رغم الضحايا والجرحى والدمار، هناك من يحتفل بصمود "السردية". خلاصتها أن الحرب التي تشنها إسرائيل على لبنان، لم تؤثر في إجماع اللبنانيين والتفافهم حول المقاومة التي يمثلها "حزب الله" الذي يخوض اليوم قتالا ضاريا للدفاع عن الوطن واستقلاله ومنع العدو من احتلاله مرة جديدة.
تُقدم السردية هذه على انها الحقيقة التي يدركها الصالحون من الناس ولا يعارضها سوى الخونة والعملاء وأن المقاومة هي علّة وجود لبنان الذي يجب أن يتحمل قدره بصبر ما دامت المقاومة ستأتيه بالفوز المؤزر على غرار ما فعلت غداة "النصر الإلهي" في حرب 2006.
بغض النظر عن سماجة الترجمة، فإن على "السردية" أن تتميز بالكثير من الصفات قبل أن تتحول إلى أسطورة مؤسِّسة أو رواية يجمع مواطنو دولة أو أفراد جماعة على اعتناقها وتفسير حاضرهم من خلالها وإسناد مهمات تاريخية و"رسائل خالدة" إلى أنفسهم. الأمثلة كثيرة في الدول العربية ومحيطها. وهي قابلة للتغير من ادعاء الفرادة الحضارية إلى تبني أيديولوجية دينية، على ما فعلت إيران على سبيل المثال التي انتقلت من القول بوراثة عظمة الإمبراطوريات الأخمينية والساسانية القديمة إلى جعل الخطاب الإمامي الاثنى عشري عقيدة رسمية ينص الدستور عليها، من دون أن تتخلى عن الإرث الإمبراطوري كما يُفهم من تصريحات ليست بالقليلة لمسؤولين إيرانيين.
وفي المقابل، مزجت تركيا في روايتها التأسيسية بين الماضي التوراني لقبائل وسط آسيا وهجرتها نحو الأناضول وبين انتصارات السلطنة العثمانية في "القرن الرائع"، بعد انحسار أوهام اللحاق بالغرب التي عمل على نشرها مصطفى كمال أتاتورك.
في لبنان، سادت سردية التعايش بين الطوائف بعد الاستقلال سنة 1943، عندما اقتنع وجهاء الجماعات الأهلية بالفوائد التي يمكن أن تحصل جماعاتهم عليها من الانضواء في مشروع يميل نحو علاقات مميزة بالغرب ويستند إلى العمق العربي. كانت هذه الرؤية التي اقترحها سياسيون مسيحيون مثل ميشال شيحا وغيره، تمنح الأولوية للمسيحيين كضمانة لوجودهم في وسط ملايين المسلمين. لا داعي للقول إن قوى مسيحية ومسلمة كانت تعارض هذه التسوية لاعتباراتها الخاصة. المهم، انهارت الأسطورة المؤسسة وسرديتها في الحرب الأهلية في 1975 ولم تحقق مساعي بناء سردية بديلة عن إعادة إعمار لبنان بعد "اتفاق الطائف" في 1989 و"وحدة المسار والمصير" مع سوريا وطرد الاحتلال الإسرائيلي سوى نجاحات محدودة عصف بها ودمرها اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري. فوجد اللبنانيون أنفسهم في حالة بحث مضنٍ عن "سرديات" بديلة، لم يرتق أي منها إلى مستوى التحول إلى رواية مؤسسة لدولة جديدة.
والحال أن تحالفا بين الفاسدين من جميع الطوائف، وفي حماية سلاح الطائفة الأقوى، أفلح في الاستحواذ على تأييد أكثرية اللبنانيين على ما تدل الانتخابات النيابية منذ 2005 حتى 2022. ذلك أن انتظار الفتات الملقى من موائد اللئام أجدى في عُرف كثرة من اللبنانيين، من السعي إلى بناء دولة تشبه الوهم ولا أساس لها في الواقع.
لم تحقق مساعي بناء سردية بديلة عن إعادة إعمار لبنان بعد "اتفاق الطائف" في 1989 و"وحدة المسار والمصير" مع سوريا وطرد الاحتلال الإسرائيلي سوى نجاحات محدودة عصف بها ودمرها اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري
غياب "السردية" والأسطورة المؤسسة الجامعة لكل اللبنانيين أو لأكثريتهم، استعيض عنه بسرديات مجتزأة عن الالتفاف حول "حزب الله" الذي يضم "أشرف الناس" وأطهرهم، بحسب عبارات أمينه العام الراحل. بيد أن السردية هذه خسرت الكثير من جاذبيتها بعد الضربات القاسية التي تعرض "الحزب" لها وبعد موجة النزوح التي اضطر جمهوره إليها بعد الهجمات الإسرائيلية الوحشية على القرى والمدن اللبنانية.
الأهم أن أية سردية يطمح أصحابها إلى تعميمها وإقناع فئات اجتماعية– طائفية، أو أهلية وطبقية مختلفة بها لا بد أن تحمل في طياتها فائدة ملموسة للمدعوين إلى تبنيها. أي انعقاد النظرية (السردية أو الرواية المؤسسة) على الممارسة (الفوائد والمصالح والعوائد التي يجلبها التسليم بالسردية)، على النحو الذي انعقدت فيه سردية التعايش الطائفي بزعامة المسيحيين بين 1943 و1975، على الرغم من أن السماء لم تكن صافية تماما خلال المدة تلك بين الطوائف اللبنانية وممثليها السياسيين.
وعليه، ربما يكون "حزب الله" في حاجة ماسة هذه الأيام لالتفاف اللبنانيين حوله بعدما أعلنت إسرائيل من دون لبس أنها بصدد تدميره والقضاء عليه ككيان عسكري وعلى امتداداته الاقتصادية. بيد أن ذلك لا يعني أن اللبنانيين الذين يعانون منذ 2019 من انهيار شامل لبنى الدولة ومؤسساتها وللاقتصاد الوطني، وهو الانهيار الذي رعاه ودافع "حزب الله" عن رموزه بشراسة، بصدد تبني رواية تقام على خرابهم وتنطوي على نسخة مكررة من الأسباب التي ستعيد إلقاءهم في الهوة التي يكابدون الأمرين للخروج منها.
الدعوة إلى "السردية" المتوهمة، إذن، لا تزيد عن اقتراح بالبقاء في الكارثة، من دون أن يعني ذلك أن "سرديات" ساذجة ومرتجلة بدأ الترويج لها ستحمل الترياق أو الشفاء.