إيران… آليات مزاولة السلطة وسيناريوهات "الفراغ الدستوري"

يسمى النظام بأنه "جمهوري" لكنه لايشبه أي نظام جمهوري آخر

أ.ف.ب
أ.ف.ب
المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي خلال تجمع لأفضل المواهب العلمية الإيرانية في طهران، 2 أكتوبر 2024

إيران… آليات مزاولة السلطة وسيناريوهات "الفراغ الدستوري"

بعد قيام "الثورة" في إيران عام 1979، انتقلت إيران من النظام الملكي إلى نظام سُمي بأنه نظام جمهوري، إلا أن ذلك النظام في حقيقة الأمر متفرد تماماً ولا يشبه أي نظام حكم جمهوري أخر.

للأنظمة السياسية والدساتير دورة حياة

من المتعارف عليه في فقه القانون الدستوري، أن للأنظمة السياسية والدساتير دورة حياة، تبدأ بولادة النظام السياسي الجديد في الدولة ويتبلور ذلك بنشأة دستور ذلك النظام بإحدى الطرق المتعارف عليها تبعا لكل حالة على حدة، وتنتهي الدساتير أما بطريق طبيعي، مثل قيام النظام في الدولة بتغيير الدستور أو تعديله كليا تلبية لمتطلبات الواقع الذي تعيشه تلك الدولة.

قد تنتهي الدساتير بطريقة غير طبيعية بنهاية النظام السياسي في الدولة نفسه، ويتم ذلك عادة عن الطريق الثورات والهبّات الشعبية وغيرها مما يشبه ذلك من الوسائل العنيفة، أو قد ينهار النظام نتيجة نشوب حرب تؤدي إلى سقوط رأس النظام أو أغلب أركان ذلك النظام، بما مؤداه إضعاف سلطات الدولة لدرجة تؤدي إلى عجزها عن آداء مهامها الدستورية أو حدوث حالة من الفوضى تسمح بحدوث أي شكل من أشكال العنف الجمعي السياسي مثل الهبّات الشعبية أو الاضطرابات المدنية وما شابه ذلك، بما يؤدي إلى إنهيار النظام الدستوري في البلاد.

وأشهر مثال للحالة الأخيرة هو سقوط نظام الأمبراطورية الفرنسية الثانية بعد هزيمة وأسر الإمبراطور نابليون الثالث خلال الحرب البروسية (الألمانية) - الفرنسية في معركة سيدان 1870، وما أعقب ذلك من حدوث حالة فراغ دستوري، ترتب عليها قيام وسقوط حكومة كوميون الثورية من شهر مارس/آذار حتى شهر مايو/ أيار العام 1871، ثم قيام الجمهورية الفرنسية الثالثة وإحكام سلطتها على باريس وكامل فرنسا.

وفي حالة حدوث فراغ دستوري في نظام إيران، فمن المحتمل أن يكون لتلك الحالة تداعيات جسيمة وأثر بالغ الخطورة عليها قد تصل إلى حد الإنهيار سياسياً ودستورياً.

النظام الدستوري لـ "الجمهورية الإسلامية الإيرانية"

بعد قيام ونجاح "الثورة الإسلامية" في إيران عام 1979 بزعامة روح الله الخميني (أية الله الخميني)، رجل دين وفقيه شيعي اثنى عشري، انتقلت إيران من النظام الملكي إلى نظام سُمي بأنه نظام جمهوري، إلا أن ذلك النظام في حقيقة الأمر متفرد تماما ولا يشبه أي نظام حكم جمهوري أخر ولا أي نظام سياسي معاصر على الإطلاق، فيتميز ذلك النظام بأنه نظام شديد التعقيد، وأنه يصنف كذلك كنظام ثيوقراطي، أي أنه حكم ديني، أو حكم رجال الدين على وجه الدقة. وقد تم وضع قواعد وأركان هذا النظام في الدستور الإيراني الحالي الصادر عام 1979 والمعدل عام 1989، نتناول بإيجاز أهم أركانه:

- "المرشد الأعلى للثورة" (القائد) أو "الولي الفقيه": ووفقاً لأحكام هذا الدستور يتربع على هرم السلطة "المرشد الأعلى للثورة" (رأس الدولة)، وهو ما يطلق عليه لقب "الولي الفقيه"، و "ولاية الفقيه" هو مبدأ ومصطلح فقهي قديم في الفقه الشيعي الإثنى عشري، قام بإحيائه وتطويعه وإعادة استخدامه في الدستور أية الله الخميني، ويُقصد بذلك المبدأ إنابة "الولي الفقيه" عن "الإمام الغائب" (وهو الإمام محمد المهدي بن الإمام الحسن العسكري، الإمام الثاني عشر عند الشيعة الإثنى عشرية) في قيادة الأمة وإدارة شئونها والقيام بمهام الحكومة الإسلامية و"إقامة حكم اللّه على الأرض"، وبهذا تم الدمج بين منصب سياسي ومقام ديني في منصب واحد.

ويفترض أن يتوافر عدة شروط فيمن يتولى ذلك المنصب، أخصها توافر العلم الديني والشرعي الوافي، وأن يتم ذلك بعد إجراء استفتاء. ووفقا لأحدث تعديلات الدستور، يستمر "المرشد" في منصبه مدى الحياة، إلا إذا عجز عن آداءوظائفه القانونية. ولـ "المرشد الأعلى للثورة" صلاحيات دستورية تكاد تكون مطلقة منها: رسم السياسات العامة لنظام الجمهورية الإسلامية الإيرانية بعد التشاور مع المجالس المختصة، إصدار الأمر بالاستفتاء العام، إعلان الحرب والسلام والنفير العام (التعبئة العامة)، القيادة العامة للقوات المسلحة، حل الاختلافات بين أفرع القوات المسلحة الثلاث وتنظيم العلاقات بينها، حل مشكلات النظام التي لا يمكن حلها بالطرق العادية من خلال المجالس المختصة، التصديق على قرار تعيين رئيس الجمهورية بعد انتخابه من قبل الشعب، عزل رئيس الجمهورية بعد استيفاء الشروط الدستورية لذلك، إصدار العفو أو تخفيف العقوبات بناء على اقتراح من رئيس السلطة القضائية، وأخيراً تنصيب وعزل وقبول استقالة كل من: أ) الفقهاء أعضاء مجلس صيانة الدستور. ب) رئيس السلطة القضائية. ج) رئيس مؤسسة الإذاعة والتلفزيون. د) رئيس أركان القيادة المشتركة للقوات المسلحة. هـ) القيادات العليا للقوات المسلحة. و) القائد العام لقوات "حرس الثورة الإسلامية".

يفترض أن تتوافر عدة شروط فيمن يتولى منصب الولي الفقيه، أخصها توافر العلم الديني والشرعي الوافي، وأن يتم ذلك بعد إجراء استفتاء، ووفقاً لأحدث تعديلات الدستور، يستمر المرشد في منصبه مدى الحياة، إلا إذا عجز عن آداء وظائفه القانونية

- الرئيس: يعتبر رئيس الجمهورية أعلى سلطة رسمية في البلاد بعد منصب "المرشد الأعلى". وهو المسؤول عن تنفيذ الدستور وتعيين الوزراء، وهو رئيس السلطة التنفيذية، إلا في المجالات التي ترتبط مباشرة بمهام "المرشد الأعلى"، ويتم اختيار الرئيس من بين الشخصيات الدينية والسياسية البارزة بالدولة بعد استيفاء عدة شروط دستورية. وينتخب مباشرة من الشعب لمدة أربع سنوات. ولا يجوز إعادة انتخابه إلا لولاية واحدة تالية فقط.

- السلطة القضائية: ويُعين رئيسها من قبل "المرشد الأعلى" مباشرة، ومن اختصاصاته، تعيين القضاة، وعزلهم بعد استيفاء الشروط الدستورية لذلك.

أ.ف.ب
المرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي إماما لصلاة الجمعة في طهران في 4 أكتوبر 2024

- السلطة التشريعية: وتتكون من مجلسين، مجلس الشورى الإسلامي (الغرفة البرلمانية الأدنى، مجلس النواب) وينتخب أعضائه من الشعب، ومن اختصاصاته تشريع القوانين، واقتراح عزل رئيس الجمهورية. ومجلس خبراء القيادة(الغرفة البرلمانية الأعلى، مجلس الشيوخ) ويتكون من 88 عضواً من الحاصلين على درجة الاجتهاد الديني وفقا للمذهب الاثنى عشري، ومن صلاحياته انتخاب المرشد الأعلى أو إعفائه من منصبه بعد استيفاء الشروط الدستورية.

- مجلس صيانة الدستور: وهو مجلس يشبه في اختصاصته إلى حد ما المجلس الدستوري الفرنسي، أي أنه يمارس الرقابة السابقة على دستورية القوانين، بمعنى عدم جواز إصدار قوانين من مجلس الشورى الإسلامي دون موافقة ذلك المجلس، علاوة على اختصاصه بقبول أو رفض المرشحين لرئاسة الجمهورية. ويتكون من (12) عضواً، يُعين نصفهم "المرشد الأعلى"، ويُعين النصف الأخر رئيس السلطة القضائية.

- مجلس تشخيص مصلحة النظام: وهو هيئة استشارية وتختص بحل الخلافات بين مجلس الشورى الإسلامي ومجلس صيانة الدستور وتقديم النصح لـ "المرشد الأعلى"، ويتكون من 31 عضواً يُعينهم "المرشد الأعلى".

مجلس تشخيص مصلحة النظام يُعد بمثابة هيئة استشارية وتختص بحل الخلافات بين مجلس الشورى الإسلامي ومجلس صيانة الدستور وتقديم النصح للمرشد الأعلى، ويتكون من 31 عضواً يُعينهم المرشد الأعلى

 - المجلس الأعلى للأمن القومي: ويتكون هذا المجلس من كبار القيادات العسكرية والسياسية والقضائية برئاسة رئيس الجمهورية، وقرارته ملزمة في حالة تصديق "المرشد الأعلى للثورة" عليها، ويعين المرشد أغلب أعضائه، ويختص بتحديد سياسات الدفاع والأمن القومي للبلاد،وتنسيق الأنشطة السياسية والمخابراتية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية المتعلقة بالسياسات العامة للدفاع والأمن القومي، واستغلال الموارد المادية والفكرية للبلاد لمواجهة التهديدات الداخلية والخارجية.

مآلات وآثار "الفراغ الدستوري"

يمكن ذكر السيناريوهات الآتية:

1-  انهيار وتفكك مؤسسات الدولة وتولي القوات المسلحة أو "الحرس الثوري" مهام تصريف شؤون السلطة:

ففي حالة إنهيار أركان الدولة سالفة الذكر، بحيث تصبح غير فعالة، وذلك دون وجود بديل جاهز، فمن المحتمل أن يتم تشكيل مجلس قيادة مؤقت لإدارة شئون البلاد. وهذا المجلس قد يضم شخصيات من البرلمان، والقوات المسلحة، والقضاء، ويعمل تحت إطار دستوري مؤقت لضمان استمرار الحكم حتى يتم وضع دستور جديد أو إجراء انتخابات، وذلك إعمالاً للمبدأ الدستوري "استمرارية الحكومة".

أ.ف.ب
خامنئي وقائد القوة الجوية الفضائية للحرس الثوري العميد أمير علي حاجي زاده، 6 أكتوبر 2024

وفي حالة فشل القوى السياسية في التوصل إلى توافق حول طبيعة قيادة الدولة في المرحلة المؤقتة، فقد تشهد إيران حالة من عدم الاستقرار الدستوري، تؤدي إلى صراع على الشرعية الدستورية بين الأطراف المختلفة، مع ادعاء كل طرف بأنه الممثل الشرعي للشعب أو للدولة، مما يؤدي إلى مزيد من الفوضى وعدم الاستقرار الذي قد يصل إلى الحرب الأهلية، وبالتالي من الممكن أن تنتقل السلطة إلى القوات المسلحة أو الحرس الثوري، بحيث يتم العمل خارج الإطار الدستوري، بموجب قوانين الطوارئ أو الأحكام العرفية التي تقلص حقوق الأفراد والجماعات السياسية والمدنية، وتركز على الأمن القومي الداخلي والخارجي، واستقرار البلاد، وذلك حماية لوحدة الدولة الإيرانية من خطر التفكك لعدة دويلات عرقية صغيرة، أو خطر ظهور حركات أو تنظيمات أو جماعات متطرفة على الساحة.

2- إقامة نظام جمهوري ديمقراطي وإعداد وصياغة دستور جديد:

أحد أبرز المآلات والآثار المحتملة في حالة حدوث فراغ دستوري في النظام الإيراني الحالي هو إقامة نظام جمهوري ديمقراطي على أسُس مدنية حديثة، وصياغة دستور جديد للبلاد، بغض النظر عن شكل النظام السياسي سواء كان نظاما رئاسيا أو برلمانيا، والذي على الأرجح سيأخذ بالمبادئ الدستورية الكونية المتعارف عليها في أغلب الأنظمة الدستورية كالفصل بين السلطات، وسيادة القانون، والمساواة وتكافؤ الفرص، وحماية الحقوق والحريات العامة.

ومن المحتمل كذلك أن يأخذ الدستور الجديد طابعاً فيدرالياً، يمنح الأقاليم الإيرانية مزيدًا من الاستقلال الذاتي، خاصة في المناطق التي تعاني من التهميش من السلطة المركزية، وذلك كحل للمشاكل الناجمة عن التنوع العرقي والطائفي الواسع الذي تتميز به إيران.

كذلك من المرجح أن يأخذ الدستور الجديد طابعاً مدنياً، أو بتعبير أكثر دقة علمانياً، وذلك كرد فعل متوقع لطبيعة نظام "الجمهورية الإسلامية" الحالي بوصفه نظاما ثيوقراطيا خالصاً كما سبق وأوضحنا، بحيث تضمن مواده فصل الدين عن السياسة ومؤسسات الحكم، وقد يكون ذلك الفصل كليا بحيث تُلغى كافة القوانين التي تستند إلى الشريعة الإسلامية، وتُسن قوانين مدنية خالصة عوضا عنها، أو جزئيا فُيقر الإسلام ديناً رسمياً للدولة وتُعتمد الشريعة الإسلامية مصدراً من مصادر التشريع، وذلك احتراما للإرث الديني والمذهبي والثقافي لإيران، مع تعزيز حقوق كافة الأقليات الدينية، بمختلف أطيافها.

من المحتمل كذلك أن يأخذ الدستور الجديد طابعاً فيدرالياً، يمنح الأقاليم الإيرانية مزيدًا من الاستقلال الذاتي، خاصة في المناطق التي تعاني من التهميش من السلطة المركزية

3- عودة الملكية:

من الاحتمالات غير المستبعدة حال حدوث فراغ دستوري في النظام الإيراني، أن يعود النظام الملكي (نظام الشاه)، مصحوباً بإصلاحات دستورية تجعله كنسخة مشابهة للنموذج البريطاني. في هذه الحالة، يمكن إعادة تفعيل دستور 1906 وفقاً لأحدث تعديلاته عام 1963، أو من المحتمل كذلك تبني دستور ملكي جديد يوازن بين تراث الملكية الدستورية والديمقراطية، يشبه الدساتير الملكية الأوروبية التي تعتمد النظام البرلماني بحيث تكون السلطات التنفيذية بيد الحكومة المنتخبة، بينما يكون الملك رمزياً ورأساً للدولة، بحيث تظل صلاحيات الملك محدودة، في حين تتولى الحكومة المنتخبة السلطة التنفيذية. وبهذا سيقوم البرلمان بتشريع القوانين ومراقبة عمل الحكومة، كذلك من المحتمل أيضاً في هذا الدستور تبني النظام الفيدرالي مع أخذ الطابع المدني العلماني أيضا.

أ.ف.ب
خامنئي خلال إلقائه خطبة الجمعة في طهران في 4 أكتوبر 2024

ومن المرجح أن يتم تنصيب نجل وولي عهد شاه إيران السابق محمد رضا بهلوي (رضا بهلوي الثاني) بحسبانه أخر  ولي للعهد في الحقبة الملكية قبل إندلاع الثورة عام 1979، إلا أن عودة الملكية مرهونة بحالة القبول والرضا الشعبي والتي قد تتباين بين أفراد الشعب الإيراني بحسب الفئة العمرية، فمن المحتمل أن تتقبل الأجيال الأكبر سنا الفكرة بشكل أكثر سهولة، من الأجيال لأصغر سنا، وقد يتم إجراء استفتاء شعبي لاستبيان مدى الموافقة الشعبية، واحتمال عودة الملكية، غير مستبعد على عكس ما قد يظنه البعض، إذ إنه حدث عدة مرات في فرنسا أشهرها عودة ملكية أسرة البوربون، بعد اندلاع الثورة الفرنسية الكبرى عام 1789 وقيام الجمهورية الأولى عام 1792، ثم تحولها إلى الإمبراطورية الأولى عام 1805 ثم سقوطها عام 1815 عقب هزيمة نابليون بونبارت، وكذلك ما حدث في إسبانيا بعد عودة الملك خوان كارلوس للحكم عام 1975 عقب وفاة الرئيس فرانشيسكو فرانكو، وقد وافق الشعب الإسباني على العودة للحكم الملكي كرد فعل طبيعي لمعاناة الشعب الإسباني من ممارسات الحقبة الجمهورية من عام 1936 حتى 1975.

font change

مقالات ذات صلة