لم يكن السنوار جاهلا بأنه سوف يُقتل، بل جعل هذا مصيره مسجلا في تصريحاته بطريقة حاكى فيها الرنتيسي القيادي في "حماس" الذي قال إنه يفضل الموت بالأباتشي، ليقول السنوار بأنه يفضل الموت بـ"الإف-16" والصواريخ في تصريحاته وخطاباته السابقة، كان مدركا أن فكرته يجب أن تروى بالدماء لينثرها في عقول غيره، لقد تربى السنوار في جماعة "الإخوان المسلمين"، وحمل عنها الأيديولوجيا التي ترى في الوطن حفنة تراب، وأن الحدود السياسية ما هي إلا سياج يلف الحظائر كما كانت كلمات سيد قطب في "معالم في الطريق" التي تهجو الوطن والانتماء إليه، وهو الذي درسه السنوار في غزة في الأسرة الإخوانية التي شكلت محاضنها بعده حركة "حماس".
لم تكن قضية فلسطين سوى نقطة ارتكزت عليها جماعة "الإخوان" للدعاية لمشروعها السياسي والاجتماعي من أيام حسن البنا حين أرسل بعض المتطوعين في حرب 1948 وكانوا جزءا من النظام الخاص المسلح التابع للبنا. ولما عادوا من الحرب شعرت الحكومة بنشاطهم فما إن لوحقوا حتى قالوا إنهم يلاحقون النظام الخاص بسبب فلسطين، ورأوا أن ذلك يمنحهم القتل السياسي داخل مصر، ولقد تعامل السنوار مع غزة على أنها وقود نشر الفكرة، وفي تصريح سابق له قال إنه مستعد أن تفنى غزة في سبيل أفكاره، وهكذا لم يربط أيَ موازنة بين مصلحة ومفسدة بمعيار القضية الفلسطينية ولا الشعب الفلسطيني، بل الميزان الذي اختاره هل ستنتشر الفكرة أم لا؟
وجد "الإخوان المسلمون" خارج فلسطين بغيتهم في الحالة التي أدخل السنوار بها الشرق الأوسط، في حرب تسعى جميع الدول العربية لإيقاف آثار شرارها، لكن "الإخوان" وجدوا فيها فرصتهم للتصدر ولم يكن يعني لهم شيئا كبيرا وجود كارثة في غزة، وفي الوقت الذي كان العشرات يقتلون في جباليا كان "الإخوان" ينتشون بالأشعار على مختلف البحور الشعرية رثاء ومديحا لمشهد السنوار الأخير دون باقي الفلسطينيين، والسبب الرئيس في هذا أنهم اعتبروه يخدم الفكرة.
وجد "الإخوان المسلمون" خارج فلسطين بغيتهم في الحالة التي أدخل السنوار بها الشرق الأوسط، في حرب تسعى جميع الدول العربية لإيقاف آثار شرارها
تلك الفكرة التي لا ترى للحدود أي أهمية، ولا ترى للقضية الفلسطينية في السياسة موضعا، بقدر الاقتراب من نشر وعود توحيد المسلمين في ظلال خلافة على غرار السلطنة العثمانية التي سقطت بداية القرن العشرين، ولا يكون ذلك لديهم إلا بالانخراط في مشاريع "الإخوان المسلمين"، الذين يطلقون عليها العمل لاستئناف حياة إسلامية، فالكارثة التي وقعت على أهالي غزة منذ سنة ولا يزالون يدفعون ثمنها ما هي إلا حطب نشر الفكرة، وبهذا صار دعاة "الإخوان" يتوعدون بطوفان قادم على الدول العربية، فهذا كل ما يعنيهم من المشهد، إضافة إلى حملات التبرعات والتصدر الإعلامي لخطف الأنظار.
لم يكن السنوار سياسيا، بل لم يكن معروفا لأغلب أولئك الذين يمجدونه اليوم بعينه دون عشرات الآلاف الذين حصدتهم القذائف، لكنه الذي تعصبَ بالراية الخضراء لجماعة "الإخوان" فور خروجه من السجن، وهي التي نصت حركة "حماس" في ميثاقها لسنة 1988 على أنها جناح من أجنحتهم، وحين استلم زمام القيادة في الحركة تصرف كزعيم مطلق اليد، حتى إن خالد مشعل صرح بأنه ما علم بالسابع من أكتوبر إلا من الأخبار، وفوت السنوار طيلة سنة كاملة فرص وقف الحرب، مستحضرا مقولة: "لتكن كربلاء جديدة" في رسالة سابقة له تناقلتها الصحف العالمية.
فلم يكن غريبا على جماعة "الإخوان" أن اعتبرته في مختلف المناطق أيقونة لزيادة رصيدها الشعبي في أي انتخابات قادمة، فكان لها دعاية واستثمارا لاستقطاب الشباب إلى صفوفها، لكنه على الحالة الفلسطينية لم يكن أكثر من رجل جر كارثة حرب على غزة ورحل مبقيا خلفه أزمة مستمرة، لم يسعَ حتى لإيقافها، بل لم يفوض المكتب السياسي لحركة "حماس" ليتحدث باسمه إذ أبقى على وجوده الحكَم على أي مفاوضات جارية رغم تعدد جولات المفاوضات، فآثر الانتهاء بحالة الموت لغزة على أن يتخذ قرارا يوقف شلال الدماء.
لم يكن السنوار سياسيا، بل لم يكن معروفا لأغلب أولئك الذين يمجدونه اليوم بعينه دون عشرات الآلاف الذين حصدتهم القذائف، لكنه الذي تعصبَ بالراية الخضراء لجماعة "الإخوان" فور خروجه من السجن
يكمن رصيد السنوار في الفكرة التي تحملها جماعة "الإخوان" على حساب الوطن، فلم يدخل الشعب الفلسطيني في دائرة حساباته السياسية، لذلك صار في المخيلة الرمزية لجماعة "الإخوان"، التي لا يعني لها الفلسطينيون شيئا ذا بال ما داموا لا يخدمون الفكرة، ما داموا لا يحملون راية "الإخوان" على رؤوسهم ويهتفون بشعار "الإخوان" حتى الموت، ما داموا لا يخوضون معاركهم بالوكالة عن الجماعة ويوالون حلفاءها، وينالون من خصومها، وقد عبر عن هذا محمود الزهار الرجل المقرب من السنوار في غزة بقوله سابقا إن فلسطين شيء صغير في مشروعهم، هو مشروع الجماعة، لا فلسطين، مشروع الفكرة لا الوطن، وعند التزاحم يجعلون الوطن وقودا للفكرة، ولا تكمن الخطورة في اللوم على مضى، بل التحذير من هذا المسلك في مختلف الدول العربية، التي يضيق الإخوان فيها بكل ما له علاقة بالوطن.