ضاحية بيروت الجنوبية... انهيار "اقتصاد الظل" اللبناني

يعيش أصحاب شركاتها ومصانعها اليوم نازحين مشردين يعاينون تهدم بيوتهم وأرزاقهم بألم وحسرة

إدواردو رامون
إدواردو رامون

ضاحية بيروت الجنوبية... انهيار "اقتصاد الظل" اللبناني

في الطريق إلى تدمير البنية العسكرية والأمنية والمالية لـ"حزب الله" في لبنان، دمرت الآلة العسكرية الإسرائيلية البنية الاقتصادية والاجتماعية، وجزءا كبيرا من المباني السكنية والمحال التجارية والمؤسسات الصناعية في ضاحية بيروت الجنوبية، التي يعتبرها الجميع عاصمة "حزب الله"، ومعقله السياسي والشعبي والأمني والمالي.

تعتبر الضاحية الجنوبية، ثاني أكبر تجمع بشري مدني الطابع في لبنان، بعد العاصمة بيروت، يقطنها نحو مليون لبناني، يضاف إليهم أربعمئة ألف سوري وفلسطيني. وعلى الرغم من توزعها الإداري على سبع بلديات، هي الشياح والغبيري وحارة حريك وبرج البراجنة والمريجة وتحويطة الغدير والليلكي، إلا أن النمو العمراني في الضاحية، المترافق مع النمو الديموغرافي، ألغى الحدود البلدية فيها، وصَهرَها في بوتقة جغرافية واحدة، شكَّلَت قاعدة صلبة، وبيئة سياسية متراصة، خلف الثنائي الشيعي، "حزب الله"، و"حركة أمل".

شكَّلَت ضاحية بيروت الجنوبية عند بداية توسعها منذ ستينات القرن الماضي، أحد أحزمة البؤس، التي طوَّقت بيروت يومها، نتيجة الهجرات الداخلية، وموجة التخلي عن الأرياف، والتطلع نحو فرص عمل واستثمار أفضل في المدن.

بنى الوافدون إلى الضاحية، قطاعات تجارية واقتصادية، تمكن بعضها من منافسة شركات وقطاعات رئيسة وتقليدية في بيروت، خصوصا تلك المؤسسات الناشئة التي كانت تحظى بشتى أنواع التسهيلات الحزبية والادارية الرسمية الجمركية والضريبية

وجاءت الحرب الأهلية (1975 – 1990) لتغذي توسّع ضاحية بيوت الجنوبية جغرافياً وديموغرافياً، بفعل تزايد النزوح من قرى الجنوب والبقاع إليها، هرباً من العنف الإسرائيلي حيناً، وبحثاً عن الأمان والتعاضد الاجتماعي والسياسي والفرص الاقتصادية حيناً آخر. وما لبثت أن تشكلَّت فيها طبقة وسطى، أخرجتها منذ بداية القرن الحالي، من الثوب الريفي الذي كانت عليه إبان الهجرة الأولى، ودفعت بها نحو الحداثة والإنماء، أسوة بسكان العاصمة، وتماهياً مع أقضية جبل لبنان المتاخمة.

منافسة اقتصادية وسيولة ومئة فرع مصرفي

بنى الوافدون إلى الضاحية الجنوبية، قطاعات تجارية واقتصادية، تمكن بعضها من منافسة شركات وقطاعات رئيسة وتقليدية في بيروت، خصوصا تلك المؤسسات الناشئة التي كانت تحظى بشتى أنواع التسهيلات الحزبية والادارية الرسمية الجمركية والضريبية. ومع دخول مال الاغتراب، الأفريقي منه تحديداً، إلى الدورة الاقتصادية فيها، تحولت ضاحية بيروت إلى مدينة مترامية، تملك مقومات العمل والاستثمار، في مختلف الميادين والقطاعات المنتجة، وان بشكل فوضوي وغير منظم، بناء على مخططات مدينية وحضرية.

أ.ف.ب.
كان مبنى في حي الرويس في الضاحية الجنوبية لبيروت، لبنان 1 أكتوبر 2024.

شجَّع فائض السيولة المالية والنشاط الإقتصادي في الضاحية المصارف اللبنانية على فتح نحو مئة فرع فيها، ساهمت في توفير تمويل لكثير من المشاريع التجارية والصناعية، التي توزعت في مختلف بلداتها، وباتت المهن والمتاجر الصغيرة والمتوسطة، عماد الأسواق الشعبية الرئيسة فيها، وهي شكلت، على عشوائيتها، متنفساً منافساً للأسواق المتاخمة والبعيدة، ومقصداً للمتسوقين من مختلف المناطق اللبنانية، نظرا الى فارق الأسعار مقارنة بمناطق أخرى.

الدور الاقتصادي والاجتماعي للمال الحزبي والسياسي، في بنية اقتصاد الضاحية الجنوبية، واضح لا سيما مع وجود نحو 50 إلى 60 ألف منتسب إلى "حزب الله" ضمن تشكيلاته السياسية والعسكرية واللوجستية والصحية والإعلامية المختلفة

لا سبيل أمام أي باحث جدي، التغاضي عن الدور الاقتصادي والاجتماعي الملموس للمال الحزبي والسياسي، في بنية اقتصاد الضاحية الجنوبية. إذ يُقَدِّر بعض الخبراء في السياسة والاقتصاد، وجود نحو 50 إلى 60 ألف منتسب إلى "حزب الله"، ضمن تشكيلاته السياسية والعسكرية واللوجستية، إضافة إلى المؤسسات الصحية والإعلامية والاجتماعية التابعة له، التي تحتاج نحو 70 إلى 80 مليون دولار شهرياً، يستفيد اقتصاد الضاحية الجنوبية من ثلث هذا المبلغ تقريباً، بسبب تمركز الأنشطة الرئيسة لـ"حزب الله" وقيادته فيها، وإقامة غالبية عائلات العاملين معه في نطاقها. 

مؤسسات "حزب الله" الرديفة في الضاحية

ليس خفياً على أحد أن "حزب الله" عمل منذ الثمانينات، على إنشاء مؤسسات رديفة وموازية للاقتصاد اللبناني مكّنته من بناء اقتصاد خاص به، منها "جهاد البناء" للمقاولة، وشركة "وعد" الإسكانية، ومؤسسة "القرض الحسن" وغيرها. لا يمكن التنكر للدور الاقتصادي والتمويلي الذي لعبته هذه المؤسسات في النهضة الاجتماعية والاقتصادية للضاحية في العقدين الأخيرين، ولا سيما "اقتصاد الكاش" قبل الانهيار المالي والمصرفي، وبعده، خصوصا اعتبارا من 2019.

بيد أن جمعية مؤسسة "القرض الحسن"، التي تأسست عام 1982، ونالت ترخيصها من وزارة الداخلية اللبنانية كجمعية خيرية عام 1987، شاع دورها، وبرز نشاطها الاقتصادي أكثر، عندما أقدمت وخلافاً لقانون النقد والتسليف اللبناني، على منح القروض والتسليفات المالية نقداً للراغبين، بفوائد رمزية، في مقابل رهن عينيّ (ذهب ومجوهرات) لأمد قصير الأجل. وهذا ما وضعها في منافسة جدية مع المصارف التجارية. كما منحت هذه الخطوة أبناء بيئة الضاحية الجنوبية وأنصارها، فرصة الاستفادة من تسهيلات في التمويل، عززت نمو أعمالهم وتجارتهم والاستثمارات الصغيرة والمتوسطة.

يعيش أصحاب شركات الضاحية الجنوبية ومصانعها اليوم خارجها، نازحين، مشردين، يعاينون تهدم بيوتهم وأرزاقهم، بألم وحسرة، من مراكز الإيواء والنزوح الآمنة التي احتضنتهم

يعيش أصحاب شركات الضاحية الجنوبية ومصانعها وسكانها اليوم خارجها، نازحين، مشردين، يعاينون بألم وحسرة، من مراكز الإيواء والنزوح الآمنة التي احتضنتهم، تهدم بيوتهم وأرزاقهم، وضياع جنى أعمار من الجهد والعمل الدؤوب في لبنان والاغتراب، تحت ضربات الغارات الإسرائيلية. ما كسبته الضاحية الجنوبية لبيروت وأهلها طوال عقود، يُدفن اليوم تحت لعنة التاريخ الدموي للإقليم، والحروب بالوكالة.

1290 مؤسسة فقط مسجلة في غرفة التجارة

في احصاء غير رسمي، تشير التقديرات الى أن عدد المؤسسات التجارية والصناعية والاقتصادية الصغيرة والمتوسطة والكبيرة، بما فيها الدكاكين الصغيرة والأفران والصيدليات وغيرها في الضاحية الجنوبية يتجاوز عشرة آلاف مؤسسة. بيد أن مستشار اتحاد غرف التجارة والصناعة والزراعة في لبنان، الدكتور روجيه خياط، يقدر عدد المؤسسات العاملة في نطاق بلداتها، في حارة حريك والليلكي وبرج البراجنة وبئر العبد وبئر حسن والأوزاعي والمريجة والغبيري والشياح والحدث، المسجلة في غرفة التجارة والصناعة في بيروت وجبل لبنان، بنحو 1290 مؤسسة تجارية وصناعية فقط، مسددة لاشتراكاتها، ويشمل نشاطها، الصناعات التحويلية، والألبسة الجاهزة، والأغذية والمعلبات وغيرها.

رويترز
تمثال لقاسم سليماني، قبالة مبنى مدمر تابع لجمعية "القرض الحسن" بعد غارة إسرائيلية على الضاحية الجنوبية لبيروت، 21 أكتوبر 2024.

لكن هذا الرقم يعكس ثلث الواقع وفق خياط، إذ يؤكد وجود أكثر من 4 آلاف مؤسسة وشركة في المناطق التي تم ذكرها، مما يعني أن ثمة الكثير من المؤسسات غير النظامية، وتعمل دون تراخيص أو بيانات مالية رسمية، مقدراً عدد موظفيها من 27 إلى 30 ألف عامل وموظف. إلى ذلك، ثمة متاجر كبيرة وصغيرة تحتوي على مخزون بضائع وسلع، مقدراً عددها بنحو 3 آلاف متجر، إضافة إلى نحو 600 مصنع ومحترف صناعي.

هناك الكثير من المؤسسات غير النظامية في الضاحية الجنوبية، تعمل دون تراخيص أو بيانات مالية رسمية، عدد موظفيها يصل إلى 30 ألف عامل وموظف. إلى ذلك، ثمة متاجر كبيرة وصغيرة تحتوي على مخزون بضائع وسلع، عددها نحو 3 آلاف متجر

ارتفعت وتيرة الغارات التي بدأت تشنها إسرائيل على الضاحية الجنوبية في سبتمبر/أيلول الماضي، مما أدى إلى نزوح سكانها وإقفال المؤسسات التجارية والصناعية فيها تباعا. فما هي الخسارة المقدرة بسبب عدم الانتاج؟ يشير خياط إلى أن ثمة نوعين من الخسائر، أولها، الآلات الصناعية والتكنولوجية التي تضررت، وثانيها، البضائع والمنتجات التي احترقت، وهذا ما لا يمكن تحديد حجمه وقيمته راهناً، قبل توقف الغارات، كما لا يمكن تحديد تكلفة إعادة بناء المصانع والمؤسسات الإنتاجية التي دُمِّرت، أو تكلفة مخزون البضائع والسلع التي أتلفت.

إقرأ أيضا: "اقتصاد الميليشيات" يبتلع "اقتصاد الدولة"

يُقَدِّر خياط، حاجة المؤسسات أقله الى 6 أشهر أو سنة، في حال الاتفاق على وقف لإطلاق النار، لتتمكن من استعادة قدراتها الإنتاجية، والعودة إلى السوق، مقَدِّراً خسائرها بنحو مليار دولار تقريباً حتى الآن من الناتج المحلي المقدر حاليا من البنك الدولي بـ23 مليار دولار، مع الإشارة إلى أن اقتصاد الضاحية الجنوبية يشكل نحو 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي اللبناني، كما يقول خياط، أي ما يعادل تقريباً، ما دمرته الحرب حتى الآن...

الصناعة في الضاحية

يقدر آخر إحصاء لدليل الصادرات والمؤسسات الصناعية اللبنانية عدد مصانع ضاحية بيروت الجنوبية بـ 572 مؤسسة صناعية موزعة كالآتي: 84 للألبسة، 55 مصانع جلود، 27 خشبية، 15 طباعة، 94 كيميائية، 38 متنوعة، 7 مجوهرات، 2 معدنية، 35 مفروشات، 53 منجمية، 29 مواد غذائية، 131 وسائل نقل، 2 صناعات أخرى.

المصانع الكبيرة التي كانت قائمة في ضاحية بيروت الجنوبية لم تعد موجودة منذ فترة بعيدة، وذلك بعد اكتظاظ المنطقة سكانياً، إذ انتقلت غالبيتها إلى مناطق المتن الجنوبي وكسروان والبقاع والشويفات القريبة

سليم الزعني، رئيس جمعية الصناعيين اللبنانيين

ولكن هذه المصانع يغلب عليها طابع المؤسسات الصغيرة الحجم، إذ يؤكد رئيس جمعية الصناعيين اللبنانيين سليم الزعني، أن المصانع الضخمة التي كانت قائمة في الضاحية الجنوبية لم تعد موجودة منذ فترة بعيدة، وذلك بعد اكتظاظ المنطقة سكانياً، إذ انتقلت غالبيتها إلى مناطق المتن الجنوبي وكسروان والبقاع والشويفات القريبة، وحَلَّت بديلاً منها، المشاغل والمصانع العائلية الصغيرة (أحذية وألبسة)، وهذه بدورها، وفق ما يؤكد الزعني، لا تشكل نسبة كبيرة من إجمالي مثيلاتها في لبنان.

رويترز

بالنسبة للأضرار التي لحقت بهذه المؤسسات، يوضح الزعني، أن المصانع في الضاحية لم تُستَهدف بالقصف المباشر، كما بقية المؤسسات والمجمعات السكنية. ولكنها تضررت بقوة، بفعل شدة الضربات الصاروخية وفاعليتها التدميرية.

بيد أن لا أحداً حتى الآن، يستطيع إحصاء الأضرار، المتعاظمة يوميا، نظرا الى خطورة الأوضاع في الضاحية واستمرار استهدافها بالغارات، مشيرا إلى أن بعض المصانع في البقاع والجنوب، أقفلت أيضاً، على الرغم من عدم تضررها بشكل مباشر، ولكن الأخطار الأمنية أجبرتها على اتخاذ إجراءات وقائية لحماية موظفيها، علما أنها تنتهز أي فرصة لفتح أبوابها ولو قليلا، خصوصا أن لديها المواد الأولية الذي تساعدها في الإنتاج.

font change

مقالات ذات صلة