رحلة غيرت الحربُ وجهتها

لم أتفاجأ بضخامة المعرض بقدر ما تفاجأت بشدة الإقبال عليه

رحلة غيرت الحربُ وجهتها

تغيرت وجهتنا، أنا وزوجتي، بعد زيارتنا إلى الرياض تلبية لدعوة من معرضها الدولي للكتاب. كان علينا الرجوع إلى بيروت، إلا أن الحرب المتفاقمة في لبنان جعلتنا نرضخ لضغط من أبنائنا الثلاثة في الولايات المتحدة الأميركية، الذين ألحوا علينا بوجوب القدوم إليهم، وعدم المخاطرة بالعودة إلى بيروت.

أشعر بالخجل وأنا أذكر هذا التغيير الذي أحدثته حرب ستكون لها تأثيراتها العميقة في المنطقة العربية وفي العالم كله. وكنت قبل السفر إلى الرياض قد ترددت كثيرا، متوجسا مما قد يفاجئنا في أثناء غيابنا عن المدينة التي لم نرغب يوما في الابتعاد عنها طويلا. هكذا قادتنا ظروف الحرب إلى أميركا. وعندما جلست للكتابة عن الرحلة، وخصوصا عن الرياض ومشاركتي في البرنامج الثقافي لمعرضها، لم أجد بدا من هذه المقدمة.

لم أتفاجأ بضخامة المعرض، بقدر ما تفاجأت بشدة الإقبال عليه. لم أشهد مثل هذا الإقبال في أي معرض آخر للكتاب. رحت أتساءل: هل هؤلاء الزوار جميعا عشاق للقراءة؟ وأنا في الزحمة الشديدة التي تعرقل التجول في مساحات واسعة، يحتاج فيها المرء إلى أكثر من دليل، والأدلاء متوفرون دائما، نظرا لحسن التنظيم، ولتوفر الوسائل التقنية التي تجعل الزائر يهتدي إلى ما يبحث عنه.

أفراد وعائلات تزدحم بهم الممرات. ربما هم يجدون في أيام المعرض العشرة (من 26 سبتمبر/أيلول إلى 5 أكتوبر/تشرين الأول) فرصة للتنزه أو التجول بين أكشاك الكتب. ولو كانت نسبة المتعطشين إلى القراءة بينهم قليلة، لظلت أعداد الباحثين عن الكتب كبيرة جدا. فكيف إذا كانت تلك النسبة متوسطة أو عالية؟

كانت أيام المعرض حافلة باللقاءات والندوات والأمسيات. وأمسيتي كانت في آخر البرنامج الثقافي الطويل. أمسيتي كانت الفعالية الأخيرة بين فعاليات المعرض. قلت لبعض الأصدقاء الذين أعربوا عن رغبتهم في حضور الأمسية : سنقيمها ثم نقفل المعرض. والطريف أنها كانت من الساعة العاشرة والنصف إلى الساعة الثانية عشر ليلا.

أقيمت الأمسية في قاعة مسرح كبيرة. ولم يكن الحضور متناسبا مع حجم القاعة. قارب الحاضرون ستين شخصا. ومع ذلك، قال لي بعض الأصدقاء إن معظم الندوات في المعرض لم يكن فيها مثل هذا العدد. جعلنا الأمسية قسمين: في الأول قرأت بعض قصائدي الجديدة، وفي الثاني دار حوار حول الشعر أجبت فيه عن أسئلة الحاضرين. إذن، نستطيع القول إن الحضور الكثيف في ممرات المعرض لا ينعكس إلا حضورا قليلا في قاعة المسرح التي خصصت للندوات على أنواعها.

بعد أمسية المعرض. بادر الدكتور عبدالله السفياني إلى دعوتي لإحياء أمسية ثانية في مقهى "أدب". والدكتور عبدالله هو شاعر وأستاذ جامعي ومؤسس دار "أدب" للنشر، ويشرف على صالون "أدب" الذي يستضيف الندوات المتنوعة، كما يشرف على مقهى "أدب" الذي أقمنا فيه الأمسية، التي كان الحضور فيها أكثر اندفاعا وحماسة لقضايا الشعر.

لم أتفاجأ بضخامة المعرض، بقدر ما تفاجأت بشدة الإقبال عليه. لم أشهد مثل هذا الإقبال في أي معرض آخر للكتاب. رحت أتساءل: هل هؤلاء الزوار جميعا عشاق للقراءة؟

تعددت لقاءاتنا في الرياض. بعضها بأصدقاء قدامى، وبعضها الآخر أطلق صداقات جديدة. من هذه الأخيرة لقاؤنا بالشاعر محمد عبد الباري، الذي كنت قد سمعت به دون أن أقرأ له. محمد شاعر سوداني، ولد ونشأ في الرياض. مفعم بالحيوية، لا يهدأ. وقد أخبرني بأنه في السنوات القليلة الماضية عاش متنقلا بين مدن الغرب كباريس ونيويورك. أهداني خمسة دواوين له. تصفحت الديوان الأحدث من حيث الصدور في الطائرة إلى أميركا. فإذا به مناسب لرحلتنا المفاجئة هذه. عنوانه "أغنية لعبور النهر مرتين"، وهو قصيدة طويلة، أو بالأحرى قصائد في قصيدة موضوعها نيويورك، كُتبت فيها وعنها  ومن خلالها وحيالها... وأكثر من ذلك. هذه القصيدة تنطوي بالفعل على اثنتي عشرة قصيدة تتناول المدينة (العالمية) من نواح مختلفة، وفي فصول زمنية مختلفة، ومن منطلقات متعددة. 
وكان لنا، من المصادفات الجميلة في الرياض، لقاؤنا بالشاعرة الصديقة سارة الزين، التي أتت من مكان بعيد لحضور أمسيتي في مقهى "أدب". ولكنها لم تكتف بذلك، بل أصرت على اصطحابنا، أنا وزوجتي، في اليوم التالي، الذي كان اليوم الأخير لزيارتنا، في جولة بمدينة الرياض، عرفتنا إلى بعض معالمها، وانتهت بنا إلى مكان تراثي اسمه "القرية النجدية".
سارة شاعرة لبنانية تقيم في الرياض، وتدير مؤسسة "مدارك" للنشر. وهي نشيطة جدا، وباتت خبيرة بعملها وبعالم النشر. تناولنا الطعام في القرية النجدية، وكانت جلستنا فيها ذات جو شتائي حميم، إذ كان يعلونا ما يشبه الغيم، الذي يتناثر منه رذاذ ناعم. كل هذا إضافة إلى دماثة سارة ولطفها، وإصرارها على التحدث بالعربية الفصحى، إصرارا يجعل الحديث أكثر وضوحا ونضارة.

font change