نوبل للاقتصاد 2024: لماذا تستمر الفجوة بين الأغنياء والفقراء في الاتساع؟

فسر الفائزون الأسباب الكامنة وراء التفاوتات الاقتصادية و"جذورها الاستعمارية" ودور الديمقراطية في تعزيز الاقتصاد

المجلة
المجلة

نوبل للاقتصاد 2024: لماذا تستمر الفجوة بين الأغنياء والفقراء في الاتساع؟

هناك سياج يفصل بين مدينتين تحملان الاسم نفسه، نوغاليس، عند الحدود المشتركة بين الولايات المتحدة الأميركية والمكسيك، تحديدًا بين ولايتي أريزونا الأميركية وسونورا المكسيكية. الفرق ملحوظ للغاية في طبيعة الحياة شمال السياج وجنوبه. فعلى الرغم من أنّ كلتا المدينتين تحملان الاسم نفسه وتنعمان بالمناخ والثروات والموارد نفسها، وبين سكانها ثقافات مشتركة، ولا يفصلهما جغرافيًا سوى خطوات بسيطة سيرًا، إلا أنّ الفجوة الاقتصادية بينهما واضحة تمامًا.

على سبيل المثل، في شمال السياج، يتمتع سكان نوغاليس الأميركية بمستوى عالٍ من التعليم، وتتوفر لديهم الخدمات الصحية، مما يعود إيجابًا على متوسط أعمارهم الطويل، كما أن أحوالهم المادية جيدة، ولديهم مؤسسات مزدهرة وينعمون بنظام سياسي يوفر للسكان حرية اختيار ممثليهم السياسيين. لكن الوضع مختلف عند جنوب السياج. فمستوى الفقر أعلى، والخدمات أقل، ولا توجد ديمقراطية تسمح للسكان بإزاحة السياسيين الفاسدين، ويصعب إنشاء مؤسسات مزدهرة فيها.

هنا يبرز سؤال، يبدو سهلًا، لكنه في الحقيقة معقد، وهو: "لماذا تستمر الفجوة بين الأغنياء والفقراء؟"، وهو الذي يقود إلى سؤال آخر أكثر شمولًا "لماذا بعض الدول غنية وأخرى فقيرة؟".

لأنّ التاريخ يفصح عن الحقائق، قرر ثلاثي "نوبل للاقتصاد" العودة إلى عصر الاستعمار، عندما انطلقت الجيوش الأوروبية حول العالم لاستيطان مناطق جديدة والحصول على ثرواتها الطبيعية توصلا الى النتائج

احتاج الاقتصاديون سنوات عدة للوصول إلى تفسيرات منطقية لهذه الفجوات بين البشر، فبينما ينعم بعضهم في عيش رغد، يعاني آخرون من الفقر والجوع.

لجأ ثلاثة علماء اقتصاد إلى الماضي وبحثوا بين سطور التاريخ، وربطوا ما توصلوا إليه من معلومات بالعلوم الاقتصادية والسياسية، وخرجوا بتفسيرات منطقية توضح الجذور الاستعمارية المسببة لهذا التباين بين المدينتين، وينطبق النمط نفسه على الدول الأخرى، مما قاد إلى فهم أوسع لأهمية المؤسسات في تحقيق الرخاء في المجتمعات ودور السيادة القانونية في ذلك. وتوّجت جهود هؤلاء العلماء بجائزة نوبل في الاقتصاد في 14 أكتوبر/تشرين الأول 2024. أما العلماء الثلاثة فهم: دارون عجم أوغلو، وهو أول تركي يحصل على جائزة نوبل في الاقتصاد، وسايمون جونسون، وجيمس روبنسون، والأخيران أميركيان من أصول بريطانية. فما القصة؟

.أ .ف. ب
الفائزون بنوبل للاقتصاد 2024، من اليسار إلى اليمين الأميركي التركي دارون أسيموغلو والأمريكيان البريطانيان سيمون جونسون

في العودة إلى وصية ألفرد نوبل، الكيميائي الذي خلدت جائزة نوبل المرموقة اسمه، فان الاقتصاد لم يكن ضمن وصيته، لكن في عام 1968، قرر البنك المركزي السويدي (Sveriges Riksbank)، دعم تمويل جائزة جديدة في الاقتصاد تخليدا لذكراه. لذلك، يضم تصميم ميدالية نوبل للاقتصاد عبارة باللغة السويدية مفادها "بنك السويد المركزي، في ذكرى ألفرد نوبل، 1968". وتخضع جائزة نوبل للاقتصاد لإشراف من الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم.

انطلقت الجائزة للمرة الأولى عام 1969، ومنذ ذلك الحين حصل على الجائزة 96 عالمًا، من بينهم ثلاث نساء فقط، هن: إستير دوفلو في 2019، إلينور أوستروم في 2009، وكلوديا غولدن عام 2023

وانطلقت الجائزة للمرة الأولى عام 1969، ومنذ ذلك الحين حتى عام 2024، حصل على الجائزة 96 عالمًا، من بينهم ثلاث نساء فقط، هن: إستير دوفلو عام 2019، إلينور أوستروم عام 2009، وكلوديا غولدن عام 2023. وبذلك، تُعد جائزة نوبل في الاقتصاد الأقل حظًا للنساء مقارنة بالكيمياء والفيزياء، والأدب والطب والسلام.

حكاية المدينتين التوأم والاستعمار

"المدينتان التوأم"، هكذا يُطلق على مدينتي نوغاليس، التي تخضع إحداهما للسيادة الأميركية والأخرى للمكسيك، فُصلتا بالسياج في أغسطس/آب 1918، بعد معارك متكررة، أسفرت عن إصابة ومقتل مواطنين حول طرفي السياج، لتنمو الفجوة بين المدينتين رويدًا رويدًا. 

ولأنّ التاريخ يفصح عن الحقائق، قرر ثلاثي "نوبل" العودة إلى عصر الاستعمار، عندما انطلقت الجيوش الأوروبية حول العالم لاستيطان مناطق جديدة والحصول على ثرواتها الطبيعية. كان هناك مناطق تتمتع بكثافة سكانية مرتفعة من السكان الأصليين، والذين أبدوا مقاومة عالية ضد الاستعمار، ليخضعوا بعدها للنظام المستعمر الذي يشجع المستوطنين الأوروبيين على الانتقال إلى المستعمرات.

شكلت المستعمرات ذات الكثافة السكانية المنخفضة، فريسة أسهل للمستعمر، فلا مقاومة أو احتجاج، بحيث يضطر السكان الأصليون غالبًا للاستسلام 

ونظرا للكثافة السكانية المرتفعة في هذه المستعمرات، بقيت هجرة الأوروبيين محدودة. إلا أن المستعمر لا يتوانى عن الاستيلاء على مؤسسات المستعمرات ومواردها، ليوظفها في خدمة مصالحه الخاصة على حساب السكان الأصليين، وتُهدر الحقوق الاجتماعية والسياسية، وعلى المدى البعيد، تُظهر المستعمرات الفقر.

إقرأ أيضا: استقرار النقد حق من حقوق الإنسان

أما في حالة المستعمرات ذات الكثافة السكانية المنخفضة، فقد شكلت فريسة أسهل للمستعمر، فلا مقاومة أو احتجاج، بحيث يضطر السكان الأصليون غالبًا للاستسلام. كما أن هذه المستعمرات توفر مساحة كبيرة للمستوطنين الأوروبيين. وبالفعل، وجد العلماء أنّ أعداد المستوطنين الأوروبيين أكثر في تلك المناطق، ويميلون إلى إنشاء مؤسسات قوية، تحفظ لجميع المواطنين حقوقهم السياسية والاقتصادية.

أ.ف.ب.
تمثال ألفريد نوبل، خارج معهد نوبل في أوسلو، النرويج، 25 سبتمبر 2024

هذا يعني أنّ طبيعة المنطقة من حيث الكثافة السكانية وأسلوب تعامل المستعمر مع المنطقة والسكان الأصليين، أديا إلى ظهور تباين في قوة المؤسسات الاقتصادية وتوافر الحقوق السياسية، وانعكس ذلك جليًا في مستقبل المناطق التي عاشت فيها أعداد كبيرة من المستوطنين الأوروبيين والمناطق التي قلت فيها أعدادهم.

لاحظ ثلاثي "نوبل للاقتصاد" أنّ هناك بلادا كثيرة يختلف حالها اليوم تمامًا عن وضعها قبل مئات السنين. فهناك بلاد تحولت من الغنى إلى الفقر، وأخرى تحولت من الفقر إلى الغنى، في إنقلاب للموازين

بالعودة إلى المدينتين التوأم، فقد استعمرت إسبانيا جنوب السياج، وأنشأت مؤسسات إسبانية، وصارت بعد ذلك المدينة تابعة للمكسيك. وفي شمال السياج، كان المستعمر مختلفًا، بريطانياً أكان أم من دولة أوروبية أخرى، لا يهم، لكن المدينة آلت إلى نطاق الولايات المتحدة، التي منحتها مؤسسات قوية وحرية سياسية، مما وفر لسكانها مقومات الغنى. وهذا ما أثبته ثلاثي "نوبل".

انقلاب الموازين

لاحظ ثلاثي "نوبل للاقتصاد" أيضًا أنّ هناك بلادا كثيرة يختلف حالها اليوم تمامًا عن وضعها قبل مئات السنين. فهناك بلاد تحولت من الغنى إلى الفقر، وأخرى تحولت من الفقر إلى الغنى، في ما يشبه انقلابا في الموازين. ويعود ذلك بصورة كبيرة إلى سياسة المستعمر والكثافة السكانية، تلك العوامل التي ساهمت في تحديد مستقبل المستعمرات على المدى البعيد، بغض النظر عن موارد تلك المستعمرات وثرواتها.

وللتأكد من أنّ الاستعمار كان عنصرًا حاسمًا، درس ثلاثي "نوبل" المناطق التي لم تتعرض للاستعمار وتمتعت بثراء ورخاء في الماضي، ووجدوا أنها لم تُظهر أنماطًا مماثلة لتلك التي تعرضت للاستعمار.

ساهمت الثورة الصناعية، في بداية القرن الـ19، في إبراز الاختلافات في قوة المؤسسات، إذ استطاعت المؤسسات ذات الأسس القوية أن تثبت أقدامها بسرعة وتوظف التقنيات الحديثة في تقدمها الصناعي

كذلك، وجدوا أنّ هذا الانقلاب في الموازين، تأثر بانتشار الأمراض. فقد كان هناك تفاوت واضح في قوة المؤسسات، فالمناطق التي عانى فيها الأوروبيون، تواجه اليوم أنظمة اقتصادية ضعيفة وفقرًا وفسادًا. وساهمت الثورة الصناعية، في بداية القرن التاسع عشر، في إبراز الاختلافات في قوة المؤسسات، إذ استطاعت المؤسسات ذات الأسس القوية، والتي تعود بالنفع على السكان على نطاق واسع، أن تثبت أقدامها بسرعة وتوظف التقنيات الحديثة في تقدمها الصناعي.

.أ .ف. ب
الأمين الدائم لأكاديمية العلوم هانز إليغرين (في الوسط) وجاكوب سفينسون (يسار) ويان تيوريل من جمعية نوبل أمام شاشة تعرض الفائزين بنوبل للاقتصاد

وساد اعتقاد بأنّ المناطق التي تتمتع بمناخ معتدل، لديها فرص مذهلة لتحقيق إنتاجية اقتصادية كبيرة مقارنة بتلك الموجودة في المناطق الاستوائية. وعكف ثلاثي "نوبل" على دراسة هذا العامل أيضًا، ووجدوا أنّ الدول الأكثر حرارة، قد تكون فقيرة بسبب مؤسساتها الاجتماعية، وليس المناخ، كما هي حال مدينتي نوغاليس، فهما تتمتعان بالمناخ نفسه، لكن قوة مؤسسساتهما مختلفة.

الديمقراطية

أدرك علماء "نوبل" أنّ الديمقراطية طرف حاسم في حل تلك المعضلة، فغالبية الصراعات بين الحكومات والشعب تدور حول الصدقية والوعود المتعلقة بالإصلاحات الاقتصادية. فالشعوب لا تثق في الأنظمة الحاكمة التي تستغل النظام السياسي خدمة لمصالحها على حساب الشعب. أما الأنظمة السياسية التي تخدم الشعب وتتيح له فرصة استبدال القادة الذين لا يفون بوعودهم، فهي الأكثر تقبلًا من الشعب، والأكثر ميلًا لإصلاح الأنظمة الاقتصادية. 

وضع العلماء نموذجًا يوضح ظروف تشكل المؤسسات والسياسات، ويتكون من ثلاثة عناصر رئيسة : كيفية التعامل مع الموارد، ومدى قدرة الشعب على جمع الحشود والاحتجاج، والتزام الحكومات الوعود

وعندما تصل الضغوط الاقتصادية إلى ذروتها، تنطلق الشعوب في احتجاجات غرضها إحداث تحولات في نظامها السياسي إلى الديمقراطية، وقد تكون هذه الاحتجاجات سلمية، مما يساهم في زيادة أعداد المحتجين، ومن الممكن أن تكون عنيفة، وتضطر الأنظمة الحاكمة في أحيان كثيرة للتحول إلى الديمقراطية وتسليم السلطة.

نماذج تشكل المؤسسات والسياسات

وضع العلماء نموذجًا يوضح ظروف تشكل المؤسسات والسياسات، ويتكون من ثلاثة عناصر رئيسة:

1- كيفية التعامل مع الموارد، وما إذا كانت سلطة اتخاذ القرار في شأنها للشعب أم للفئة الحاكمة.

2- مدى قدرة الشعب على جمع الحشود والاحتجاج، مما يعني أنّ سلطته تساعده في اتخاذ القرارات.

3- التزام الحكومات الوعود، وإلا تسليم السلطة إلى الشعب لاتخاذ القرارات.

استخدم العلماء هذا النموذج في شرح معايير التحول إلى الديمقراطية في دول غرب أوروبا في نهاية القرن التاسع عشر، مثلما حدث في بريطانيا، عندما احتج الشعب ضد السلطة الحاكمة، فما كان منها إلا أن تقاسمت السلطة مع الشعب. وكان هناك وضع مماثل في السويد في بداية القرن العشرين. وبالتالي، نجح النموذج في شرح الأسباب وراء انتشار الديمقراطية في بعض الدول، بينما انعدمت في دول أخرى.

إقرأ أيضا: جانيت يلين ... نابغة اقتصادية ومفاوضة عنيدة

بذلك، ساهم حائزو جائزة نوبل في الاقتصاد لهذا العام في تفسير الأسباب الكامنة وراء التفاوتات الاقتصادية بين دول العالم والجذور الاستعمارية لتلك التفاوتات، ومدى أهمية دعم الديمقراطية ودورها الفاعل في تعزيز الاقتصاد والارتقاء بالبلاد.

نبذات تعريفية عن الفائزين:

1- دارون عجم أوغلو

وُلد في 3 سبتمبر/أيلول 1967، إسطنبول، تركيا

يعمل في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، الولايات المتحدة الأميركية.

2- سايمون جونسون

وُلد عام 1963، في شفيلد، المملكة المتحدة

يعمل في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا (MIT)، الولايات المتحدة الأميركية.

3- جيمس روبنسون

وُلد عام 1960

يعمل في جامعة شيكاغو، الولايات المتحدة الأميركية.

font change

مقالات ذات صلة