إسرائيل تحاصر بيروت... وعرفات "جن جنونه" قبل أن يستسلم (3 من 8)

انقسام "لجنة الإنقاذ" اللبنانية... و"الشيخ بشير" يتمسك بخروج "أبو عمار"

المجلة
المجلة

إسرائيل تحاصر بيروت... وعرفات "جن جنونه" قبل أن يستسلم (3 من 8)

بدأ الاجتياح الثاني للبنان في 6 يونيو/حزيران 1982، وفي الثالث عشر من الشهر نفسه تمكن الجيش الإسرائيلي من تطويق العاصمة بيروت. بعد أن أحكمت القوات الإسرائيلية قبضتها، بدأت بالضغط العسكري والاقتصادي من أجل استسلام المدينة ورفعها الراية البيضاء.

الهدف المعلن من الغزو كان طرد المقاتلين الفلسطينيين من لبنان، ومنذ اليوم الأول أعلنت إسرائيل أنها لا تنوي مقاتلة لا الجيش السوري ولا الدولة اللبنانية. أما السوريون فكان لهم موقف مغاير تماما، فعلى الرغم من انعدام الود والثقة بين ياسر عرفات والرئيس حافظ الأسد، فإن القوات السورية وضعت في جهوزية كاملة لمواجهة الاجتياح الإسرائيلي.

غيتي
قصف إسرائيلي على مناطق في غرب بيروت أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان، 30 يوليو 1982

اتصل قائد "قوات الردع" العميد سامي الخطيب بالعميد محمد عمر حلال، قائد القوات السورية في بيروت، وأبلغه أن الجيش الإسرائيلي دخل منطقتي عين الرمانة وفرن الشباك، وهو في طريقه إلى وسط العاصمة. سأله الخطيب: "هل القوات السورية ستقاتل؟" أجابه العميد حلال: "نعم ... سأقاتل حتى آخر رجل".

الأسد يرفض الانسحاب

تحسبا لدخول الإسرائيليين إلى العاصمة اللبنانية، بدأت "قوات الردع العربي" بالتحضير للخروج من بيروت الغربية، حيث مقر عرفات وبقية الفصائل الفلسطينية. التزمت الدولة اللبنانية الحياد، ولم تطلق لا رصاصة ضد إسرائيل ولا حتى تصريح فيه إدانة أو توعد. أرسل الجنرال الإسرائيلي يوسف حنان رسالة باللغة الفرنسية إلى سامي الخطيب، قال فيها إنه مستعد لإعطاء القوات السورية "فرصة أخيرة لانسحاب مشرف" من بيروت ومنطقة الجمهور في بعبدا ومدينة عالية. وأعطى السوريين مدة زمنية للاستجابة تنتهي في 15 يونيو 1982. وفي حال عدم الجواب أو الجواب السلبي تعتبر إسرائيل أن السوريين هم المسؤولون عن الضحايا والتدمير الذي سيحدث لهذه المناطق.

عارض بشير الجميل بند "حماية المقاومة الفلسطينية" ووقف في وجه ما طالب به بري وجنبلاط

ردّت سوريا على إسرائيل بواسطة سامي الخطيب أيضا: "نحن موجودون في بيروت بقرار عربي وموافقة السلطة الشرعية اللبنانية. لبنان دولة عربية ومستقلة وسندافع عن لبنان والشرعية فيه وعن الشعب الفلسطيني بكل إمكاناتنا". وفي الساعة العاشرة من مساء 15 يونيو 1982، أبلغ الرئيس اللبناني إلياس سركيس القيادة السورية بأنه سيأمر جيشه بدخول بيروت، وهذا يستتبع انكفاء جميع القوى داخل العاصمة إلى مراكز أخرى، ومنها طبعا القوات السورية.

موقف سركيس

تواصل الأسد مع نظيره اللبناني، قائلا إنه لا يمانع في بسط سيطرة الجيش اللبناني على كل أراضي لبنان، ولكن هذا الأمر محال اليوم بوجود الاحتلال الإسرائيلي. أضاف الأسد أن إخراج "قوات الردع" والجيش السوري معا من بيروت يعد أمرا خطيرا للغاية، لأنه يعني وببساطة استسلام بيروت وتسليمها على طبق من ذهب لآرئيل شارون. وافق سركيس على تأجيل انسحاب القوات السورية، وشكّل "لجنة إنقاذ وطني" بقيادته، ضمّت رئيس الوزراء الأسبق صائب سلام (ممثلا عن المسلمين السنة)، رئيس حركة "أمل" نبيه بري (ممثلا عن المسلمين الشيعة)، رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" وليد جنبلاط (ممثلا عن الطائفة الدرزية)، رئيس "حزب الكتائب" بشير الجميل (ممثلا عن المسيحيين الموارنة)، ومعهم وزير الخارجية فؤاد بطرس (مسيحي كاثوليكي).

غيتي
الرئيس اللبناني الراحل إلياس سركيس

خلافات "لجنة الإنقاذ"

لم يكن هؤلاء على وفاق سياسي ولكنهم قبلوا الدخول في اللجنة واجتمعوا بطلب من الرئيس سركيس وبحضور رئيس الحكومة شفيق الوزان في 20 يونيو 1982، مؤكدين على ضرورة الانسحاب الإسرائيلي من كل الأراضي اللبنانية. عارض بشير الجميل بند "حماية المقاومة الفلسطينية" ووقف في وجه ما طالب به بري وجنبلاط: "التأكيد على الوجود السوري السياسي والعسكري في لبنان". وكانت وجهة نظر السلطة اللبنانية ممثلة بوزير الخارجية فؤاد بطرس والرئيس سركيس:

  • دخول الجيش اللبناني إلى بيروت الغربية.
  • تسليم السلاح الثقيل الفلسطيني في بيروت إلى الجيش اللبناني وحصر السلاح الخفيف في المخيمات الفلسطينية.

عرضت فرنسا الوساطة في المفاوضات بين السلطات اللبنانية و"منظمة التحرير"، ونصت مبادرة ميتران على تنفيذ القرارات المتعلقة بالانسحاب الإسرائيلي الكامل من لبنان، ما وضعها أمام فيتو أميركي

رأى سركيس أنه بإمكان الفلسطينيين البقاء في لبنان بضمانة أميركية، ولكن تحت سيادة السلطة الشرعية اللبنانية، ويحق لهم ممارسة النشاط السياسي والإعلامي دون حمل السلاح أو شن أي عملية ضد إسرائيل من داخل الحدود اللبنانية. شكلت لجنتان منبثقتان عن "لجنة الإنقاذ الوطنية"، الأولى مؤيدة للوجود الفلسطيني، مؤلفة من الرئيس شفيق الوزان ونبيه بري ووليد جنبلاط، والثانية معارضة له وتطالب بالوصول إلى الحل من خلال المبعوث الأميركي فيليب حبيب. وقد ضمّت اللجنة الثانية وزير الخارجية فؤاد بطرس والنائب نصري المعلوف وكانت برئاسة الشيخ بشير الجميل.

"منظمة التحرير" تبدي مرونة

كلتا اللجنتين أكدتا على ضرورة منع اجتياح بيروت والطلب من إسرائيل الانسحاب 5 كيلومترات عن العاصمة. اتفق أعضاء "لجنة الإنقاذ" على أن "قوات الردع العربية" هي قوات شرعية موجودة على الأراضي اللبنانية بموافقة السلطة الشرعية، ولا يمكن إنهاء مهمتها إلا بموافقة السلطة اللبنانية والقمة العربية معا. أبلغت "منظمة التحرير الفلسطينية" إلى "لجنة الإنقاذ" بأنها تقبل الانكفاء إلى المخيمات مقابل انكفاء إسرائيلي مماثل، شرط أن يفك الحصار عن مدينة بيروت لمسافة تساوي المسافة التي ستتراجع فيها المقاومة إلى المخيمات. وتقبل ياسر عرفات أن يتولّى الجيش اللبناني عملية الفصل والتمركز في المواقع التي سيتم إخلاؤها، مقابل ضمانة عدم دخول الإسرائيليين، وفي حالة تنفيذ هذين البندين تطرح المقاومة مشروعها مع السلطة على قاعدة أن يكون الوجود الفلسطيني سياسيا وإعلاميا كما في بقية الأقطار العربية، مع الأخذ بعين الاعتبار "الخصوصية اللبنانية".

أ.ف.ب
من اليسار، الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات، والزعيم الدرزي وليد جنبلاط، ورئيس "حركة أمل" الشيعية نبيه بري، ورئيس "منظمة العمل الشيوعي" محسن إبراهيم خلال اجتماع في بيروت، 30 أغسطس 1982

في 23 يونيو، جاء الجواب على مبادرة عرفات من إدارة الرئيس ريغان، الذي رفض استمرار الوجود العسكري الفلسطيني في لبنان ودعا إلى بسط سيطرة الدولة اللبنانية على المخيمات الفلسطينية كافة. جنّ جنون عرفات، وطلب لقاء أعضاء "لجنة الإنقاذ" الموجودين في بيروت الغربية، وهم شفيق الوزان ونبيه بري ووليد جنلاط، ليطرح عليهم التصور التالي:

١- وقف إطلاق النار وقفا شاملا وإجراء فصل قوات حول بيروت.

٢- انسحاب إسرائيل بضعة كيلومترات مقابل انسحاب المقاومة الفلسطينية مع سلاحها إلى المخيمات.

٣- أن يقوم الجيش اللبناني بمهمة الفصل بين القوات وينزل إلى بيروت الغربية، مع طلب قوة دولية إلى جانبه لضمان وقف إطلاق النار وتنفيذ عملية فصل القوات.

٤- فتح مفاوضات حرة بين السلطة اللبنانية و"منظمة التحرير الفلسطينية" لتحديد مستقبل الوجود الفلسطيني سياسيا وعسكريا وشعبيا ضمن إطار السيادة اللبنانية الكاملة على كل الأراضي اللبنانية.

تجميد عضوية جنبلاط وبري واستقالة الوزان

رفض "حزب الكتائب" هذا التصور وأصر بشير الجميل على استسلام كامل وغير مشروط للفلسطينيين، مع تسليم سلاحهم للدولة وعدم منحهم أي امتيازات أو حصانة في لبنان. غضب وليد جنبلاط ونبيه بري من موقف "الشيخ بشير" وأعلنوا عن تجميد عضويتهم في "لجنة الإنقاذ" مع مطالبة ستة ورزاء من أحزابهم بالاستقالة من حكومة شفيق الوزان، علما أن موقف الأخير كان وسطيا ومعارضا لاجتياح الإسرائيلي. وعندما وجد الوزان نفسه أمام طلب التوقيع على الاستسلام الفلسطيني الكامل وضع استقالته بتصرف رئيس الجمهورية، ما وضع إلياس سركيس في موقف محرج للغاية.

لم يكن من السهل اختيار بديل من الطائفة السنية يرضى بالتوقيع على صك الاستسلام الفلسطيني، وفي أعقاب الإعلان عن استقالة الوزان (التي لم تدخل حيز التنفيذ إلا بعد أشهر)، كان قصفٌ عنيفٌ على أحياء بيروت الغربية. في 26 يونيو، جرت محاولة لعقد مؤتمر وطني إسلامي لإيجاد مخرج للأزمة الوزارية، عمل صائب سلام على تعطيله بصفته الزعيم السني الأوحد في لبنان. حاول الرئيس سركيس إقناع الوزان بالعودة عن الاستقالة وأعلن وليد جنبلاط أنه يرفض لعب دور "ناقل الشروط الاستسلامية الأميركية اللبنانية الرسمية" إلى "المقاومة الفلسطينية"، ولا يرضى أن يكون "شاهد الزور في مؤامرة ذبح الشعب الفلسطيني". كرر جنبلاط أنه لن يطلق "رصاصة الرحمة على الثورة الفلسطينية".

تقدم الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران بمبادرة لإنقاذ بيروت تحت شعار تحييدها من أجل فصل القوات بضمانة دولية. عرضت فرنسا الوساطة في المفاوضات بين السلطات اللبنانية و"منظمة التحرير"، ونصت مبادرة الرئيس ميتران على تنفيذ القرارات المتعلقة بالانسحاب الإسرائيلي الكامل من الأراضي اللبنانية، ما وضعها أمام فيتو من الإدارة الأميركية. اتصلت دمشق بالرئيس الوزان الذي قال: "الفلسطينيون مقتنعون بأنه لا يمكنهم الاستمرار في وضعهم السابق في لبنان، ولا يوجد موقف محدد ومتماسك وإنما يماطلون لغاية كسب الوقت ويجرون اتصالاتهم العربية والدولية. بتقديري أن التطورات الأخيرة كانت لصالحهم، من استقالتي إلى انسحاب أعضاء هيئة الإنقاذ". وعن موقف سركيس، قال الوزان: "أنا لا أتهم سركيس بالخيانة ولكن بغض النظر عن كونه رئيسا للجمهورية فهو يمثل فريقا من اللبنانيين، وأنا أمثل فريقا آخر ولكل منا أسلوبه".

في 7 أغسطس/آب تلقى الأسد من عرفات برقية مفاجئة، يشكره فيها على قبول سوريا استضافة 1200 فلسطيني، وهو ما لم يقبل به الأسد لا بالسر ولا بالعلن

وفي اتصال وزير خارجية سوريا عبد الحليم خدام بنبيه بري، قال له الأخير: "المعنويات ليست عالية، وعدد المقاتلين بدأ يتناقض بشكل سريع. والقدرة على الاستمرار ضعيفة بسبب تدمير البنية العسكرية الأساسية للردع. الفرق شاسع بين قدرات العدو القتالية وإمكانياتنا جميعا. سنقاتل بما تبقى من العنصر البشري والسلاح حتى النصر أو الشهادة".

مبادرة حبيب

في 30 يونيو عرض فيليب حبيب جملة من النقاط لقواعد الحل السياسي لمدينة بيروت:

١- خروج قيادة المقاومة الفلسطينية مع مقاتليها من مدينة بيروت بأسلحتهم الفردية وبالطريق الذي يحددونه والجهة التي يقصدونها.

٢- سـحب كافة المسلحين غير اللبنانيين من بيروت بما في ذلك إخراج قوات الردع العربية منها.

٣- تجريد اللبنانيين في المنطقة الغربية من أسلحتهم.

٤- نزول الجيش اللبناني إلى بيروت الغربية والضاحية الجنوبية واستلام مهام الأمن فيها.

٥- بحث مستقبل الوجود الفلسطيني في لبنان سياسيا وعسكريا مع السلطة اللبنانية.

حول النقطة الأولى، كانت هناك موافقة غير معلنة من قيادة "فتح" لخروج قيادة المقاومة من مدينة بيروت، أما خروج قوات الردع فكان بحاجة إلى قرار عربي. وفي 1 يوليو/تموز أرسل سامي الخطيب رسالة إلى عبدالحليم خدام وأبلغه بأن عرفات ورفاقه سيقبلون بمبادرة فيليب حبيب من أجل قطع الطريق على الإسرائيليين لكيلا يجتاحوا بيروت ويدمروها. تحدث عن مجموعة تعقيدات، ومنها الوجود العسكري الرمزي للقيادة الفلسطينية في لبنان الذي يرفض فيليب حبيب قبوله بناء على إصرار الإسرائيليين. وتمثلت العقدة الثانية في مقترح نزول الجيش اللبناني إلى بيروت وانتشاره، فكان عرفات يريد ضمانات فعلية للفلسطينيين الباقين في العاصمة، بأن لا يتعرضوا لأي اضطهاد من قبل "حزب الكتائب". سيطرة "الكتائب" على بعض المناطق الاستراتيجية لم تشجع عرفات على التسليم دون هذه الضمانات، وبناء عليه بات واضحا أن فكرة اللجوء إلى قوات دولية باتت ملحة للغاية، ولكنها تحتاج إلى طلب رسمي من الحكومة اللبنانية، سواء قبل أو أثناء عملية خروج الفلسطينيين. وكانت العقدة الثالثة في جمع السلاح من بيروت الغربية، وهو ما أصر كل من نبيه بري ووليد جنبلاط أن يتم بالتوازي مع تجريد بيروت الشرقية من سلاحها.

في الأسبوع الأول من شهر يوليو، تعرض الرئيس سركيس لوعكة صحية ألزمته الفراش أياما عدة، وفي ظل شغور رئاسة الحكومة سادت الفوضى في أروقة الحكم اللبناني. استغلت إسرائيل هذا الواقع وفرضت طوقا حول منزل سامي الخطيب في منطقة الحازمية لمنعه من التواصل مع السوريين. وفي المقابل، كان جواب دمشق الأولي في رفض استقبال المقاتلين الفلسطينيين الخارجين من لبنان، وقد نقلته وكالة "سانا" الإخبارية الرسمية في 9 يوليو 1982.

غيتي
المبعوث الأميركي فيليب حبيب

انشغلت إسرائيل بسعيها لإيصال حليفها بشير الجميل إلى سدة الرئاسة اللبنانية، خلفا لإلياس سركيس، وقام الجميل بإرسال وفد إلى دمشق للحصول على دعم من السوريين، رغم ثأر الدم بينه وبينهم. تألف الوفد "الكتائبي" من جورج سعادة وكريم بقردوني وجوزيف أبو خليل، وقد عرض هدنة طويلة المدى على سوريا، ولكن الأسد قال إنه لن يقبل بها ولا بالجميل رئيسا إلا في حال اتخاذه موقفا واضحا من الاحتلال الإسرائيلي ويشارك في مقاومته. عاود الجميل المحاولة عبر سامي الخطيب، وأضاف أنه من الضروري أن يصل إلى الأسد صوته الملح على إبقاء الصلة مع دمشق. قال إنه مؤمن بأن دور سوريا يجب أن يبقى أخوياً مع لبنان، انطلاقا من واقع الجغرافيا والتاريخ والمصالح المشتركة بين البلدين.

أبو عمار يناور على الأسد

وفي 7 أغسطس/آب تلقى الأسد من عرفات برقية مفاجئة، يشكره فيها على قبول سوريا استضافة 1200 فلسطيني، وهو ما لم يقبل به الأسد لا بالسر ولا بالعلن.

"السيد الرئيس حافظ الأسد، كما تعلمون سيادتكم، جرت بيننا وبين الحكومة اللبنانية مباحثات مكثفة حول خروج القوات الفلسطينية الموجودة في بيروت، باعتبار أن هذا يشكل مطلبا رئيسا للوصول إلى أي اتفاق معنا، وقد أبلغنا خلال هذه المباحثات وكذلك بعد لقاء إخواني في القيادة الفلسطينية مع سيادتكم أن سوريا قد وافقت على استقبال 1200 مقاتل، بالإضافة إلى القيادات ومكاتبها. وإننا في ظل هذه الظروف الخطيرة، أرجو من سيادة الرئيس، في حال التوصل مع السلطة اللبنانية إلى اتفاق نهائي، أن يتم التعاون مع الإخوة في سوريا في هذا المجال بما يمكننا من حل مشكلة توزيع قواتنا المتفق على خروجها من بيروت، آملين أن تستوعب الشقيقة سوريا الذين لا يمكنهم أن يقصدوا بلدا آخر ولو بشكل مؤقت، إلى أن يتم تأمين الأماكن لهم. ونحن على ثقة من أن الروابط القومية بين الثورة الفلسطينية وسوريا الشقيقة ستجعلنا نواجه هذا الظرف بموقف موحد ومسؤولية مشتركة، وإنني لأشكر سيادتكم على هذا الموقف الأخوي الذي عهدناه دوما من الأخ الرئيس حافظ الأسد والشقيقة سوريا منذ انطلاقة ثورتنا".

وضع برنامج محدد لتأمين مغادرة المقاتلين الفلسطينيين من لبنان، مهلته ما بين 15 يوما إلى شهر. وتقرر أن يسلم الفلسطينيون للإسرائيليين قبل خروحهم كل السجناء الموجودين لديهم، مع معلومات كاملة عن السجناء الذين ماتوا في المعتقلات الفلسطينية

كانت هذه البرقية هي الاتصال الأول بين الأسد وعرفات منذ أشهر، وقد استغرب الأسد مضمونها وعدها محاولة للي ذراع سوريا وإحراجها من قبل الزعيم الفلسطيني. وجهت سوريا توضيحا لحلفائها الفلسطينيين، مثل جورج حبش ونايف حواتمة، قالت فيه إن المقاتلين يجب أن يظلوا حيث هم في مواجهة إسرائيل، نافية كل ما ورد في رسالة عرفات. ولكنها تساءلت: ما هو حجم المقاتلين الذين سيغادرون بيروت؟ ما هو حجم الذين ليست لهم جهات يتوجهون إليها وما هي جنسيات هؤلاء المقاتلين؟ ومع رفضها لمضمون رسالة عرفات، أبقت القيادة السورية الباب مفتوحا لمناقشة احتمال استقبال المقاتلين الفلسطينيين، شرط عدم القيام بأي عملية عسكرية من سوريا وعدم إقامة أي معسكر تدريب إلى بموافقة وعلم القيادة السورية.

بعدها بأيام، قرر الأسد الاستجابة إلى الطلب الفلسطيني، بما يرضي الأميركيين والفرنسيين ويقطع الطريق على المزيد من التوغل الإسرائيلي في لبنان. بين ليلة وضحاها، تغيرت لغة الإعلام الرسمي السوري وباتت الصحف الحكومية ترحب بانتقال الفلسطينيين إلى سوريا، وبأنهم سيجدون فيها، "كما كانوا في الماضي الملاذ والسند".

 استدعى الأسد قادة الفصائل الفلسطينية بدمشق وأبلغهم القرار وشروطه، مؤكدا على ضرورة الانضباط: "أنا لست الرئيس سركيس، ولا الملك حسين"، في إشارة إلى تدخل عرفات في الشأن الأردني وأحداث "أيلول الأسود" في 1970 ثم تدخله في لبنان بعد ذلك.

رحّب عرفات بقرار الرئيس السوري وفي 11 اغسطس أرسل رسالة ثانية للأسد: "فقد تسلمت وإخواني قراركم وقرار القيادة القطرية بانتقال جميع إخوانكم المجاهدين في بيروت المحاصرة لمن يرغبون في الذهاب إلى دمشق، بتقدير وارتياح كبيرين، وخاصة أن هذه العلاقات الخاصة بين الثورة الفلسطينية وسوريا تحديدا في هذه الظروف المصيرية الصعبة التي تواجه فيها هذا العدوان الإسرائيلي والمدعوم هذا الدعم اللا محدود من الولايات المتحدة الأميركية والتي تمده بأسباب جبروته وقوة عدوانه، وتحميه وتغطيه. إنني يا سيادة الرئيس أكتب إليك من بيروت الصامدة المحاصرة والتي تُصب عليها حمم القذائف جوا وبرا وبحرا، ليلا ونهارا. وإنني لأتوجه إليك يا سيادة الرئيس لتبذل جهدك مع إخوانك القادة العرب لتجمع أمر هذه الأمة أمام هذا الخطر المحدق بها من كل جهة. أشكركم باسمي وباسم إخواني المجاهدين وباسم منظمة التحرير الفلسطينية وباسم الشعب الفلسطيني على هذه اللفتة الطيبة التي تعودناها منك ومن سوريا الشقيقة. وإنها لثورة حتى النصر".

غيتي
ياسر عرفات يسير وإلى يساره القيادي الفلسطيني سعد صايل يسير مع مقاتلين فلسطينيين في بيروت، 26 يونيو 1982

برنامج الانسحاب

وضع برنامج محدد لتأمين مغادرة المقاتلين الفلسطينيين من لبنان، مهلته ما بين 15 يوما إلى شهر على أقصى تعديل. وتقرر أن يسلم الفلسطينيون للإسرائيليين قبل خروحهم بواسطة الصليب الأحمر الدولي كل السجناء الموجودين لديهم، مع معلومات كاملة عن السجناء الذين ماتوا في المعتقلات الفلسطينية. وفيما يلي نص اللائحة التي أصدرتها وزارة الخارجية الأميركية حول خطة رحيل "منظمة التحرير الفلسطينية" عن لبنان:

١- ستغادر قيادة ومكاتب ومقاتلو "منظمة التحرير الفلسطينية" لبنان إلى أماكن في بلدان أخرى تم ترتيبها مسبقا وفق جداول وترتيبات الرحيل المحددة في الخطة، والفكرة الأساسية في هذه الخطة تتماشى مع هدف حكومة لبنان بأن تنسحب جميع القوات العسكرية الأجنبية من لبنان.

٢- يحترم الجميع في لبنان وقفا لإطلاق النار احتراما تاما.

٣- سوف تسير مجموعة مراقبي الأمم المتحدة بين أعمالها في تلك المنطقة.

٤- إن القوات العسكرية الموجودة في لبنان سواء كانت لبنانية أو إسرائيلية أو سورية أو فلسطينية أو سواها لن تتدخل بأي حال من الأحوال في رحيل قيادة "منظمة التحرير" ومكاتبها ومقاتليها رحيلا آمنا ومضمونا وفي الوقت المحدد. كما أن غير المقاتلين من الفلسطينيين والذين ينصاعون للقانون والباقين في بيروت بمن فيهم أسر أولئك الذي سيخضعون للقوانين والأنظمة اللبنانية. وتقدم حكومتا لبنان والولايات المتحدة ضمانة السـلامة الملائمة على النحو التالي:

أ. تقدم الحكومة اللبنانية ضماناتها بناء على التأكيدات التي تكون قد حصلت عليها الفئات المسلحة والتي تكون على اتصال بها.

ب.  تقدم الولايات المتحدة ضماناتها استنادا إلى تأكيدات حصلت عليها من حكومة إسرائيل ومن زعامة بعض الفئات اللبنانية التي هي على اتصال بها.

ت. يوم الرحيل هو اليوم الذي تنتشر فيه العناصر المتقدمة (طلائع القوة المتعددة الجنسيات في منطقة بيروت) وفقا لترتيبات أعدت مسبقا بين جميع الأطراف المعنية، وهو اليوم الذي تبدأ فيه المجموعة أو المجموعات الأولية من عناصر "منظمة التحرير الفلسطينية" بالرحيل من بيروت وفقا للجدول المحدد (المرفق).

ث.  يكون قد تم تشكيل قوة متعددة الجنسيات مؤقتة من وحدات من فرنسا وإيطاليا والولايات المتحدة، بناء على طلب من الحكومة اللبنانية، لمساعدة القوات المسلحة اللبنانية في تنفيذ مسؤولياتها في هذه العملية، وتضمن القوات المسلحة اللبنانية رحيل قيادة ومكاتب ومقاتلي "منظمة التحرير الفلسطينية" من أي تنظيم في بيروت على نحو:

  • يضمن سلامة أفراد "منظمة التحرير" الذين سيرحلون.
  • يضمن سلامة الأشخاص الآخرين في منطقة بيروت.
  • تعزيز إعادة سيادة وسلطة الحكومة اللبنانية على منطقة بيروت.

بدأ حصار بيروت، في 14 يونيو واستمر حتى شهر أغسطس، ولم ينته إلا بانسحاب 14 ألف مقاتل فلسطيني، وزعوا على سوريا والأردن واليمن بينما توجهت قيادتهم إلى تونس

وقد جاء في تقرير وزارة الخارجية الأميركية أن على الجيش اللبناني المساهمة في عملية خروج الفلسطينيين بما يتراوح بين 7-8 كتائب عسكرية، تتألف كل واحدة منها من 2500-3500 رجل، وذلك بالتعاون مع قوى الأمن الداخلي اللبناني. وعلى لجنة الصليب الأحمر الدولي تقديم مساعدة لحكومة لبنان بطرق متعددة، بما في ذلك تنظيم وإدارة إجلاء الجرحى والمرضى من العناصر السورية والفلسطينية. وتكون قوات الجيش اللبناني نقطة الاتصال الرئيسة مع "منظمة التحرير"، وعلى الانسحاب أن يتم نهارا وليس في الليل، وعندما تتحرك القوافل برا من بيروت إلى سوريا دون توقف في الطريق. وعلى الجيش الإسرائيلي أن يخلي الطريق للفترة المؤقتة التي تمر فيها القافلة، تجنبا لأي صدام.

وقد سمحت الإدارة الأميركية لعناصر "منظمة التحرير" بحمل السلاح الفردي عند رحيلها (مسدس، بندقية، أو مدفع رشاش وذخيرة). وعليهم تسليم الأسلحة الثقيلة إلى الجيش اللبناني بمثابة "هدايا". ويحق للجيش اللبناني الاستعانة بأفراد من القوة المتعددة الجنسيات من تنفيذ عملية استلام السلاح والمعدات العسكرية، وعلى "منظمة التحرير" أن تقدم قبل رحيلها معلومات كاملة ومفصلة بشأن موقع ومكان وجود المعدات العسكرية المتبقية والألغام.

وقد حدد موعد مغادرة المجموعة الأولى من المقاتلين الفلسطينيين في الساعة الخامسة فجرا من مرفأ بيروت بتاريخ 21 أغسطس 1982. وتتألف المجموعة الأولى من الجرحى والمرضى، متجهين إلى الأردن والعراق. وفي اليوم التالي تبحر المجموعة الثانية إلى تونس، وبعدها في 24 أغسطس إلى اليمن الجنوبي، وفي الخامس والعشرين إلى اليمن الشمالي. أما المجموعة المتجهة إلى سوريا فتبدأ بالمغادرة برا في 21 أغسطس على أن يستمر الرحيل التدريجي لغاية 28 من الشهر نفسه، وعلى عملية الخروج أن تنتهي في 4 سبتمبر/أيلول 1982.

وقد بدأ حصار بيروت، في 14 يونيو واستمر حتى شهر أغسطس، ولم ينته إلا بانسحاب 14 ألف مقاتل فلسطيني، وزعوا على سوريا والأردن واليمن بينما توجهت قيادتهم إلى تونس، ضيوفا على الرئيس الحبيب بورقيبة. وفي 29 سبتمبر 1982، أنهت إسرائيل وجودها في العاصمة اللبنانية، الذي تخللته مجزرة صبرا وشاتيلا على يد إيلي حبيقة، ومقتل رئيس الجمهورية بشير الجميل، في الرابع عشر من الشهر نفسه. ولم تكترث الإذاعات الدولية للخبر، نظرا لانشغالها بوفاة أميرة موناكو وحسناء هوليوود المعتزلة غريس كلي، التي توفيت إثر حادث أليم في 14 سبتمبر 1982.

غدا حلقة رابعة: أميركا تبقى قواتها في لبنان وتطالب الأسد بطرد "مجانين إيران"

font change

مقالات ذات صلة