قد تحمل هستيريا القوة الجوية الإسرائيلية وأجهزة استخباراتها التكنولوجية السيبرانية، على احتمال شروعها بهجمات حربية جوية، دموية ومدمرة، على الشطر الغربي من بيروت. كما فعلت في ضاحيتها الجنوبية، وفي غزة قبل شروعها باحتلالها بريا. وإسرائيل تعول، في حربها على "حزب الله" ولبنان، على تلك القوة أكثر بكثير من تعويلها القديم على الاجتياح البري.
وفي حال شروعها بذلك، لا بد من أن يُفرِغ الرعبُ أحياء غرب بيروت من الأغلبية الساحقة من سكانها، ومن النازحين إليها. وهذا ما فعلته حملاتُ الإعدام الجوي الإسرائيلي كتلا من البشر، ودفنتهم أشلاء تحت ركام بناياتهم السكنية، وحولت الباقين تائهين ومشردين، وأشبه بنفايات بشرية. وهذا ما حصل في غزة.
ويلوح هذا الاحتمال بناء على ملاحظات كثيرة، منها:
• تحرر القوة الإسرائيلية التي شلت "حزب الله" شللا صاعقا، وشردت 1.2 من سكان لبنان، من أي حدّ دولي غربي يرغمها على لجم تلك القوة المنتشية بتفوقها الكاسح. والأرجح أن تلاشي الإرادة الغربية يصدر عن رغبة غربية، أميركية أكثر منها أوروبية، في "الثأر" و"الانتقام" والخلاص من "حزب الله".
• استحالة الرهان على صحوة إسرائيلية ما من نشوة القوة. وهذا بناء على ما كتبه جدعون ليفي حسب مقالة له قبل أيام في صحيفة "هآرتس"، في عنوان "عودة الغرور: غطرسة إسرائيل الجامحة وصفةٌ للكارثة". وأشار ليفي إلى أن إسرائيل "تشعر اليوم أن السماء وحدها هي الحد الأقصى لهجماتها وفتوحها، للقتل والدمار. وهي لم يسبق لها قط أن وقفت على هذا النحو أمام مرمى فارغ، ومقتنعة بأنها امتلكت فرصة عمرها (...) فعجز المجتمع الدولي يعزز شعورها بنشوتها. ويبدو أنها قادرة على مواصلة حملات جنكيزخان في الغزو والعقاب بلا عائق".
يبدو أن "حزب الله" يتبع في لبنان سياسة "حماس" في غزة، رغم إبصاره مصير حليفه الفلسطيني في "وحدة الساحات"، ومصير فلسطينيي غزة
إذا صح هذان الاحتمالان- وهما واقعان مرئيان منذ بداية حرب الإبادة الإسرائيلية على غزة- على ماذا يمكن التعويل، إذن، لإيقاف نشوة إسرائيل؟ يمكن في هذا السياق، التعويل على احتمالات ضعيفة، في الشرق الأوسط، وفي الداخل الإسرائيلي، وفي لبنان. فما هي هذه الاحتمالات الضعيفة؟
• في الشرق الأوسط هناك إيران وأذرعها الإقليمية. لكن إيران غارقة في أزماتها الداخلية المزمنة، الأرجح أن لا يفكر نظامها فيما يتعدى الحفاظ على رأسه. وصواريخ اليمن لدى الجماعة الحوثية، وهي أداة إيرانية بعيدة من إسرائيل، هيهات أن تعني الكثير في ميزان الإرادة الإسرائيلية الجامحة. وهذا بعدما شلت أسرائيل القوة الفعلية والوهمية لـ"حزب الله" الذي درب ونظم جماعة "أنصار الله"، وصار مثالها المخيف، في أعقاب الضربة الصاعقة التي أنزلتها إسرائيل بذاك المثال. ذراع إيران العراقية لا يبدو أن الإرادة الإسرائيلية تحسب لها حسابا مؤثرا، على ما تدل وقائع السنة المنصرمة. أما سوريا النظام، فهناك تحليلات وتقارير ووقائع كثيرة تشير إلى أن أقصى طموح نظامها هو احتمال أن ينجو من القبضة الإيرانية وقبضة "حزب الله"، من طريق الضربات الإسرائيلية في مناطقه.
يبقى أخيرا "حزب الله" الذي يتبع في لبنان سياسة "حماس" في غزة، رغم إبصاره مصير حليفه الفلسطيني في "وحدة الساحات"، ومصير فلسطينيي غزة: أكثر من مليوني نسمة تعاملهم إسرائيل كنفايات بشرية، بلا اكتراث يذكر باحتجاجات قوى المجتمعات والمنظمات المدنية في العالم الغربي.
• في لبنان الجماعات وزعماؤها وسواهما من السياسيين، وممن سُموا "ناشطي المجتمع المدني" الغائب غيابا شاملا، هيهات أن يجترح أي منهم معجزة سياسية داخلية تخاطب العالم، وتشجعه على التخلي عن انقياده الأعمى وربما المبصر والإرادي إلى ما تريده إسرائيل وحدها من دون سواها.
• في إسرائيل، يلاحظ جدعون ليفي أن "فرار الملايين من الناس وتيههم جراء بطش الجيش الإسرائيلي - ولن ينسوا ذلك قط - لا يجلب للإسرائيليين سوى الفرح والفخر الوطني فحسب". وهذا يعني استحالة التعويل على خروج إسرائيل من هستيريا نشوة قوتها.
يبقى أخيرا، في ظل هذه الاحتمالات السوداء كلها على الصعيدين السياسي والعسكري، أن نورد هنا بعض ما يجري في غرب بيروت وفي لبنان كله تقريبا، على الأصعدة الإنسانية والبشرية والنفسية، تمهيدا لاحتمال وصول الشطر الأكبر من العاصمة اللبنانية إلى حافة أن يصير مثل ضاحيتها الجنوبية، أو مثل غزة، لكن بلا حاجة إسرائيل إلى احتلال بري.
• تحولت بيروت الغربية إلى خزان مهول للتكدس البشري الهاذي في عراء سياسي خارجي وداخلي شامل. وهو تكدس أدى الرعب الهستيري الذي يستبد ببشره إلى عدم التمييز بين سكان كانوا مستقرين ونازحين، وفارين إلى أحياء غرب بيروت. وهكذا صارت أرتال السيارات المكدسة في الشوارع، تحتاج لتتحرك ببطء شديد، إلى ساعتين أو ثلاث لتقطع مسافة 2 -3 كلم بين هذا الحي أو ذاك من أحياء مسكونة بفوران معمعة بشرية ومعدنية.
لا يلوح في الأفق اللبناني الأسود أي احتمال سياسي ينتشله مما هو فيه
وفي أسماع أكداس البشر في السيارات والدراجات النارية الهوجاء والمشاة التعساء، وفي مراكز اللجوء والبيوت والأماكن كلها، ينغرس ذاك الأنين أو العنين المعدني لمسيرات الاستطلاع الإسرائيلية المستمر نهارا وليلا في سماء المدينة المعدنية. والأكداس البشرية تعلم يقينا أنها منذورة لاختفاء جموع منها بكتل من المعدن تسقط عليها فجأة من السماء، وتتركها أشلاء بشرية تحت الركام.
• يتدبر الناس حياتهم اليومية المؤقتة بما يتوفر لديهم، مهجوسين على نحو هذياني متواصل بأي احتمال يتيح لعائلات وأفراد ومجموعات منهم الخروج مما كان مدينة قبل سنوات. وما من بقايا إدارة رسمية عامة في العاصمة اللبنانية، إلا ويتجمع يوميا أمام أبوابها مئات الأشخاص الهاذين المتصدعين، فيما هم يخلصون أوراق معاملات رسمية للهجرة والفرار من لبنان.
أحدهم قال لآخر لا يعرفه: "أعالج ما أنا فيه بتدخين متواصل. كل ما أضعه في فمي سوى الماء له طعم الرمل". شخص آخر قال: "اتصال هاتفي واحد، كلمة واحدة من صوت أعرفه، يغير مصيري، ينجيني من يتمي في بيروت، ويمنحني نطفة من حياة". شخص ثالث قال: "من أصدر عليّ فجأة حكما بالإعدام في بيروت، قد يعلم أنني أدين له بحياتي كلها، منذ التقينا قبل سنوات كثيرة في بيروت".
• الهاذون هنا ليسوا سوى قمة جبل البؤس وسحابة الهذيان المهولة المنبعثة في سائر الشوارع والبيوت والأماكن... من بشر لا تساورهم سوى رغبتهم الهوجاء في الفرار إلى أي مكان من العالم.
هل نقول أخيرا: الناس نيامٌ إذا ماتوا انتبهوا؟!