شاعر أميركي يعيد تأليف "المهابهارتا" الهندية

أحد أعظم الملاحم الأدبية في تاريخ الأدب العالمي

ARUN SANKAR/AFP
ARUN SANKAR/AFP
رجل يمر بجانب جدارية تصور مشهداً من المهابهاراتا في نيودلهي

شاعر أميركي يعيد تأليف "المهابهارتا" الهندية

ما الذي يدفع شاعرٌ معاصر إلى إعادة تأليف ملحمة قديمة بلغة جديدة ومختلفة؟ أجاب الشاعر الأميركي من أصل هندي أميت مجمودار على هذا السؤال ودافع عما فعله ببصيرة الرائي الذي يُتْقن أدواته.

فقد أعاد كتابة "المهابهارتا" بلغته (الإنكليزية) مقدما تجربة أدبية فريدة تعزّز ما يسمّيه في مقدمة الجزء الأول الذي صدر عن "دار بنغوين" بعنوان "كتاب العهود" (2023) "تراث النقل" الممتد عبر الحضارات وفي صلب تجاربها الأدبية والذي يكون فيه مؤلف نص ما ناقلا له عن أصل سابق.

وأخذ مجمودار على عاتقه هذه المهمة الرفيعة بعد أن قطع عهدا على نفسه: "إليكم بعهدٍ آخر، قُطع في الهواء الطلق. إن اسمي، في هذه الولادة على الأقل، هو أميت مجمودار، وأقطع عهدا على نفسي بأن أروي لكم القصص العنيفة والصوفية الواردة في الملحمة الأكثر دموية وتصوفا في الأزمنة كلها. أقطع عهدا على نفسي بأن أعيد تأليف المهابهارتا".

و"المهابهارتا" من أعظم الملاحم الأدبية في تاريخ الأدب الهندي والعالمي، وتروي قصة معقدة ومثيرة تحاكي الأساطير من خلال أبطالها ودروسها الأخلاقية. تُنسَب إلى الحكيم والشاعر فياسا، وكُتبت باللغة السنسكريتية، وهي من أطول النصوص الأدبية في العالم إذ يتجاوز عدد أبياتها مائة ألف بيت شعري.

"المهابهارتا" من أعظم الملاحم الأدبية وتروي قصة معقدة تحاكي الأساطير من خلال أبطالها ودروسها الأخلاقية


وتروي الملحمة قصة صراع دموي بين عائلتين هما عائلة "الباندافيين" وعائلة "الكورافيين"، اتخذ طابعا ملحميا وتخلله النزاع والخيانة والمواقف الشجاعة والبطولية. وضمّت الملحمة في نسيجها السردي مجموعة قصص ثانوية وشخصيات متنوعة أضفت عمقا وتعقيدا على السرد.

آفاق جديدة

إلا أن النص الكامل للمهابهارتا ما يزال غير مقروء في معظم اللغات الأخرى، وبينها العربية، بسبب عدم توفر ترجمة كاملة لها واعتماد الترجمات المنجزة على الملخصات. وكان هذا من بين الأسباب التي دفعت مجمودار إلى تأليف نسخته الخاصة والكاملة من المهابهارتا التي تعتمد على نص الشاعر فياسا لكنها تحلّق به في آفاق شعرية ونثرية جديدة تعكس براعة لغوية وتفننا في السرد.

يقول أميت مجمودار في المقدمة إن المهابهارتا تُرجمت وأعيد تأليفها وروايتها بطرق مختلفة عن طريق التركيز على تسلسل الأحداث وجاءت في ملخصات غير كاملة، ولهذا تدخّل كي يمنحها فسحة عمودية تنقذها من الأفقية السردية التي أدخلها فيها الكتاب والمترجمون السابقون، وكي يقدمها كنص كامل يقطع مع الملخصات التي انتشرت في الإنكليزية. وتجدر الإشارة إلى أن الترجمة العربية الصادرة عن "دار ورد" في دمشق (2002) بتوقيع عبد الإله الملاح لا تخرج عن كونها ملخصا للملحمة (380 صفحة) إلا أنها تتصف بلغة أدبية رفيعة تستحق الثناء لا تشعر لدى قراءتها بأنها نص مترجم، إلا أن المترجم يعتمد لغة النثر بصيغها التقليدية، دون أن يُعيد صياغة لغة الملحمة بأسلوبه الحديث الخاص مثلما فعل مجمودار في الإنكليزية، مستندا إلى النص السنسكريتي الذي خطه الشاعر فياسا.

Handout/Amit Majmudar
المؤلف أميت مجمودار

لم يترجم مجمودار ما كتبه فياسا حرفيا، وإنما أعاد تأليفه بطريقته الخاصة وانطلق منه نحو آفاق تعبيرية جديدة. وكانت القاعدة التي اتبعها هي تقديم صياغة شعرية ونثرية جديدة ومبتكرة معتمدا على خياله الخاص الذي أثارته وحرضته لغة فياسا.

تفرّغ مجمودار لإعادة تأليف المهابهارتا كي يخلص للعهد الذي قطعه على نفسه، وتحوّل إلى صوتٍ داخل النص يتحكم بالأحداث، كما فعل فياسا في نصه، والذي يظهر في سياقه كابن وُلد من علاقة غير شرعية بين فتاة فقيرة وحكيم كبير في السن.

أنساب

يلقي الشاعر في المقدمة التي وضعها للملحمة الضوء على مسألة في غاية الأهمية وهي الفصل بين نشأة القصة وإبداعها وأدائها الفعلي، وهذا أمر اشتركت فيه الملاحم الهندية واليونانية واللاتينية وذلك من خلال ما يسميه "التضرع" لربة الإلهام المنشدة وتكون مهمة الشاعر هي نسخ ما تمليه عليه. ويذهب مجمودار إلى أبعد من ذلك مشككا بكون فياسا مؤلفا للمهابهارتا، بل عدّه ناقلا لها عن شاعر آخر سبقه، وهو في هذا مثل هوميروس الذي ربما كان ناقلا لملحمته عن شاعر آخر وليس مؤلفا لها. يقول مجمودار إن لسطورنا أنسابا، ذلك أن القصص والأساطير تأتي من مصدر ما ربما يكون الدماغ البشري والأصالة هي نتاج التهجين. ويرى أن القصة تتشابه مع اللغة. ففي اللغة تعاود النصوص مزج كلمات موجودة سابقا وتعاود الكلمات مزج ستة وعشرين حرفا.

غلاف "كتاب النذور"

واللغة تتشابه مع الحياة فالفرد يعاود مزج الحمض النووي الذي يرثه عن والديه. وهذا ما دفع مجمودار إلى إعادة كتابة المهابهارتا كما نقلها إليه فايشامبايانا الذي نقلها عن فياسا كما يذكر في المقدمة: "لذلك، منذ البداية، يتم نقل الملحمة. نحن لا نسمع من فياسا بل نسمع من تلميذه. أنا أيضا تلميذ فياسا وقناةٌ لنقل لقصة".

القصص والأساطير تأتي من مصدر ما ربما يكون الدماغ البشري والأصالة هي نتاج التهجين


ذكر أميت مجمودار في مقدمته أن مؤلّفي المسرحيات التراجيدية اليونانيين، وكذلك فيرجيل ودانتي وشكسبير لم يؤلفوا قصصهم. وينطبق الكلام هنا على الشاعر البريطاني جون ميلتون الذي لم يأت بقصة "الفردوس المفقود" من عدم، وغوته الذي لم يتفرد باختراع شخصية فاوست مؤكدا أن هذا يجب ألا يشكّل مفاجأة لنا.

اتبع الشاعر، كما يقول، نصّ فياسا بدقة إلا أنه لا سطر مما كتبه ترجم أي سطر في قصيدة فياسا، لأن مصدره الآخر كان خياله. أضاف في بعض المواضع تفاصيل ولمسات أسلوبية مفقودة في نسخ أخرى بما فيها نسخة فياسا. وكانت القاعدة التي اتبعها وهو يقوم بصياغته الشعرية هي تجنب ممارسة العنف على السرد نفسه.  فأبدع وتخيّل وروى من جديد، لكنه لم يخن النص الأصلي. كان هدفه على الصعيد الأدبي والشعري تقديم صوت جديد للملحمة، يجمع بين العناصر التقليدية وتقنيات السرد الحديثة. وسمحت له هذه المقاربة باستكشاف شخصيات الملحمة وموضوعاتها من زوايا جديدة، ليقدم للقراء تجربة مختلفة عن النسخ التقليدية.

Godong / Alamy Stock Photo
كاهن معبد ماثورا يقرأ المهابهاراتا

جوهر النص

سعى مجمودار في إعادة كتابته للملحمة إلى الحفاظ على جوهر النص الأصلي، مضفيا عليه حسا عصريا وشمل ذلك النظر بعناية في بنية الملحمة وموضوعاتها وديناميات شخصياتها. وعلى الرغم من أن النص الذي قدمه كان وفيا لروح الأصل إلا أنه استخدم لغة وتقنيات سردية حديثة تناسب قراء العصر الحالي وركز على تطوير الشخصيات غائصا إلى أعمق في صراعاتها الداخلية ومآزقها الأخلاقية، موفرا للقراء فهما أكثر إحاطة لدوافعها وصراعاتها. وأضاف هذا العمق النفسي طبقات للسرد التقليدي، وقدم تأويلات جديدة لشخصيات رئيسة مثل أرجونا وكريشنا ودوريودانا ويوديشترا وشاكوني وغيرهم.

احتفى نقاد ومؤرخون بإعادة تأليف أميت مجمودار للمهابهارتا وكتبوا الكثير من الدراسات والمقالات التي أثنت على قدرة الشاعر على تقديم نسخة متميزة تعكس منظورا جديدا وبلغة عالية وأثارت نقاشات حول أهمية الملاحم القديمة في العصر الحديث ودور الأدب في ردم الفجوات الثقافية. فذكرت الباحثة والمترجمة الهندية أرشيا ستار أن ما يضفي فرادة على نص الملحمة الذي ألفه مجمودار هو أسلوبه السردي المتميز الذي يشحن الملحمة بحساسية حديثة ويجعلها متاحة للقراء المعاصرين بينما يحترم نصها الأصلي. من ناحيته أشاد المؤرخ والكاتب البريطاني ويليام دلارايمبل بنص ماجمودار وأسلوبه الأدبي الرفيع قائلا إن قدرة الشاعر على إيصال موضوعات الملحمة عن طريق لغة معاصرة وتقنيات سردية حديثة، شحنت القصة بحيوية جديدة وجعلها تنتمي إلى القرن الواحد والعشرين. وأضاف أن استقصاء مجمودار للأبعاد النفسيّة للشخصيات بطريقة عميقة، نفخ روحا جديدة في الملحمة وبنى جسرا بين الحكمة القديمة والذائقة الأدبية المعاصرة.

Photo by Heritage Art/Heritage Images via Getty Images
بابهروفاهانا يسلم الحصان الأضحية شيمكارنا لوالده أرجونا

ورأت الناشطة والكاتبة الهندية غيثا هاريهاران أن النص الذي قدّمه ماجمودار أصيل لأنه يعكس فهما عميقا لكل من النص الأصلي للملحمة وللتقنيات الأدبية الحديثة واستطاع أن يعبّر عن التعقيدات العاطفية والأخلاقية فيها وجعلها متاحة للقراء في العالم الناطق بالإنكليزية. فما فعله يشكل انتصارا للخيال الأدبي، في رأيها.

استطاعت هذه اللغة الجديدة أن تجذب دائرة واسعة من القراء الذين اكتشفوا جوا مليئا بالسحر والإثارة


انبعث الدافع الذي حثّ مجمودار على إعادة كتابة الملحمة من إعجاب عميق بها وبسردها المعقد. ورأى في ذلك فرصة لإعادة الارتباط بتراثه الهندي عن طريق جعل الملحمة متاحة لقراء عالميين. وفي حوار أجرته معه "ذي نيويورك تايمز" في 2021  قال إن المهابهارتا ليست قصة من الماضي فحسب بل هي سرد أيضا يعالج قضايا معاصرة ولهذا كان هدفه من إعادة كتابتها ربط الحكمة القديمة بعالم اليوم كي يظهر كيف أن موضوعات الواجب والسلطة والأخلاق لا تزال حية في عصرنا.

Photo by Heritage Art/Heritage Images via Getty Images
الباندافا في محكمة الملك دروباد من المهابهاراتا

إن موقع أميت مجمودار الفريد عند تقاطع عالمين، عالم الهند القديمة وعالم الحداثة، مكَّنه من إعادة تأليف المهابهارتا بلغة سردية حديثة مشحونة بروح الشعر. واستطاعت هذه اللغة الجديدة أن تجذب دائرة واسعة من القراء الذين اكتشفوا جوا مليئا بالسحر والإثارة والتشويق في نص يعيد طرح أسئلة جوهرية ما تزال مهمة لبشر القرن الواحد والعشرين.

font change

مقالات ذات صلة