمثل هذا البلد الصغير المشؤوم، بل حوّله قاعدة خلفية للتوغل في سوريا والعراق واليمن، بعدما تركتها تتمزّق وتغرق في حروب أهلية أقدارٌ دولية، أثناء انتفاضات شعوبها على أنظمتها التسلطية والديكتاتورية المزمنة.
وكان "الحزب" اللبناني الخلاصي "على طريق القدس" في أشد لحظات نشوته انتصارا أثناء مشاركته النظامَ السوري وإيران وروسيا وتركيا في نتفيذ المذابح السورية شبه الدولية. أما غزة المنسية- وقد تكون أكبر سجن بشري في التاريخ- فكانت الحركة التي تحكم سجنها حكمًا مافياويًا تسلطيًا، تطوّر بدورها عملًا خلاصيًا داميًا. وذلك في غفلةٍ من أشرس "دولة" استعمارية تخلط جبروت سلطان قوتها التكنولوجية الفولاذية الملتهبة والجليدية، بأقدم أسطورة دينية خلاصية في التاريخ.
والأفظع من هذا أن العالم الغربي تبنى هذه "الدولة" كطفلٍ، بل كغول مدلّل في الشرق الأوسط. وهذا ما يستحيل فهمه إلا على المنجمين:
بثقافته العقلانية والعلمانية قطع الغرب دابر كل ثقافةٍ سياسية دينية أو غير دينية خلاصية، وأخرجها من ثقافته الدنيوية. لكنه في المقابل يجرّم كل كلمة تحاسب غوله المدلّل على أفعاله التي تمزج العمل الاستعماري بأحدث التكنولوجيات الحربية في "دولة" دينية تتبنى أقدم الأساطير الدينية في التاريخ.
ويستمر الغول الأسطوري المدلّل لدى الغرب في طحن اللحم البشري في غزة، رغم الإجهاز على يحيى السنوار، صاحب البطولات الأسطورية والخرافية لحركته. لكن أخبار غزة تكاد تُطوى، لتبدأ الأناشيد والأغاني الملحمية التي تناجي السنوار. وهي تصلنا ربما بأجمل صوتي شابين يمنيين شجيين- حتى تطفح العيون بدموع الألم والعذاب والعذوبة والاختناق- وهما يغنيان ملحمة السنوار الأسطورية من يمن عبد الملك الحوثي.
وها هو لبنان يقترب رويدا رويدا من السقوط في المطحنة إياها، منذ الإجهاز على حسن نصرالله، صاحب "الوعود الصادقة" و"الانتصارات الإلهية"، وسواها من الأساطير والخوارق.
والأرجح أن شعوبا عربية أخرى منذورة لهذا السقوط. وماذا نقول عن السودان المنسي والغارق في الدم من داخله منذ نحو سنتين؟ وعن ليبيا الأشد نسيانا ماذا نقول أيضا؟
وفي لبنان، هل لنا منفذ ما من هذه الهاوية، بصيص أمل أو ضوء نبصره حتى في مناماتنا الكابوسية؟
بعضنا يبصرُ في منامه أنه يقتتلُ مع نفسه. آخرون يبصرون أن وجوههم مشوهة. بعض من هم هناك وراء البحار– ونهنئهم ونحسدهم على نجاتهم- يغضبون محبطين ويمقتون أنفسهم لأنهم ليسوا هنا في الهوة...
الأرجح أن ما من مصير أحلك من هذا السواد. وها هم البشر في بيروت يتلاطمهم الرعب والهلع والشلل والعزلات والكآبة والاختناق، كأنما أيامهم كيوم الحشر. فمن في ذاك اليوم يقوى على الصبر والحلم في الاستماع إلى أحدٍ، بل إلى نفسه، ويتكلم ويفكر في السياسة؟
وربما صار السؤال ملحاً اليوم: ما السياسة؟