"أبو نضال" يوفر "ذريعة" الاجتياح... وإيران تؤسس "حزب الله" بمظلة سورية (1 من 8)

الجيش السوري يقاتل "الحزب" في بيروت... وخدام حذر سفير طهران في 1987 من "اختراقات" في "الحزب"

المجلة
المجلة

"أبو نضال" يوفر "ذريعة" الاجتياح... وإيران تؤسس "حزب الله" بمظلة سورية (1 من 8)

بدأ الاجتياح الثاني للبنان في 6 يونيو 1982 وفي الثالث عشر من الشهر نفسه تمكن الجيش الإسرائيلي من تطويق العاصمة، بيروت بهدف إخراج رئيس "منظمة التحرير الفلسطينية" ياسر عرفات.

قبل بضعة أسابيع من الغزو الإسرائيلي اجتمع عرفات (الذي كان انتقل قبل سنوات من الأردن بعد أحداث "أيلول الأسود" في 1970) مع بعض مسؤوليه العسكريين في الجنوب وأبلغهم أن إسرائيل ستغزو لبنان، وعليهم الانسحاب من الجنوب عند بدء الغزو.

هذا ما حصل بالفعل، ولذلك سقط الجنوب خلال ساعات عندما بدأ الاجتياح. قبل ذلك بعام واحد، كانت إسرائيل قد قصفت مقرات "منظمة التحرير" في منطقة الفاكهاني في بيروت يوم 17 يوليو 1981، التي أطلق عليها الفلسطينيون اسم "جمهورية الفاكهاني". مساحة الفاكهاني كانت لا تتعدى كيلومترا مربعا واحدا، وقريبة من دوار الكولا الذي قصفته إسرائيل في 30 سبتمبر 2024. أدى قصف الفاكهاني سنة 1981 إلى مقتل ما لا يقل عن 300 فلسطيني، معظمهم من المدنيين، وجرح قرابة 800 شخص. تدخلت أميركا يومها وفرضت وقف إطلاق نار، التزم به عرفات، ولكن بقية المنظمات قامت بخرقه مرات عدة، ومنها "الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين–القيادة العامة" بزعامة أحمد جبريل القريبة من دمشق.

المجلة

ذريعة إسرائيل ومحاولة اغتيال

تمهيدا للتوغل البري سنة 1982، كانت إسرائيل قد اتخذت مجموعة من الخطوات، مثل ضم الجولان السورية (المحتلة منذ سنة 1967) إلى أراضيها في عام 1981، وشنّ سلسلة من الغارات العنيفة ضد المواقع الفلسطينية في الجنوب، وقصف المفاعل النووي العراقي في 1981. ولكن وزيرالخارجية الأميركي ألكسندر هيغ قال لإسرائيل إن بلاده لن تسمح بالغزو إلا في حال وجدت إسرائيل "ذريعة مناسبة" للقيام به، وهو ما حدث بالفعل يوم تعرض السفير الإسرائيلي في لندن لمحاولة اغتيال على يد تنظيم فلسطيني خارج عن سلطة عرفات و "منظمة التحرير الفلسطينية". أطلق مقاتلو صبري البنّا (أبو نضال) زعيم "فتح-المجلس الثوري"، النار على شلومو أرغوف أمام فندق دورشستر في لندن في 3 يونيو 1982، ودعا رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن حكومته إلى اجتماع فوري، توعد فيه بالرد على كل المنظمات الفلسطينية الموجودة في لبنان، علما أن تنظيم أبو نضال كان مقره بغداد وليس بيروت. وقد جاء قرار الغزو بإلحاح شديد من وزير الدفاع الإسرائيلي آرئيل شارون، الذي قاد الاجتياح بنفسه.

استفاد الأسد من انتصار "الثورة" في إيران عام 1979، وقد كانت هناك شخصيات إيرانية معارضة للشاه في لبنان، ما لبثت أن تسلمت الحكم في طهران

وردا على محاولة الاغتيال، قامت القوات الإسرائيلية باجتياز الحدود اللبنانية من عدة محاور، وأعلنت حكومة تل أبيب أن قواتها تقوم بعملية عسكرية لضمان أمن منطقة الجليل. وبقيادة شارون، اقتحمت القوات الإسرائيلية لبنان، وقدرت قواتها بـ60 ألف جندي مدعومين بطائرات حربية و800 دبابة، مع سفن حربية توجهت من مدينة أسدود إلى شاطئ مدينة صيدا. مساء 6 يونيو، عبرت القوات الإسرائيلية نهر الليطاني باتجاه صيدا وأمطرت لبنان، في الأيام العشرة الأولى من الهجوم بما لا يقل عن 3500 قذيفة، سقطت على الأحياء السكنية والمناطق العسكرية والمخيمات الفلسطينية في البلاد. في 11 يونيو وصل الجيش الإسرائيلي إلى منطقة خلدة بهدف احتلالها للسيطرة على مطار بيروت الذي كانت تسيطر عليه الفصائل الفلسطينية.

الحلف السوري–الإيراني وتأسيس "حزب الله"

كيف كان يفكر الأسد الحاضر في لبنان والمشغول في صراعه مع "الإخوان المسلمين" والخميني المنخرط في الحرب مع صدام؟

بعد اتفاق "كامب ديفيد" نهاية السبعينات، سعى الأسد وصدام لتوثيق العلاقات بينهما، لكن المحاولة أجهضت وتسلم صدام الحكم، وما غير حساباته وصول الخميني إلى السلطة في فبراير 1979.

ولوضع الأمر في سياقه، كانت المحادثات بين الأسد وصدام جارية، إذ أوفد الرئيس السوري وزير الخارجية عبد الحليم خدام إلى بغداد للقاء صدام. التقيا في أول يناير/كانون الثاني 1979، أي قبل أيام على "ثورة الخميني" ضد الشاه محمد رضا بهلوي. وحسب محضر رسمي سوري للقاء، فإن الإمام روح الله الخميني كان يسعى للعودة إلى المنطقة، ليكون قريبا من بلاده لحظة سقوط الشاه.وقال خدام إن الخميني، المقيم في فرنسا يومها، قد بعث برسالة إلى الرئيس الأسد، طالبا الإقامة في سوريا. لكن الأسد اعتذر ووعد بمحاولة ترتيب إقامة له في الجزائر. أجابه صدام بأن العراق، ومع أنه داعم لـ"الثورة" لا يريد التدخل في شؤون إيران الداخلية، فقال خدام إن القيادة السورية ترغب بإبقاء التواصل المباشر مع الخميني "احتياطا للمستقبل" لكي تتمكن من توظيفها في الصراع العربي-الإسرائيلي. أجابه صدام، الذي دخل بعد سنة واحدة فقط في حرب ضروس ضد الخميني: "لا مانع من إبقاء هذه الخطوط معه، ولكن دون وجوده على أرض سوريا". وقد سوغ صدام حسين قراره بالقول إنه يخشى أن يستولي الشيوعيون على الحكم في طهران، وأن التيار الديني وحده قادر على الوقوف في وجههم.

أ.ف.ب
المرشد الإيراني السابق روح الله الخميني

حسابات صدام كانت خاطئة. هذا ما ظهر في الشهر التالي. وفي المقابل، استفاد الأسد من انتصار "الثورة" في إيران عام 1979. وقد كانت هناك شخصيات إيرانية معارضة للشاه في لبنان، ما لبثت أن تسلمت الحكم في طهران. رعت السلطات السورية في لبنان منذ سنوات، دعم "حركة أمل"، وقادة "حزب تحرير إيران" الذين كانوا يعيشون في لبنان ويعتبرون رئيس "المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى" موسى الصدر مرجعهم. تسلم معظمهم أدوارا رئيسة بعد "ثورة الخميني"، بينهم أول رئيس وزراء في إيران؛ مهدي بازركان، ونائبه صادق طبطبائي ابن شقيقة الصدر، وإبراهيم يزدي وزير الخارجية الذي خلفه بعد استقالته، وصادق قطب زاده، ومصطفى شمران الذي تولى لاحقا وزارة الدفاع.

كان "حزب الدعوة" من المجموعات الأولى التي ساهمت في تأسيس "حزب الله"، وفي تلك المرحلة ركز "الحرس الثوري" على التنظيم والإعداد العقائدي والسياسي والتدريب واختيار العناصر

الأسد الذي رفض استقبال الخميني المطرود من العراق كي لا يزعج صدام، بادر بإرسال رسالة "تهنئة حارة" إليه بعد نجاح "ثورته"، أكد فيها الحرص على "التعاون الشامل". ثم أوفد له خدام في مطلع أغسطس الذي التقى بازركان، رئيس مجلس الوزراء وكبار المسؤولين الذي أكدوا أن "الثورة ستعمل على بناء علاقات قوية مع سوريا الشقيقة".

الأهم في هذه الزيارة لقاء خدام مع الخميني في قم الذي تحدث قليلا "وطلب مني نقل شكره للرئيس الأسد، وتحياته له، وحرصه على العلاقات المتينة مع سوريا". يعلق خدام: "كانت المقابلة قصيرة رمزية، لكنها كانت بالغة الأهمية، من حيث معرفتي بتصميم الرجل الذي لمسته في كل عبارة كان ينطق بها". زاد: "بعد عودتي إلى دمشق، عرضت مجريات الزيارة على حافظ، ووجدنا أن الظروف متوفرة للتعاون مع النظام الجديد في إيران".

بالفعل هذا ما حصل. بني تحالف كان ركنا أساسيا في الشرق الأوسط، من أدواته الرئيسة تأسيس "حزب الله" في لبنان، ساهم في إعطاء الضوء الأخضر له شخصيات إيرانية كانت معارضة وتقيم في لبنان، سرعان ما أصبحت صاحبة القرار بعد "الثورة الخمينية".

كان الدخول الإيراني الأوسع الفاعل إلى لبنان خلال الاجتياح الإسرائيلي للأراضي اللبنانية في مطلع يونيو عام 1982، إذ اتخذت آنذاك القيادة الإيرانية قرار إرسال لواء وخبراء من "الحرس الثوري" إلى سوريا التي أدخلت قواتها إلى لبنان في 1976. بالفعل، وصل لواء "الحرس"الإيراني بعد أيام قليلة من بدء القتال، وتوجه القسم الأكبر منه إلى لبنان، حيث ثكنة الشيخ عبد الله، في منطقة بعلبك-الهرمل.

أ.ف.ب
حزب الله خلال مسيرة في الضاحية الجنوبية لبيروت احتفالا بالذكرى السنوية الأولى للهجوم الانتحاري الذي استهدف جنودا إسرائيليين في كفركلا، جنوب لبنان

 بدأت هذه المجموعة بتأسيس "حزب الله"، وكان "حزب الدعوة" من المجموعات الأولى التي ساهمت في هذا التأسيس، وفي تلك المرحلة ركز "الحرس الثوري" على التنظيم والإعداد العقائدي والسياسي والتدريب واختيار العناصر بعد تدقيق، تجنبا لأي اختراقات، وانصراف "حزب الله" إلى المقاومة وعدم الانجراف في الشؤون الداخلية اللبنانية.

ويكتب وزير الخارجية السوري عبد الحليم خدام في أوراقه: "توجهت مجموعة من اللواء القادم من إيران إلى لبنان إلى منطقة بعلبك والهرمل، ولم تشارك في الحرب التي توقفت بعد قرار وقف إطلاق النار، ولكنها فعلت ما هو أهم من ذلك". ويشير إلى أن مجموعة "الحرس الثوري" ركزت على:

"أ – التنظيم والإعداد العقائدي والسياسي والتدريب واختيار العناصر بعد تدقيق تجنبا لأي اختراقات.

ب – كانت التوجّهات الحاسمة تقضي بانصراف (حزب الله) إلى المقاومة وعدم الانجراف في الشؤون الداخلية اللبنانية، وبالتالي التركيز على الإعداد والتدريب، والقيام بعمليات نوعية ضد القوات الإسرائيلية المحتلة.

ج – التركيز القوي على السلوك الشخصي من جهة وعدم الانزلاق إلى ممارسات التنظيمات المسلحة الموجودة في الساحة اللبنانية.

د – التوسع في تنمية (الحزب) وفي عملية الإعداد والتدريب العسكري والعقائدي بالإضافة إلى كسب عطف المواطنين في منطقة الجنوب.

ه – قدمت إيران إلى (حزب الله) مساعدات عسكرية من حيث التدريب والتأهيل والتسليح والتمويل بالإضافة إلى مساعدات للقيام ببعض الخدمات الاجتماعية، وأسس (الحزب) مؤسسات كان لها دور كبير في عملية احتواء المسلمين الشيعة في لبنان، كما وظّفت إيران علاقاتها مع سوريا في بناء (حزب الله) وفي دعمه".

في فبراير 2008، قتل عماد مغنية على أيدي الاستخبارات الإسرائيلية في كفر سوسة بدمشق. وفي سبتمبر، 2024 كشفت تفجيرات "البيجر" والاغتيالات والغارات، حجم اختراق إسرائيل لـ"حزب الله"

كان الموقف السوري عمليا، في مجمله يتعاطف مع "حركة أمل"، وكان الأسد وحده يُبدي التعاطف مع "حزب الله" ويعطي التوجيهات لقيادة الجيش والأجهزة الأمنية في مساعدته، حسب قول خدام. ويضيف: "الرئيس بنى موقفه على أن (الحزب) أصبح قوة المقاومة الرئيسة بعد تراجع (حركة أمل) والأحزاب الوطنية، وبالتالي يجب الاعتماد عليه في مقاومة إسرائيل واستنزافها. في المقابل، كان معظم الضباط السوريين في لبنان يتعاطفون مع (حركة أمل) ولا يميلون إلى (حزب الله)؛ باعتباره حزبا إسلاميّا، وهم- أي الضباط السوريين- لا يزالون تحت وطأة الحوادث الدامية التي وقعت في سوريا بين الدولة والإخوان المسلمين".

لم يكن الأسد، حسب اعتقاد خدام "قلقا من النفوذ الإيراني، كما لم يكن في ذهنه أن إيران تبني قاعدة عسكرية وسياسية في لبنان تهدف لخدمة استراتيجيتها، وأن لديها طموحا في التوسع الإقليمي وهي حليفة نتعاون معها في مواجهة النظام العراقي".

وفي المقابل، قدمت إيران إلى "حزب الله" تحت المظلة السورية، مساعدات عسكرية والتدريب والتأهيل والتسليح وتمويل الخدمات الاجتماعية.

ومن المرات النادرة التي حصلت مواجهة بين الجيش السوري و"حزب الله" كانت في فبراير 1987 عندما قتل أكثر من عشرين عنصرا من "الحزب" في ثكنة فتح الله في بيروت لدى قرار الأسد بسط الأمن في العاصمة بناء على طلب قوى لبنانية. ومن اللافت أن السفير الإيراني في دمشق حسن أختري طلب لقاء خدام في 3 مارس/آذار للاحتجاج على الحادثة. وحسب محضر الاجتماع، فإن خدام انتقد قول رئيس الوزراء الإيراني مير حسين موسوي من أن "من يمد يده على (حزب الله) يخدم إسرائيل وأميركا" وأن "بعض الشخصيات في إيران تضع سوريا بكفة و(حزب الله) في كفة أخرى".

وقال: "عندما تأسس (حزب الله) اعتبرناه حزبا صديقا وقدمنا له المساعدة والدعم، واستوعبنا كل العمليات السيئة التي قامت بها بعض عناصره ضد أصدقاء لسوريا في لبنان وضد جنود سوريين، ولم نتصرف بردود فعل". وتابع: "لكنك تذكر أننا نبهنا مرات عديدة لاختراقات موجودة في هذا التنظيم من قِبل ثلاث جهات: من قِبل عرفات، ومن قِبل جماعة العراق، ومن قِبل المكتب الثاني اللبناني، وكنا نحذر من أخطار هذه الاختراقات لأننا كنا نخشى أن تقوم هذه الزمر التي اخترقت (حزب الله) بالقيام بأعمال تسيء إلى دوره في لبنان، وتسيء إلى علاقاته مع سوريا، وللأسف هذه التنبيهات لم تعط الأهمية اللازمة من قيادة (حزب الله)".

سأل خدام السفير: "هل عماد مغنية بـ(حزب الله) أم لا؟"، أجاب: "أنا لم ألتقه ولا أعرفه، وحسب معلوماتي فهو ليس من التشكيلات، وليس من (حزب الله) ". وتابع: "بالنسبة لما تفضلتم به بأن هناك اختراقا في (حزب الله) لا أنفي ذلك، عرفات يمكن أن يخترق بعض العناصر، ولكن إذا نظرنا إلى هذا الحزب وأهدافه المعلنة لا يمكن أن يتفق مع عرفات". فرد خدام: "ميزت بين (حزب الله) كقيادة وبعض العناصر".

في فبراير 2008، قتل عماد مغنية (الحاج رضوان) على أيدي الاستخبارات الإسرائيلية في حي كفر سوسة في دمشق. وفي سبتمبر، كشفت تفجيرات "البيجر" والاغتيالات والغارات، حجم اختراق إسرائيل لـ"حزب الله"، ما مهد لبدء الحرب الإسرائيلية الرابعة في لبنان.

غدا حلقة ثانية: رسالة من بيغن إلى الأسد: لا نريد قتالكم... ويجب إبعاد الفلسطينيين عن الحدود

font change

مقالات ذات صلة