فرنادو بيسوا: الجميع واللا أحد

معاناة مع الخجل جعلته يتوارى خلف أسماء أخرى

Wikipedia
Wikipedia
فرناندو بيسوا.

فرنادو بيسوا: الجميع واللا أحد

تأخذه زجاجة الحبر عبر مسارات شتى، صفاته الذاتية، صفات فنه، صفات شخصياته المستعارة، المنافي التي رُمي فيها، أراد أن يصبح منجِّما، عبدا لذوات مضاعفة، باحثا جليلا في توافه الأمور، مترجما ومحررا لا يضاهى لأعماله غير المكتملة، الواقف على هامش ما ينتمي إليه، دائم الارتياب في واقعية وجوده الأرضي، الغامض مثل قمر منتصف الظهيرة، المجهول من لدن ذاته، هو فرناندو أنطونيو نوجييرا بيسوا (1888- 1935).

في كتاب "بيسوا في شبكة نصية متداخلة... الابتكار والتأثير"، تحرير ديفيد ج. فراير، يذكر ريتشارد زينيث الكاتب والمترجم الأميركي من أصل برتغالي، في الدراسة الأولى من الكتاب، وتحت عنوان "بيسوا الخارق"، أنه وُجِدَ في جَرد لمكتبة فرناندو بيسوا بعد موته عام 1935، كتاب بعنوان "هل لديك إرادة قوية؟"، وكتاب آخر بعنوان "الخجل... دراسة نفسية وأخلاقية". نُشر الكتابان على التوالي في عامي 1912، و1913.

قبل ذلك في عام 1907، انتحل بيسوا شخصية طبيب نفسي، يُدعى فوستينو أنتونيس الذي اتصل بزميل بيسوا في المدرسة الثانوية كليفورد غيرتس، للحصول منه على معلومات عن الطالب فرناندو بيسوا، تتعلّق بقوة شخصيته. أجاب كليفورد بأن زميله بيسوا في المدرسة الثانوية، لم يستطع يوما أثناء الدراسة قول الحقيقة، حتى لو كانت تلك الحقيقة لا تحمل خطر الإيذاء لأشخاص آخرين، أو لبيسوا نفسه، وهذا الكتمان الغريب لحقائق تافهة أرهق ملامح وجهه، وجعله شفافا مثل شبح، ولم يجد زملاء الدراسة مشكلة تُذْكر في حمل بيسوا الوديع على تنفيذ أوامرهم.

في عام 1919، قبل ثلاثة أيام من عيد ميلاده الحادي والثلاثين، كتب بيسوا رسالة إلى هيكتور وهنري دورفيل، مديري معهد المغناطيسية والنفسية التجريبية بباريس، للاستفسار عما إذا كانت إحدى دورات المراسلة الخاصة بالمعهد في المغناطيسية الشخصية، قد تساعد في علاجه من ضعف الإرادة، ومُكافحة الشخصيات الوهمية لما بعد الذات.

انتحل بيسوا شخصية طبيب نفسي، اتصل بزميله في المدرسة الثانوية للحصول منه على معلومات عن الطالب فرناندو بيسوا، تتعلّق بقوة شخصيته

ترجم الكاتب المصري وائل عشري رسالة بيسوا الى معهد المغناطيسية النفسية في كتاب "فرناندو بيسوا... رسائل ونصوص". يقول بيسوا في الرسالة: "من وجهة نظر الطب النفسي، أنا عصابي هستيري، لكنْ لحسن الحظ عصابي الذهاني ضعيف إلى حد ما. يتغلب العنصر العصابي على العنصر الهستيري. لديّ كل تقلبات المشاعر والأحاسيس، وكلّ التحولات العاطفية، وتغيرات الإرادة. يمكنني فقط الشعور باليقين أمام الأمور التي لا تتعلق بأي مشاعر. أغيّر رأيي عشر مرات في اليوم الواحد".

اختلق بيسوا لمناهضة الذات ثلاثة شعراء، وقام بتدشين ميلادهم على النحو التالي، ريكاردو رييس وُلد في عام 1887، وهو طبيب يعيش حاليا في البرازيل، بينما وُلد ألبرتو كاييرو في لشبونة عام 1889، وتوفي في عام 1915، وقد عاش طوال حياته تقريبا في الريف، ولم تكن لديه مهنة، ولا أي نوع من التعليم، وأخيرا ألبارو دي كامبوس الذي وُلد في تافيرا، في الخامس عشر من أكتوبر/ تشرين الاول 1890، الساعة 1:30، وهو مهندس بحري.

Wikipedia
تمثال فرناندو بيسوا في لشبونة.

اخترع بيسوا الاسم المستعار، ليمثِّل به لحظة فريدة في تاريخ الذاتية، ففي مسوداته، ومقدماته لأعمال لم تكتمل، وفي رسائله إلى الأصدقاء، والمحررين، نتعرف الى نياته في محو الذات. يقول بيسوا في رسالة إلى فرانك بالمر: "إن الأصل العقلي للأسماء المستعارة، يكمن في ميلي المرضي إلى نزع شخصيتي الواقعية، أو على الأقل تعطيل وجودها، ولحسن الحظ، بالنسبة لي وللآخرين، يتم استيعاب تلك الظواهر عقليا، بحيث لا تظهر في حياتي اليومية الخارجية بين الناس".

هنا يقع بيسوا في مفارقة جلبت له العذاب، وهي أنه ما دام يستطيع التحكم في عدم ظهور الأسماء المستعارة أمام الآخرين في الحياة اليومية، فهو إذن يمارس رقابة مشددة على تلك الأسماء، ويحرمها من أن تكون دكتور جيكل والسيد هايد، أي يحرمها من أن تكون فصامية تتمتع بحرية كاملة.

في شذرات وشظايا بيسوا هناك ملامح أخرى عن شخصياته المستعارة، على سبيل المثل، ألبرتو كاييرو، مناهض للرمزية، والاستعارة، والميتافيزيقا، شاعر الطبيعة. ألبارو دي كامبوس، مستقبليّ، شاعر التكنولوجيا، والضوضاء، شاعر العصر الصناعي، شاعر ويتمان. ريكاردو رييس، منفي سياسي، باحث، كلاسيكي جديد، وثنيّ. فلسفته عبارة عن مزيج من الرواقية والأبيقورية.    

هناك مزحة شائعة في البرتغال تخفف حدة النبرة الجادة التي يتحدث بها الباحثون المتخصصون عن شعر بيسوا وأنداده الثلاثة، كاييرو ورييس وكامبوس، وهي أن أهم أربعة شعراء في التاريخ الأدبي الحديث للبرتغال هم فرناندو بيسوا. لو فرضنا أن بيسوا عاد إلى الحياة، وسمع تلك المزحة، فماذا سيكون تعليقه؟ ربما سيُرجع الأمر إلى فشله في الفصل بين ذاته وذوات شعرائه الخياليين كما ينبغي، وكأنّ عدم عبوره التام من العصاب إلى الذهان، كان سببا لتلك المزحة، ورغم كفاحه في تفصيل ميول شعرائه، بقي فصام الشخصية بالمعنى الحرْفي، المَرَضي، هو الخلق الحقيقي لذات أخرى.    

غلاف "كتاب اللاطمأنينة".

إن الأثر الأدبي الأكثر تأثيرا وقراءة للشاعر فرناندو بيسوا، هو كتاب نثري من تأليف برناردو سواريس، وهو محاسب معاملات تجارية، وجودي المنزع، ذات أخرى بديلة لبيسوا، لم يكتب سوى النثر. الكتاب عبارة عن حطام من الفقرات والتأملات بعنوان "كتاب القلق"، وترجمه إلى العربية من البرتغالية الشاعر المغربي المهدي أخريف بـ "اللاطمأنينة". لم يستطع بيسوا إعلان تفضيله الجمالي للنثر أكثر من الشعر، إلا عبر برناردو سواريس، الذي قال "مع النثر نستطيع دمج الإيقاعات الموسيقية دون الاستغناء عن التفكير، نستطيع دمج الإيقاعات الشعرية، ونبقى خارجها، إن الإيقاع الشعري لن يزعج النثر، لكن الإيقاع النثري يُسقط الشعر".

لم تكن الكلمة النثرية، الحرة، غير المقيدة، بالضرورة أفضل من كلمة بيسوا الشعرية، إلا أنها رسمتْ صورة عن موضوعها أشد عريا

لم تكن الكلمة النثرية، الحرة، غير المقيدة، بالضرورة أفضل من كلمة بيسوا الشعرية، إلا أنها رسمتْ صورة عن موضوعها أشد عريا، على سبيل المثل، في إحدى فقرات كتاب "اللاطمأنينة"، يقوم فرناندو بيسوا بتأثيث غرفتي معيشة مع بذل عناية خاصة بقماش الكراسي العميقة التي توفّر له غرقا مناسبا مع ديوان "أوراق العشب" لوالت ويتمان، أمّا مهمة الستائر والأبواب والسجاجيد، فهي حجب الضوء والصوت الآتي من الخارج، وكتم خطواته، وتبطين الهواء برائحة ثقيلة. أخبره ريكاردو رييس، "أن أثاث الغرفتين المرفهتين، سيحافظ على كرامة الملل مدة من الزمن، ثم يتحول الملل إلى ألم جسدي". نعرف من فرويد أن اضطراب الأعراض العصبية الوظيفية "FND"، هو المسؤول في حالة بيسوا، عن تحويل الملل إلى ألم جسدي، لا يمكن للمريض التحكم فيه، ولا يعتبره الطبيب النفسي مصطنعا من قِبَل المريض.

بيسوا المشهور تقريبا، المجهول تقريبا، كان يتردد على مطاعم هادئة ذات طابع منزلي ثقيل في ما يتعلق بأدوات الطعام، وكواليس المطاعم، "المطابخ"، التي تمثل بحضورها القريب، والمكشوف من صالة طعام الزبائن، حميمية تناسب بيسوا. سأله النادل يوما بأدب ولياقة "لاسمكم رنّة معروفة، سيادتكم صحافي، أم مخرج سينمائي". لم يكن خطأ النادل مزعجا لبيسوا، فقد قال عنه الشاعر المستعار ألبارو دي كامبوس "فرناندو بيسوا، إن تحرينا الدقة، هو غير موجود". كلمة  Pessoa في البرتغالية تعني "شخص"، وهي كلمة انحدرت من لفظة Persona، التي تعني قناع الممثلين الرومانيين. بيسوا إذن قناع، شخصية خيالية، لا أحد.  

font change

مقالات ذات صلة