"الظلال" في طبعة جديدة

لقطب منهجان، منهج قبل السجن وآخر بعده

"الظلال" في طبعة جديدة

ثمة احتفال كبير شهدته مواقع التواصل الاجتماعي في الأيام الماضية بالكاتب الإسلامي المصري سيد قطب. بحثتُ عن سببه فاتضح أن الاحتفال احتفاء بيوم ميلاد قطب 9 أكتوبر/تشرين الأول. هذا الحدث لا بد أن نربطه بالهرج والمرج والتخوين والتكفير في هذه الأيام مع أحداث غزة وغزو لبنان. ولا بأس أن نربط الأمر بحدث آخر، فمنذ ما يقارب السنة صدرت طبعة جديدة لكتابه الأشهر "في ظلال القرآن". الجديد في هذه الطبعة أنها مطابقة لما سموه الطبعة الأولى التي اكتملت في سنة 1959 أي قبل الإضافات اللاحقة التي جرى إدراجها فيما بعد، كما يدّعون. الطبعة الأولى التي يقولون إنها انتهت قبل دخوله السجن لا تحتوي على عبارات التكفير والدعوة إلى الحرب الأهلية. العبارات السيئة أضافها قطب بعد دخوله السجن، كردة فعل لما لقيه في السجن، أي إن الطبعة الجديدة هي في واقعها محاولة للتطهر.

الفكرة من وراء كل هذه "الشنشنة" أن لقطب منهجين، منهج قبل السجن ومنهج بعده، ومن يقفون خلف هذه الطبعة الجديدة يريدون أن يتخلصوا من منهج ما بعد السجن ومن نسخ ما بعد السجن. في حقيقة الأمر، ليس لدينا ما يبرهن بشكل واضح ويقيني أن قطب قبل السجن يختلف كثيراً عن قطب ما بعد السجن. هي مجرد دعوى يريد القطبيون من ورائها أن يُنظّفوا سمعة منظّرهم التكفيري، ولن أعجب كثيرا إن لقيت محاولتهم صدى إيجابيا عند شرائح من مجتمعنا العربي الإسلامي، فلدينا أناس تتحكم بهم عواطفهم لا عقولهم.

أكتب عن سيد قطب منذ زمن، وفي كل مرة ترد اعتراضات على ما نكتب ودفاعات عن نصه الذي يحاول المدافعون أن يلفتوا انتباهنا إلى جماله الشعري، فنرد عليهم بأن هدفنا ليس النقد الأدبي ولا التقييم الفني، بل نحن نناقش محتواه ومعاني نصه والأفكار الخطيرة التي تبناها هذا الرجل وبثها في المجتمع العربي الإسلامي وكان لها أسوأ تأثير. هذا لا علاقة له بشعرية نصه أو جمال أسلوبه، ويمكن لآخر متخصص في النقد الأدبي أن يناقش مثل تلك القضايا الأدبية والجمالية فهي أمور قد لا أحسنها.

ويعترض معترضون بأن قطب قد أعدمه عبد الناصر وأن كثيرا من أهل الفضل قد حاولوا إنقاذه، وأن عبد الناصر طلب منه أن يعتذر، فرد سيد بأن الأصابع التي تعودت الاستغفار لن تعتذر لطاغية، فأجيبهم بأن هذا كله لا يعنيني في شيء.

الذي يعنيني هو أن هذا الكتاب (في ظلال القرآن)، لمن لم يقرأه ويفهمه، نص يسير مع القرآن الكريم في محاولة حديثة لتفسيره، وعندما يسعى مفسر لتفسير النص الديني فإنك ولا بد ستنتظر أن يتقدم بتفسير عقلاني يوائم بين الدين والحياة ويحاول أن يحل المشكلات التي استعصى تفسيرها على المتقدمين، لكن قطب لم يفعل هذا. بل إن كل المفسرين السابقين كانوا أعقل وأرحم منه، ولم يتهوروا كما تهور. فكتاب "الظلال" كما يحلو للقطبيين اختصار اسمه، يحكي قصة "الجماعة المؤمنة" و"الجاهليين" ويبحث عن هذين الفريقين في كل سورة في القرآن من "الفاتحة" إلى "الناس".

عندما يسعى مفسر لتفسير النص الديني فإنك ولا بد ستنتظر أن يتقدم بتفسير عقلاني يوائم بين الدين والحياة ويحاول أن يحل المشكلات التي استعصى تفسيرها على المتقدمين، لكن قطب لم يفعل هذا

و"الجماعة المؤمنة" هي جماعته "الإخوان المسلمون"، ومن سواهم ليس من "الإخوان" وليس من "المسلمين". ومنهم ينتقل إلى وصف الجاهليين وصفا دقيقا واضحا لا يمكن أن لا تعرفهم بعده، فالجاهليون هم الذين لم يطبقوا مبدأ الحاكمية وتحكيم الشريعة، كما يرى هو وجماعة "الإخوان"، وبالتالي فكل الحكومات في العالمين العربي والإسلامي هي حكومات مرتدة كافرة. ليس هذا فحسب، بل إن كل المجتمعات كافرة مرتدة حتى تلك التي تردد شهادة التوحيد "لا إله إلا الله محمد رسول الله" على منابر المساجد، الجميع كفار بلا استثناء، فمن سكت عن الكفر كافر، ومن غيّر حكما شرعيا واحدا كافر، لا يُستثنى من ذلك إلا الجماعة المؤمنة التي تُكفِّر كل هؤلاء. وفي كتاب محمد سرور زين العابدين "الحكم بغير ما أنزل الله" شهادة مهمة لأنه من ضمن التيار، حيث إن قطب كان يخاطب الخاصة من الجماعة المؤمنة بكلام لا يقوله لعموم الناس في السجن.
وليت أن الأمر وقف عند التكفير. والتكفير لا يهون، بل هو شأن خطير. لكنه يتجاوزه ليقرر أمرا خطيرا للغاية حين ينبه الجماعة المؤمنة إلى أن الأمر لا يقف عند أحاديث السُمّار، بل عليهم أن يعلموا أن الصدام "المسلح" المادي المحسوس بين المؤمنين والجاهليين لا بد أن يقع. أي إنه بَشّر بحرب أهلية.
الهدف من الطبعة الجديدة هو التخلص من العبارات التي ذكرتُ لك هنا، عبارات التكفير والوعد بالحرب الأهلية بين أبناء المجتمع الواحد. كل الطبعات التي وردت فيها هذه النصوص سوف تختفي في محاولة لاستعادة سيد قطب بوجه جديد غير وجهه الأول. ولو حدث أن تجددت الحاجة إلى التكفير ووصف المجتمع بالجاهلية المعاصرة فالخطب يسير، حيث يمكن استعادة الطبعات الحاوية لعبارات التكفير والادعاء بأن الجماعة كانت تمارس التقية. وها قد عاد التكفير والتخوين من جديد وسقطت معهما الرغبة في التطهر.

font change
مقالات ذات صلة