هل من ضرورة ومقدرة بعد على التفكير في القتل والخراب المتأرثين في هذه البلاد المشلولة الإرادة والذاكرة، والذاهبة في التصدع والضياع منذ أجيال كثيرة؟ وبقايا أو فضلات حياتنا وأوهامنا فيها، هل تسعفنا لنقول أي شيء بعد عن مآسيها السابقة، وعن الكارثة التي تحل بها اليوم؟
وهل يفيد بعد أن نصوغ أو نلخص مأساتها بالقول إنها بلاد لم يرض بها معظم جماعاتها ومعظم أهلها، بل هم ينفرون منها لأنهم عاجزون عن محاكاة أو استعادة عظمتها الإمبراطورية القديمة الآفلة، ويعتبرون أنها ولدت مفتعلة، ناقصة ومعتلة، في أزمنتها المعاصرة؟
وهذا كله بعدما قامت قوى غريبة، آثمة وشديدة البأس، بهندستها لهم على نحو ومثال يناسب أهواءها ومصالحها. ولم تكتف تلك القوى بهذا ولا بغرس نبتة سامة في شطر من بلادهم، بل سجنتهم في حدودها التي لا يقرون بشرعيتها، وزودت تلك النبتة السامة القوة والجبروت. وهكذا أجهضت أحلامهم "التاريخية" الكبرى، التي غالبا ما يقتلون دونها، فينكفئون إلى الاقتتال في ما بينهم. أو غالبا ما يؤدي سعيهم في ركاب تلك الأحلام الكبرى إلى اقتتالهم الداخلي المدمر. لكن ما الجدوى من تكرار هذا أو سواه في أحوال بلاد تبدو كأنما منذورة للقتل والخراب؟
الركام والمغفرة
حيال واحدة من كوارثنا، تلك التي حلت بضاحية بيروت الجنوبية، كتب الشاعر عباس بيضون مرثاة تشبه ابتهالا عدميا يقترب من طلب المغفرة والندم المستحيلين: "نتعجب ونحن نرى هذا الركام. نتعجب فقط من الهول. لكننا لا نبكي. دمعة الندم، إذا وجدت، ستكون أكبر من صخرة تسحقنا". وتابع الشاعر متسائلا: "هل ستقول جبال الأحجار والركام هذه مزيدا عن أنفسنا؟ هل نجد إلا ركاما في دواخلنا، وهل الركام الحقيقي على ألسنتنا؟".