كيف ترصد جوائز نوبل اتجاهات العصر وتياراته ومزاجه السياسي؟

مُنحت جائزة نوبل للفيزياء في 2024 إلى الأميركي جون هوبفيلد والبريطاني الكندي جيفري هينتون "لإسهاماتهما الأساسية في تطوير تقنيات التعلم الآلي باستخدام الشبكات العصبية الاصطناعية" حيث "ابتكر جون هوبفيلد ذاكرة ارتباطية يمكنها تخزين وإعادة بناء الصور وأنواع أخرى من الأنماط في البيانات". أما هينتون فقد اخترع "طريقة يمكنها العثور بشكل مستقل على خصائص في البيانات، وبالتالي أداء مهام مثل تحديد عناصر معينة في الصور". وقد لاحظت مجلة "سيانتِفك أميركان" الطابع التعاوني الذي يميز البحث العلمي في عصرنا وخصوصا في مجال الفيزياء، مما زاد حصول أكثر من عالم على الجائزة، إذ لا يمكن لشخص واحد أن يبرز بنفسه منفصلا عن بقية العالم.

تبيّن جوائز نوبل للفيزياء المنحنى التاريخي التطوري للعلوم الفيزيائية منذ مطلع القرن العشرين حتى يومنا هذا، ما بين الأشعة السينية والتعلم الآلي المستخدم في تطوير الذكاء الاصطناعي مالئ الدنيا وشاغل الناس.

ولكن هل سنتمكن في المستقبل من التمييز بين العلماء البشر وما يستعملونه من أدوات الذكاء الاصطناعي؟ وهل تحصل أداة من أدوات الذكاء الاصطناعي يوما على جائزة نوبل خاصة دون المشرفين عليها؟

أمّ الكيمياء وابنتها

تحقّق تقدم كبير في مختلف مجالات الكيمياء في القرن العشرين وبدايات قرننا الحالي، من ميكانيا الكم إلى كيمياء البوليمرات، ومن الكيمياء النووية، إلى علوم المواد والكيمياء الخضراء، والكيمياء الطبية والكيمياء الحاسوبية.

حصل 195 عالما على جائزة نوبل للكيمياء التي منحت 116 مرة منذ انطلاقها وحجبت ثماني مرات. وحصل على الجائزة منفردا 63 عالما بينما منحت الجائزة مناصفة بين عالمين 25 مرة، وتشارك فيها ثلاثة علماء 28 مرة. وحصلت ثماني نساء من بينهن ماري كوري وابنتها إيرين جوليو كوري على نوبل للكيمياء. وحصل الألمانيان ريتشارد كون وأدولف بوتنانت على نوبل للكيمياء في عامي 1938و1939 على التوالي، ولكن أدولف هتلر منعهما من الحصول على المكافأة المالية للجائزة وسمح لهما بالحصول على الشهادة والميدالية التي تمنحها الجائزة للفائزين. وحاز العالم المصري الأميركي أحمد زويل الجائزة عام 1999 لأبحاثه في مجال كيمياء الفيمتو.

كان أول الحاصلين على نوبل للكيمياء في مطلع القرن العشرين العالم الهولندي ياكوبس فانت هوف "لاكتشافه قوانين الديناميكات الكيميائية والضغط الإسموزي في المحاليل". وحاز عالم الكيمياء الحيوية الأميركي ديفيد بيكر الجائزة في 2024 "لتصميم البروتين حاسوبيا" وبناء أنواع جديدة من البروتينات، وكلّ من البريطاني ديمس هاسابيس والبريطاني الأميركي جون جمبر "للتنبؤ ببنية البروتين" وهي المشكلة التي يبلغ عمرها 50 عاما، من خلال تطويرهما نموذجا للذكاء الاصطناعي يتنبأ بالهياكل المعقدة للبروتينات.

ديمس هاسابيس المؤسس البريطاني لشركة "ديب مايند" التي استحوذت عليها "غوغل" عام 2014، وقد استطاعت الشركة جعل الكومبيوتر قادرا على محاكاة الذاكرة القصيرة المدى للدماغ البشري. أما جون جمبر فهو الذي قاد عمليات تطوير نموذج "ألفافولد"، أي وحدة الذكاء الاصطناعي من "غوغل" التي تتنبأ ببنية البروتينات بناء على تسلسلها الكيميائي. ويبقى دور أدوات الذكاء الاصطناعي في هذه الاكتشافات الرائدة في الكيمياء قيد التساؤل السابق نفسه.

الحمض النووي الذي لا ينتهي

العالِم الثالث الذي حرمه هتلر من جائزة نوبل كان عالِم الأمراض غيرهارت دوماك الذي حصل على الجائزة عام 1939 لاكتشافه أول مضادّ حيوي للالتهابات البكتيرية. واكتشف الكندي فريدريك بانتنغ الذي كان في الحادية والثلاثين من عمره مع جون مكليود هرمون الأنسولين لعلاج مرض السكري وحصلا مناصفة على نوبل في الطب عام 1923. وكانت أول جائزة عام 1901 من نصيب الألماني إميل بهرنغ الذي طور علاجا بمصل الدم لمرضي الدفتيريا والتياتانوس.

مُنحت جائزة نوبل لعلم وظائف الأعضاء والطب 115 مرة لـ 229 عالما بينهم 13 امرأة، وحجبت الجائزة 9 مرات وحصل عليها منفردا 40 عالما، ومُنحت مناصفة لعالمين 36 مرة وتشاركها ثلاثة علماء 39 مرة. وحصل سوني بروغستروم على الجائزة عام 1982 ليحصل عليها ابنه سفانتي بابو بعد أربعين عاما في عام 2022.

مَنحت اللجنة نوبل الطب 2024 للطبيبين الأميركيين فيكتور أمبروس وغاري رافكن اللذين اكتشفا الحمض الريبوزي النووي الميكروي، الذي يشكل فئة جديدة من جزئيات الحمض النووي التي تلعب دورا مهما في تنظيم نشاط الجينات. لم تتضح بعد الإمكانات الكامنة وراء هذا الاكتشاف، ولكنها تمنحنا فهما أفضل لكيفية عمل الخلايا ويرجح العلماء العديد من الآثار المتوقعة على مرض السرطان وأمراض القلب والأوعية الدموية وغيرها من المشاكل الصحية.

ذهبت نوبل للطب في العام الماضي الى كل من المجرية كاتالين كاريكو والأميركي درو وايزمان لتطويرهما تكنولوجيا أدت لإنتاج لقاحات "إم آر إن إيه" المضادة لفيروس كوفيد. وهكذا تتابعت حتى اليوم حكاية الحمض النووي DNA التي بدأت مع فرنسيس كريك وجيمس واتسون اللذين استندا إلى الكثير من الأبحاث السابقة وتوصلا إلى بنية الحمض النووي في 1953 وحصلا على نوبل الطب عام 1962.

التفاتة نحو كوريا الجنوبية

لم تُمنح جائزة نوبل للآداب مناصفة سوى أربع مرات إذ تغلب المناصفة على فروع الجائزة الأخرى. وقد حصل على الجائزة 121 أديبا بينهم 18 امرأة، وكانت أول امرأة تفوز بالجائزة عام 1909 هي الروائية السويدية سلمى لاغرلوف، وأول حائز للجائزة في أول انطلاقة لها هو الشاعر الفرنسي سولي برودوم.

قَبِل الكاتب الروسي بوريس باسترناك نوبل للآداب عام 1958، لكنه اضطر لاحقا إلى رفضها بضغط من حكومة الاتحاد السوفياتي، كما رفضها جان بول سارتر عام 1964 كونه يرفض كل الجوائز والتكريمات الرسمية. وكان الكاتب المصري الكبير نجيب محفوظ أول عربي حصل على هذه الجائزة عام 1988. ويظن العديدون أن وينستون تشرشل حاز  نوبل للسلام، ولكن 21 ترشيحا لاسمه كانت لنوبل الآداب التي حصل عليها في 1953 مقابل ترشيحين فقط للسلام.

تُمنح نوبل الآداب الى الكتّاب عن مجمل أعمالهم الأدبية، ولكن هناك 9 فائزين نوهت اللجنة بأعمال أدبية محددة دفعتها لمنحهم الجائزة بينهم شولوخوف وهمنغواي وتوماس مان. ومن بين الأدباء الذين ترشحوا مرة واحدة للجائزة وحصلوا عليها في العام نفسه كل من طاغور ولويجي بيرانديللو وبرتراند راسل ووليم فوكنر.

حازت الأديبة الكورية الجنوبية هان كانغ نوبل الآداب 2024، كأول كاتبة من بلادها تحظى بهذه الجائزة، وأول آسيوية، والمرأة الـ18 التي تحصل عليها، في خطوة مهمة تتجه بالجائزة شرقا وتحتفي بواحدة من الكتاب المبدعين السورياليين والمتمردين في السرد المعاصر. تتعمق هان كانغ في السؤال حول ذلك الكمّ الذي لا يوصف من الفساد في الطبيعة البشرية مع الكم الهائل من اللطف والمحبة الكامنة في أنفسنا. وترى العديد من الآراء أن الجائزة سوف تجذب انتباه القراء في العالم الى الأدب الكوري الذي لم يحظ بالاهتمام نفسه الذي حصلت عليه الموسيقى والأعمال الدرامية في العقد المنصرم.

عالم خالٍ من الأسلحة النووية

تمنح مؤسسات سويدية جوائز نوبل باستثناء نوبل للسلام التي اختار ألفرد نوبل، الذي كانت السويد والنروج متّحدتين في حياته، أن تقرر الفائزين بها، لجنة مكونة من خمسة أشخاص ينتخبهم البرلمان النروجي، وأن تمنح الجائزة في النروج أيضا.

ونصّت وصية نوبل على أن "تُمنح الجائزة لمن بَذل جهدا في سبيل نشر روح الإخاء بين الأمم، أو ساهم في تسريح الجيوش أو خفض أعدادها، أو أنشأ هيئاتٍ أو مؤتمراتٍ تروّج للسلام".

كان أول الحاصلين على نوبل للسلام عند تأسيسها، هنري دونان مؤسس الصليب الأحمر.

ومنحت نوبل للسلام 105 مرات وحصل عليها 142 شخصية بينهم 19 امرأة، وحجبت 15 مرة. وقد مُنحت الجائزة مناصفة 31 مرة، منها جائزة 1978 التي منحت لكل من الرئيس المصري أنور السادات ومناحيم بيغن، وقد فاز الدكتور المصري محمد البرادعي بنوبل للسلام 2005 مناصفة مع وكالة الطاقة الذرية. وتشاركت الجائزة ثلاث شخصيات 3 مرات، يذكر منها عندما حازها كل من ياسر عرفات وشيمون بيريز وإسحق رابين عام 1994.

الناشطة الباكستانية ملالا يوسفزاي كانت أصغر الحاصلين على الجائزة إذ كانت في السابعة عشرة من عمرها عندما حصلت على نوبل للسلام. ورفض السياسي الفيتنامي بي دوك ثو نوبل للسلام التي منحت له مناصفة مع وزير الخارجية الأميركي هنري كيسنجر عام 1973، واستقال عضوان من اللجنة بعد منحها لكيسنجر.

رشَّحَ أحد أعضاء البرلمان السويدي ساخرا هتلر لنوبل السلام عام 1939، وترشح المهاتما غاندي خمس مرات قبل اغتياله عام 1948، كما ترشح مواطنه جواهر لال نهرو، وترشح جوزيف ستالين مرتين للجائزة لجهوده في إنهاء الحرب العالمية الثانية، وبينيتو موسوليني وهاري ترومان.

فازت منظمة نيهون هيدانكيو (اتحاد اليابان لمنظمات ضحايا القنبلتين الذرية والهيدروجينية) "لجهودها المبذولة من أجل عالم خالٍ من الأسلحة النووية، ولإثباتها عبر شهادات أن الأسلحة النووية يجب ألا تستخدم مجددا بتاتا" وفقا لرئيس لجنة نوبل النروجية يورغن واتني فريدنيس.

إضافة مهمة الى الوصية

لا تعد جائزة نوبل للعلوم الاقتصادية من الجوائز الواردة في وصية نوبل، بل استحدثها البنك المركزي السويدي عام 1968، الذي يتبرع بمبلغ الجائزة التي منحت أول مرة لكل من راغنار فريش ويان تينبرغن "لتحليلهما العملية الاقتصادية وتطوير نماذج اقتصادية ديناميكية". حصل على الجائزة منذ إنشائها 96 عالما بينهم 3 نساء، وهنّ الأميركية إلينور أوستروم أولى السيدات الحاصلات على الجائزة عام 2009، وإستر دوفلو في 2019، وكلوديا غولدن في العام الماضي 2023، ومنحت الجائزة مناصفة 20 مرة، وتشاركها ثلاثة علماء 10 مرات.

حصل على جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية كل من الأميركي من أصل تركي دارون عاصم أوغلو والبريطاني سايمون جونسون اللذين يعملان في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، مع الأميركي جيمس روبنسون، لأبحاثهم في مجال انعدام المساواة في توزع الثروات بين الدول ودراستهم كيفية تشكيل المؤسسات وتأثير ذلك على الرفاهية والازدهار في العالم. نشر عاصم أوغلو مع روبنسون كتاب "الممر الضيق: الدول والمجتمعات ومصير الحرية" (2020).

يضع الباحثون الكرة في ملعب النخبة المتحكمة بالسلطة والثروة الاقتصادية، فالنخبة مضطرة للتفكير في عواقب القمع وتكاليفه، والجماهير مضطرة للتفكير في تكاليف الثورة. الحل إذن في تحقيق النمو الاقتصادي من خلال استيعاب النخبة للجماهير والانطلاق في طريق تحسين المؤسسات السياسية وتوفير قدر أكبر من الديمقراطية.

لقد غير الاستعمار الأوروبي المؤسسات في مجتمعات عدة في العالم، وتراوحت آثار هذا الاستعمار بين استغلال الموارد الطبيعية والسكان الأصليين، وتشكيل أنظمة سياسية واقتصادية أريد بها مصالح المهاجرين الأوروبيين في هذه البلاد. المؤسسات الشاملة والأنظمة هذه توفر فوائد طويلة الأجل للجميع، أما المؤسسات التي تمتص الثروات فلا تحقق سوى مكاسب على المدى القصير لأصحاب السلطة. لذلك ينعدم خيار الإصلاح وتحسين الأحوال الاقتصادية لأن النظام السياسي يضمن لأصحاب السلطة البقاء فيها، فيتلاشى خيار الثقة بهم عند الجمهور في أي وعود بالإصلاحات مستقبلا. الحل إذن بالديمقراطية والمؤسسات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية.

ويرى العديد من الباحثين أن قرار لجنة نوبل هذا يكتنفه القليل من الغموض لأن هذا النموذج المعقّد ينطلق من معقل المحافظين المعاصرين والاقتصاديات النيوليبيرالية، ويقتصر على الفترة الاستعمارية الحديثة، ويركز على تجربة الأوروبيين خلال مهمتهم الاستعمارية التي تبدو نبيلة.