ماجدة ملكون... حين ترمّم المرأة المنازل المتشظية

معرضها الأخير في بيروت قبل تفاقم الحرب

Instagram
Instagram
ماجدة ملكون.

ماجدة ملكون... حين ترمّم المرأة المنازل المتشظية

تقتحم الفنانة اللبنانية ماجدة ملكون في معرضها الأخير "الأم الرئيسة" في صالة "مايا آرت سبيس" في أسواق بيروت، الذي ربما يكون آخر المعارض التشكيلية التي شهدتها العاصمة قبل اندلاع أحداث الحرب الأخيرة، العديد من المناطق الممنوعة والمحاصرة بتصنيفات جامدة وعصية على النقاش. المرأة التي ترصدها، تخترع وجودها الخاص كما تتلقى المؤثرات التي يصنعها العالم وتحتويها، خالقة بذلك مجالا يستقبل الاجتماعي والثقافي والسياسي، ويشكله ويرمّمه ويعيد إصلاح صدوعه وشقوقه، ويعالج جراحه برؤية أنثوية تحتج وتتألم وتمارس سطوتها في آن واحد، من دون أن تفارق ملامح الأمومة بوصفها كيانا أصليا جامعا.

الأمومة كما تصفها ملكون، تمتاز عن سياقات التداول العمومي لهذا المفهوم، التي تمنحها مساحة ملتبسة وظالمة، وتمنحها تكريما مشعرنا في الوقت الذي تحاصر فيه أدوارها وحقوقها، وتعادي طاقاتها ومفاهيمها في الحياة الخاصة والعامة.

صيغة "الأم الرئيسة" تنطوي على محاولة للتعريف من ناحية، وتحرص من ناحية أخرى على ردّ التعظيم الأمومي إلى مصادره ومراجعه الخاصة من خلال حضور الأم الاحتضاني الاحتوائي، خالقة بذلك مساحة جدلية ثورية تشتبك مع إفرازات العيش في منطقة شرق أوسطية لا تزال تحيط النساء بأسوار من الطقوس والمعتقدات، وتلجم قوتها وحضورها.

تقنية خطيرة

خيار "الميكسد ميديا" الذي حكم بناء اللوحات، ساهم في بناء حالة عميقة من التواصل الدلالي بين الخطاب والتقنية. رحابته وتجريبيته، وما يتيحه من عمليات تناغم ومزج وإضافة وتركيب وتوسيع لمصادر العمل ومواده، تسمح بتراكم طبقات كثيفة من المعاني في جو من الخطر، إذ أن هذه التقنية رحبة في إمكاناتها بقدر ما هي خطيرة. فساد أحد أجزائها أو عدم انسجامه مع النظام العام للعمل لا يضعفه وحسب، بل يفككه.

صيغة "الأم الرئيسة" تنطوي على محاولة للتعريف من ناحية، وتحرص من ناحية أخرى على ردّ التعظيم الأمومي إلى مصادره ومراجعه الخاصة

وترتبط فكرة الوسائط المتعددة كذلك بالحرية والرحابة، بقدر ما تتطلب الحكمة والإدارة والقدرة على تنظيم الاختلاف في المصادر وأنماط التركيب والجمع، وخلق ائتلاف جامع يصهر كل مواد العمل وخياراته في بنية واحدة منسجمة، لا يمكن فيها الإحالة إلى أحد المكونات بشكل مستقل، بل يغدو مستحيلا التعامل مع العمل في صيغته النهائية إلا من خلال نظرة كلية شاملة. من هنا، فإن المجال الاجتماعي والسياسي الذي تحرص الفنانة على شحن أعمالها بخطابه، يقول من خلال شروط تنفيذ هذا النوع من الفن إن بروز الفرد يتجلى في موقعه في تكوين صورة الجماعة، كما أن الجماعات لا يمكن أن تتماسك إلا من خلال اجتماع كل أفرادها. اللوحة التي تبنيها ملكون هي صورة عن البلاد في أحوالها وفي ممكناتها.

Instagram
ماجدة ملكون.

تحرير الشظايا 

تحتل الشظايا موقع المهمل والمتروك وغير الفاعل، فلا حيز لها في المعنى ولا في الوجود. ولطالما كانت المرأة في العالم عموما، وفي منطقتنا خصوصا، بنت الشظايا وقرينتها. تلملم ملكون الشظايا وترصها وتجمعها لتشكل منها مادة العمل ومعناه ومداه الاحتجاجي الذي يستعير مادته مما يُفترض به أن ينفيه.

تُروى الحكايات بكل مرارتها وقسوتها، وترتسم الإحالات السياسية والاجتماعية في قلب مشهد عام محتوى ومسيطر عليه، ولا يستطيع التحدث عن نفسه إلا عبر لسان امرأة تخوض معركة إنتاج الصفات والمواقع، وإدارة الصراعات والتحولات، وصناعة الحلول عبر خيارات بصرية لونية وشكلية وتقنية تشتغل على مفهوم التآلف. 

يخفي سطح اللوحة والحدود التي تحتلها المرأة فيها كنايات كثيرة واحتمالات غزيرة. الكلام المباح الذي تحاول أن تطلقه وتحوله إلى سرد مستمر لحكاية المرأة في منطقتنا عام وشامل بقدر ما هو خصوصي وفريد.

Instagram
"الأم" لماجدة ملكون.

تتحدث المرأة في اللوحات بألسنة عدة، فالبنية التراكمية والتنوع البصري الذي أسس لحركة خرائطية غنية بالإحالات المرجعية إلى ميادين الاجتماعي والسياسي، أتاح تدفق الخطاب الأنثوي بوصفه الخطاب الأصلي الذي يحتضن كل الخطابات ويستقبلها ويفهمها.

تلك القدرة على الاحتضان والاحتواء التي تبرزها أعمال المعرض تدافع عن طاقة الأنثوي وقوتها وقدرتها على خلق مجال للتقبل والتفهم، انطلاقا من خصوصية تجربة المرأة في تاريخها وحاضرها التي كان فيه جسدها وكيانها مسرحا لكل أنواع التمثلات الاجتماعية والبنى السلطوية والقيم الذكورية التي عززتها الصراعات والحروب. كل ذلك لم يجعل سيرتها مجرد انعكاس لما وقع عليها من ظلم، بل إن سرها الذي تلملم ملكون شظاياه بصبر ودقة وتأنٍّ يكمن في الفائض وفي ما لا يُلتقط مباشرة وفي القدرة الدائمة على التوسع والامتداد. تلتقط المرأة الأحداث وتشتبك مع التركيبات الاجتماعية والثقافة الزجرية والبنى السياسية وتحاصرها ضمن حدود تبدو مؤطرة بالجسد وملامح الوجه وتعبيراته، فتصبح متاحف للذاكرة ولما يجب أن يعبر ويتلاشى، في حين أن الفضاء الذي تتصل به، ينفتح على احتمالات البناء المتجدد ووعود التغيير والتطوير.

تلملم ملكون الشظايا وترصها وتجمعها لتشكل منها مادة العمل ومعناه ومداه الاحتجاجي

المرأة الشافية 

في لوحة تحمل عنوان "ندوب التاريخ"، تتراءى خلفية غبارية الطابع ينطبع عليها وجه امرأة تتألف مادته من مشاهدات وأشياء وخرائب وأطلال تحيل إلى وقائع صلبة ومرة احتلت تاريخ البلد وشكلت ملامحه، ولكنها تستحضر في هيئة ندوب وتبدو محاصرة بهذا التوصيف. لا يسمح لها أن تصنع وجه المرأة وملامحها وسيرتها، ولا أن تحتل نظرتها. الندوب تحيل إلى الذاكرة ولا بد من الاعتراف بها وتذكرها كي يكون النسيان ممكنا والعبور إلى مرحلة جديدة ميسرا وحقيقيا.

تستجيب بنية اللوحة لهذا السياق عبر هندسة النظرة، إذ أنها وعلى الرغم من أنها تتشكل من مادة الخراب التاريخي التي ترسم ملامحها، إلا أن تصميمها وموقعها في اللوحة يشيران إلى نظرتين متناقضتين: تتصل الأولى بالتحتي وتحتل في اللوحة موقعا يشي بالسقوط والاختناق والانكسار والأسى والحزن والألم، في مقابل نظرة أخرى تحتل موقعا علويا وتشي بالتحدّي والنجاة والقدرة على نفض غبار التاريخ وتجاوز ندوبه واستشراف المستقبل وصناعته.

Instagram
معرض ماجدة ملكون في "غاليري مايا آرت سبيس".

تخترق نظرة مختلفة فضاء لوحة تحمل عنوان "العزيمة"، وتطلّ على دلالات ترتبط بمفاهيم الترميم وإعادة البناء والنهوض وتجاوز حال الأنقاض التي سبق لها أن تحولت إلى أطلال، وأنجزت العلاقة معها في ميدان الذاكرة. المرحلة التي تلي الوقوف على الأطلال هي مرحلة بناء علاقات مختلفة مع الأماكن، بكل ما تحمله من مشاعر وسير وحيوات. الأطلال في التناول الدلالي للوحة "العزيمة"، ليست قادرة على استئناف الذاكرة وتمكينها بقدر ما تساعد في نفيها ومحوها، فالحالة الطللية متناقصة على الدوام وجامدة ولا تعترف بالمكان إلا في نكبته، وهي تصلح لحداد مرحليّ لا بد من تجاوزه لإعادة صناعة ذاكرة جديدة للمكان لا تقطع الصلة مع ما سبق له أن كان عليه، ولكنها تسمح بتواصل حياته في سياقات أخرى وجديدة تمثل جوهر عمل المرأة وفكرها، وتستعملها الفنانة للإضاءة على مجال الأنثوي الأمومي والبحث في مشاريعه.

لوحة "العزيمة" تحاول تفسير مفهوم العزم الأنثوي وتكثيف معناه بترميزات شفافة تحيل مباشرة إلى قيمة التواصل الذي تدافع عنه المرأة وتتبناه. الحروب والكوارث وسطوة التقاليد البالية والمعتقدات الخرافية، فككت البنى التي تدعم العلاقات بين الناس وتؤسس للتعاون الاجتماعي والتفاهم السياسي. صيغة الشظايا غير القابلة للالتئام والالتحام وإعادة التجميع، تسيطر على الأوضاع وتصفها وتتماهى مع قيم ذكورية سلطوية تشجع العنف والإقصاء. تحارب المرأة تلك البنى السائدة بفكرة "المنزل الجامع" الذي يحتل الأعمال، مشكلا أيقونة بصرية متكررة.

المرأة في لوحات ماجدة ملكون تحتضن المنازل وتحنو على المدمر منها وتعد بإعادة إعماره

لا منزل ممكنا في زمن الحرب والخراب وسطوة التطرف. استعادة المنزل والدفاع عن فكرته لطالما شكلت روح الخطاب الأنثوي الصارخ في وجه كل منظّري العنف والمعادين للحياة والسلام. فطالما بقي المنزل قائما وموجودا وجاهزا لتأمين الدفء والاحتضان والحب والراحة، فإن أمل العودة إليه يمثل أقصى رغبات الجنود والمحاربين. المنزل هو الفضاء الاجتماعي والثقافي المضاد للحرب والداعم للتسويات والسلام. من هنا نفهم ذلك الحرص الكبير الذي تبديه كل الكيانات المتطرفة في الفكر والسياسة والعسكر على تدميره، ونعثر على الرابط بين نشر التشريد المكاني والنفسي وصناعة الحروب الدائمة.

المرأة في لوحات ماجدة ملكون تحتضن المنازل وتحنو على المدمر منها وتعد بإعادة إعماره. تأخذ بيروت في رحلة في لوحة "بيروت تمشي" المكللة بإضاءة زرقاء تحيل إلى السكون والراحة والرحابة والصمت الذي يختزن كل الكلام. تكشف القوة غير القابلة للانكسار في لوحة تحمل هذا العنوان، وتبرزها في خياراتها اللونية التي توظف تدرجات الأسود والرمادي مع تكوينات مختارة من صور أمكنة. تحتضن اللوحة ملامح امرأتين تستمد كل منهما قوتها من الأخرى وتشكلان دائرة حنان ورعاية إحداهما للأخرى وللمكان العامر بالمنازل، فتكتمل دائرة القوة ويصبح كل ما تحيط به وتضمه عصيا على الانكسار.

font change

مقالات ذات صلة