ديناميكية الاقتصاد السعودي تحت المجهر

مرونة ونضج في توجيه الاستثمارات وسط التحديات الإقليمية والعالمية

ناش ويراسكيرا
ناش ويراسكيرا

ديناميكية الاقتصاد السعودي تحت المجهر

لطالما لفتت المملكة العربية السعودية الأنظار إليها برؤيتها الثاقبة وعملها الدؤوب، وحنكتها في خرق جدران الأزمات، ووزنها كقوة عالمية لها قرارها وتأثيرها السياسي والديبلوماسي والاقتصادي حيث يجب.

اختبر العالم حكمة المملكة في التحولات الاستراتيجية، حيث نفضت عنها في السنوات الأخيرة معوقات، اجتماعية وسياسية وبيروقراطية-اقتصادية، ودخلت مع إطلاقها "رؤية 2030" قبل ثماني سنوات، مسارا جديدا يتسم بالانفتاح، والجرأة، والثقة، والصلابة.

بداية، ليس تفصيلا ثبات هذا المسار السعودي الجديد في تقدمه ونجاحاته، وسط عالم شهد فوز التطرف اليميني والشعبوية في أكثر من دولة، وتعصف به حاليا الصراعات السياسية والعسكرية والاقتصادية، وتستعر حروب متفاوتة في ست دول عربية، إضافة إلى كارثة حرب غزة وما يتهدد الضفة الغربية وجيرانها. ليس سهلا التحدث عن الاقتصاد والمؤشرات بين شرقين أوسطين، واحد تمثله دول الخليج العربي بنموها الاقتصادي، وآخر يزداد غرقا في جهنم الموت والدمار والتخلف و"يمانع" فتح أي باب للأمل بمستقبل إيجابي للشباب العربي في دوله.

في وجه الأزمات العاتية من كل صوب، وفي المنطقة العربية خصوصا، وتعطيل سلاسل الإمداد في البحر الأحمر المرتبط باستمرار الحرب على غزة منذ عام، وتمددها إلى لبنان، لا تنقص المملكة المرونة الاقتصادية، ولا الفطنة السياسية حرصا على مصالحها الوطنية أولا، وشركائها ثانيا، من دول إقليمية ومستثمرين وشركات عملاقة في الداخل السعودي وخارجه. فالأخطار المحدقة وحال عدم اليقين السائدة منذ ما يزيد على أربع سنوات، جعلت السعودية، كما دول العالم، تعيد النظر في بعض خططها ومشاريعها، وتشرع في تقييم موضوعي للجدوى الاقتصادية لكل مشروع على حدة، في ضوء المتغيرات، بما يتماشى مع حاجات المملكة ومتطلبات الحفاظ على متانة موقعها كبلد يضيء بالفرص والإيجابيات.

غني عن القول أن المشاريع التي نفذت في البنى التحتية هي استثمار استراتيجي تنموي طويل الأجل ومجز بكل الأحوال لأي بلد، يؤسس لاقتصادات متماسكة وتحولات إيجابية مستدامة

من الواضح أن ثمة غيوما داكنة تحوم في أرجاء المعمورة، تدفع الكبار من دول وشركات، إلى اعتماد وضعيات دفاعية تدفع بالكثير من المحللين إلى التحذير من خطورة ما هو آت، إذا ما بقي العالم متكئا على تعاضد هش، يسقط مع أول حالة إفلاس قد يفصح عنها مصرف عريق من هنا، أو تهالك سياسة نقدية لدولة ما من هناك. ولا سيما في ظل عدم اليقين، مع استمرار الحروب من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط.

مرحلة النضج الاقتصادي الاستراتيجي وتعزيز الثقة

انطلقت المملكة، وبزخم كبير، في مشاريع كبرى رصدت لها موازنات فاقت مئات مليارات الدولارات، وقد عزز هذا الزخم ارتفاع أسعار النفط مع اندلاع حرب روسيا وأوكرانيا، لتسجل المملكة فائضا في موازنتها عام 2022، قبل أن تتراجع أسعار النفط، ويعود العجز إلى الموازنة، وهو أمر معهود لدى الدول عموما. وغني عن القول إن المشاريع التي نفذت في البنى التحتية هي استثمار استراتيجي تنموي طويل الأجل ومجز بكل الأحوال لأي بلد، يؤسس لاقتصادات متماسكة وتحولات إيجابية مستدامة.

ديانا استيفانيا روبيو

وبغض النظر عن روزنامة إنجاز المملكة لهذه المشاريع، التي تقلصها حينا وتتوسع بها أحيانا أخرى، لا ريب أن السعودية في خضم مشروع وطني ضخم، لا يمكن أن يصبح واقعا بين عشية وضحاها، وهذا ما عبر عنه وزير المالية محمد الجدعان خلال مؤتمر في أبريل/نيسان الماضي، كاشفا أن المملكة ستعدل خطتها المتعلقة بـ"رؤية 2030" لتحويل اقتصادها وفقا لما تقتضيه الحاجة، مما يقلص حجم بعض المشروعات ويسرع وتيرة مشروعات أخرى.

وهو ما يترجم بتركيز المملكة على ضمان جودة النمو الاقتصادي المستقبلي، واعتماد المرونة في مواجهة التحديات.

ويقول الوزير الجدعان إن "رؤية 2030 أسهمت في رسم الخطط الاقتصادية للمملكة، وإنها تبقى متعلقة بتنويع الاقتصاد بعيدا عن النفط، وتركز على النمو النوعي وليس الكمي"، مشيرا إلى أن "المهم بالنسبة لنا نمو الاقتصاد غير النفطي، وتعزيز دور القطاع الخاص، ولو أردنا لأنتجنا 10 ملايين برميل نفط يوميا بدل 9,5 مليون برميل وحققنا نموا أكبر بكثير في الناتج المحلي الإجمالي".

المتغيرات الاقتصادية العالمية المرتبطة بأحداث وسياسات، تدفع الدول إلى تطويع مواردها وأدواتها وسياساتها بهدف الحفاظ على استقرارها وإيجاد حلول بديلة للتكيف مع أي واقع جدي

إذن، الأمر المحسوم هو أن في إمكان المملكة تحقيق مستهدفاتها، وهي ناضجة ومليئة بما يكفي لإعادة برمجة بعض مشاريعها، أو استبدالها بخيارات أفضل تبعا لتحديات الأسواق العالمية والإقليمية والمتغيرات الدولية.

لقد مضت الولايات المتحدة الأميركية، بكل عظمة اقتصادها، لمدة سنتين، ترفع فوائد سنداتها إلى مستويات تاريخية، وتراكم مديونيتها التي قاربت الـ 35 تريليون دولار، قبل أن تخفض نصف نقطة في سبتمبر/أيلول الشهر المنصرم. وإن لم يتعلم المرء الأداء الاقتصادي والاستثماري من أميركا فممن يتعلم؟

الأخطار والمتغيرات وتكيف الاقتصاد

ينبغي النظر في أمور رئيسة واستراتيجية جوهرية عند تقييم موقع المملكة الاقتصادي والاستثماري كمحرك فاعل للاقتصاد العالمي. تشمل هذه الأمور:

أولا، الأخطار بأبعادها الثلاثة، المحيطة والطارئة والمحتملة، التي وإن أمكن توقعها، يصعب التكهن بوقت حدوثها، بحدتها أو مدى تأثيرها على المديين القريب والبعيد.

ديانا استيفانيا روبيو

ثانيا، المتغيرات الاقتصادية العالمية المرتبطة بأحداث وسياسات، تدفع الدول إلى تطويع مواردها وأدواتها وسياساتها بهدف الحفاظ على استقرارها وإيجاد حلول بديلة للتكيف مع أي واقع جديد، وتسمح بسبر أغوار التحولات الاستراتيجية بسهولة وثبات. 

أما الأمر الثالث، فهو تقييم الانجازات الفعلية للمملكة وتوجهاتها الحالية والمستقبلية مع الأخذ في الاعتبار الأمرين الأولين، وهو ما ينم عن نضج استراتيجي يوجه الخيارات المثلى للمملكة بما يخالف التوجهات التقليدية أحيانا، وبعيدا عن التجاذبات السياسية والاقتصادية، وبما يصب في الطموحات ذاتها ويحفظ مكانة المملكة الدولية كطاقة تنافسية كبرى.

شكل إنشاء صندوق الاستثمارات العامة القاطرة الرئيسة لتوفير قوة دفع مالية تلبي متطلبات "رؤية 2030"، واجتذاب الاستثمارات الأجنبية، وتعزيز المحتوى والمنتج المحليين من خلال رفع مساهمة القطاع الخاص في محفظته إلى 60% بحلول نهاية عام 2025

كان لا بد للمملكة في رحلة التحول والتنويع من وضع أسس وركائز متينة لبناء المستقبل، ولا سيما في ما يتعلق بالبنية التحتية الاستثمارية من تشريعات وقوانين وأنظمة وتقنيات حديثة، في مقدمها الذكاء الاصطناعي، وتدريب المهارات وتأهيلها وصقلها، وسعي المملكة لاجتذاب الاستثمارات الأجنبية، وهي عامل رئيس للمضي قدما في تنفيذ رؤيتها والمشاريع العملاقة المخطط لها. وكان لا بد لهذه الركائز من أن تقوم على مبادئ الحوكمة والاستدامة وصدقية الإنجاز، فكان إطلاق "رؤية 2030" عام 2016، وإنشاء صندوق الاستثمارات العامة عام 2017، ووضع الاستراتيجيا الوطنية للاستثمار عام 2021.

ومنذ إطلاق الرؤية، واستراتيجيا التحول الاقتصادي والاجتماعي في المملكة، خطت السعودية خطوات جبارة في تنمية الاقتصاد غير النفطي من خلال الاستثمارات المتنوعة عبر القطاعات الاقتصادية الاستراتيجية.

وبحسب التقرير السنوي للرؤية في عامها الثامن، أكملت 87 في المئة من مبادراتها، كما أن 81 في المئة من مؤشرات الأداء الرئيسة حققت أهدافها السنوية. ونقل عن وزير الاستثمار السعودي، خالد الفالح، قوله: "كان هناك الكثير من الناس الذين شككوا في الرؤية والطموح، ومدى اتساعها وعمقها وشمولها، وما إذا كانت دولة مثل السعودية التي تعتمد منذ عقود عديدة على النفط، ستكون قادرة على القيام بما تطمح إليه ضمن رؤية 2030".

قاطرة صندوق الاستثمارات العامة

شكل إنشاء صندوق الاستثمارات العامة القاطرة الرئيسة لتوفير قوة دفع مالية تلبي متطلبات "رؤية 2030"، واجتذاب الاستثمارات الأجنبية، وتعزيز المحتوى والمنتج المحليين من خلال رفع مساهمة القطاع الخاص في محفظته إلى 60 في المئة بحلول نهاية عام 2025، فيما تهدف "رؤية 2030" لزيادة مساهمة القطاع الخاص في الناتج المحلي الإجمالي إلى 65 في المئة بحلول عام 2030، وهي اليوم نحو 45 في المئة بحسب وزير الاقتصاد والتخطيط السعودي، فيصل الإبراهيم، كما تصل نسبة مساهمته إلى نحو 75 في المئة في الناتج المحلي غير النفطي وفقا للأرقام الرسمية.

ديانا استيفانيا روبيو

هذا إلى جانب استثمار الصندوق، الذي وصل حجم أصوله إلى نحو 925 مليار دولار في 2024، في إنشاء شركات وطنية رائدة في قطاعات الخدمات المالية والطيران والسياحة والصناعة، في مقدمها "طيران الرياض" وشركة التعدين "معادن" و"سافي" للألعاب وشركة "لوسيد" لصناعة السيارات الكهربائية، حيث يسجل للشركات في محفظة صندوق الاستثمارات إمداد الصندوق بالنشاط إذ تقوم بمعظم الاستثمار بنفسها في سعيها لتحقيق أهدافها.

 يمكن إنفاق نحو تريليون دولار محليا حتى نهاية العقد على استثمارات أولية في ستة قطاعات أساسية، بما في ذلك التكنولوجيا النظيفة، والمعادن والتعدين، والنقل والخدمات اللوجستية والتحول الرقمي والطاقة

مصرف "غولدمان ساكس"

ويحتل الصندوق المرتبة السادسة في تصنيف المنظمات الاستثمارية المملوكة للدولة من قبل معهد صناديق الثروة السيادية. وهو منذ إنشائه، ضخ عشرات مليارات الدولارات في استحواذ حصص في أصول أجنبية أو شرائها، وعشرات أخرى في أسواق الأسهم الأميركية والأوروبية.

إطلاق شركة "آلات" الرائدة

حتمت التحديات الاقتصادية والتجارية التي ولدتها الحروب والنزاعات الدائرة في المنطقة، التركيز على الاستثمار في مجالات محددة لتعزيز التنمية الوطنية بما تقتضيه تطورات المرحلة. وكان لتلك التحديات أثر كبير في تراجع أسعار النفط، على الرغم من الخفوضات الطوعية للإنتاج التي قادتها السعودية في "أوبك بلس"، وتعاظم حال عدم اليقين السائدة. على سبيل المثل، حصلت شركة "بلاك روك"، إحدى أبرز شركات إدارة الأصول الأميركية، على 5 مليارات دولار من صندوق الاستثمارات العامة، لتأسيس شركة استثمارية جديدة في الرياض. إلا أنه جرى تفويضها للتركيز في المقام الأول على تطوير أسواق رأس المال السعودية.

إقرأ أيضا: السعودية تمضي في توطين صناعة الرقائق وأشباه الموصلات

ومن التطورات البارزة الأخرى التي شهدها الصندوق في فبراير/شباط الماضي، إطلاق شركة "آلات" الرائدة، والهادفة الى تحويل المملكة إلى مركز عالمي لتصنيع التكنولوجيا المستدامة، وتشمل تصميم الرقائق وأشباه الموصلات والأجهزة الذكية والحلول الصحية، بالإضافة إلى حلول المباني الذكية التي تجمع بين الابتكار والاستدامة والكفاءة. كما ستصنّع "آلات" أكثر من 30 فئة منتجات تخدم القطاعات الحيوية، بما في ذلك أنظمة الروبوتات والاتصالات وأجهزة الكومبيوتر المتقدمة والترفيه الرقمي، وتعتزم استحداث أكثر من 39 ألف وظيفة بحلول عام 2030.

تتسق الصناعات المتقدمة في "آلات"، عبر ريادتها في قطاع الكهرباء والطاقة النظيفة، مع أهداف رؤية المملكة 2030 بشكل استراتيجي، مما يعزز قدرة "آلات" الصناعية لقيادة العالم في هذا المجال.

الاستراتيجيا الوطنية للاستثمار

استتبع إنشاء صندوق الاستثمارات العامة بإطلاق الاستراتيجيا الوطنية للاستثمار عام 2021، كعامل تمكيني حاسم لتحقيق "رؤية 2030"، ولدعم الابتكار والقطاعات الاستراتيجية وتحفيز مساهمة القطاع الخاص. ويقدر مصرف "غولدمان ساكس" أنه يمكن إنفاق نحو تريليون دولار محليا حتى نهاية العقد على استثمارات أولية في ستة قطاعات أساسية، بما في ذلك التكنولوجيا النظيفة، والمعادن والتعدين، والنقل والخدمات اللوجستية والتحول الرقمي والطاقة.

بلغ الاستثمار الأجنبي المباشر في السعودية 19,3 مليار دولار في 2023. ومن المتوقع أن تساهم هذه الاستثمارات في رفع نسبة المحتوى الوطني إلى 57% وتوفير نحو مليوني فرصة عمل

تستهدف الاستراتيجيا تعزيز دور الاستثمار الأجنبي المباشر، الذي من المتوقع أن ينمو إلى 3,4 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2025 و5,7 في المئة بحلول عام 2030. ويفترض أن تساهم الاستثمارات الأجنبية في مختلف القطاعات الحيوية في توفير فرص عمل للمواطنين وخفض نسبة البطالة إلى ما دون الـ7 في المئة، بحسب الموقع الرسمي للاستراتيجيا الوطنية للاستثمار.

وقد بلغ الاستثمار الأجنبي المباشر في السعودية 72,3 مليار ريال (19,3 مليار دولار) في 2023. ومن المتوقع أن تساهم هذه الاستثمارات في رفع نسبة المحتوى/الإنتاج الوطني إلى 57 في المئة وتوفير نحو مليوني فرصة عمل، وتعزيز الصادرات غير النفطية إلى 580 مليار ريال (نحو 155 مليار دولار) بحلول عام 2030.

برنامج "شريك" للاستثمار المحلي 

ومن ركائز الاستراتيجيا الأساسية، برنامج "شريك"، الذي يهدف إلى زيادة الاستثمار المحلي الذي تقوم به شركات القطاع الخاص المدرجة وغير المدرجة في البورصة إلى 1,3 تريليون دولار بحلول عام 2030. وكجزء من البرنامج، الذي يشمل 28 شركة خاصة، تبتغي المملكة إنماء الصادرات غير النفطية إلى 50 في المئة من الناتج المحلي، من 16 في المئة حاليا.

ديانا استيفانيا روبيو

ومن أهم ما تهيئ له الاستراتيجيا الوطنية للاستثمار، تعزيز بيئة الأعمال من خلال الإجراءات التنظيمية والتشريعية الرئيسة، وتوفير الحوافز لمشاريع عدة، وجذب المقار الإقليمية للشركات العالمية والمتعددة الجنسيات إلى المملكة، حيث تتوفر الحماية القانونية والاستقرار السياسي والتسهيلات الإدارية المناسبة. ونجحت مبادرة برنامج المقر الإقليمي (Regional Head Quarters - RHQ) في اجتذاب أكثر من 300 شركة أجنبية حتى نهاية 2023. ونقلت نحو 127 شركة عالمية مقارها الإقليمية إلى المملكة خلال الربع الأول من عام 2024، وفقا لتقرير جديد، بزيادة قدرها 477 في المئة عن العام المنصرم، كما حصلت أكثر من 400 شركة عالمية على تراخيص لفتح مقار إقليمية، بما في ذلك عمالقة التكنولوجيا "أمازون" و"ألفابت" و"غوغل" و"مايكروسوفت"، وشركات الاستشارات والتدقيق مثل "برايس ووترهاوس كوبرز" و"ديلويت"، وشركات متعددة الجنسيات مثل "بيبسيكو" و"يونيلفر"، ومصرف "غولدمان ساكس"، وهو أول مصرف مدرج على "وول ستريت" يحصل على ترخيص مماثل.

كما ستساعد الاستراتيجيا الشركات المحلية على طرح منتجاتها وخدماتها بنجاح في الأسواق الإقليمية والعالمية.

عمدت المملكة في الآونة الأخيرة الى تعديل أنظمة الاستثمار بشكل لافت وإيجابي، منها تمكين المستثمر من تسجيل مشروعه مرة واحدة فقط دون الحاجة للحصول على العديد من التراخيص والموافقات المسبقة

وتتضمن الاستراتيجيا مبادرات عدة، مثل إنشاء وتطوير مناطق اقتصادية خاصة، مثل مدينة الملك عبد الله الاقتصادية، ورأس الخير، وجازان، والمناطق الاقتصادية الخاصة للحوسبة السحابية، والمنطقة اللوجستية المتكاملة الخاصة (SILZ)، ذات أنظمة وحوافز تنافسية لجذب الاستثمارات في القطاعات ذات الأولوية، ونقل سلاسل الإمداد الاستراتيجية إلى المملكة. الأمر الذي قد يدفع اقتصاد المملكة ليصبح واحدا من أكبر 15 اقتصادا في العالم. وتعتبر المناطق الاقتصادية الخاصة بمثابة النموذج المثالي للتنوع الاقتصادي في المملكة.

إقرأ أيضا: السعودية... مركز لوجستي عالمي

تتكامل الاستراتيجيا الوطنية للاستثمار مع أطر استراتيجية أخرى، صناعية ولوجستية وسياحية، إضافة إلى الاستراتيجيا الوطنية للبيانات والذكاء الاصطناعي، التي ترمي إلى جذب استثمارات بـ 75 مليار ريال (20 مليار دولار) في فرص البيانات المؤهلة والذكاء الاصطناعي عبر قطاعات شتى، وتمكين أفضل مؤسسات البيانات والذكاء الاصطناعي لقيادة الابتكار والتأثير، وتحفيز اعتماد البيانات والذكاء الاصطناعي من خلال رعاية نظام بيئي يضم 300 شركة ناشئة في هذا المجال. وتشمل قطاعات التركيز الرئيسة، التعليم والحوكمة، والرعاية الصحية، والطاقة والتنقل. والواضح أن المملكة تولي جدية كبيرة لهذه القطاعات، وهي في صدد الحصول على الرقائق العالية الأداء التي تنتجها شركة "إنفيديا" الأميركية، التي ستمكنها من تطوير وتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي الأكثر تقدما.

إصلاحات اقتصادية اجتماعية متكاملة

يتجلى إلتزام الحكومة السعودية تحقيق التنويع الاقتصادي من خلال الأخذ بإصلاحات من شأنها الحد من البيروقراطية، وتقديم حوافز للمستثمرين، وتبسيط إجراءات الترخيص للشركات، محلية كانت أم أجنبية، للعمل في البلاد.

وأقدمت المملكة في الآونة الأخيرة على تعديل أنظمة الاستثمار بشكل لافت وإيجابي، منها تمكين المستثمر من تسجيل مشروعه مرة واحدة فقط دون الحاجة للحصول على العديد من التراخيص والموافقات المسبقة. ومن أهم التعديلات التي سجلت في أنظمة الاستثمار المحدثة، تلك التي تتعلق بضمان المساواة في المعاملة بين المستثمر المحلي والمستثمر الأجنبي.

الدور المُقَدر للمقيمين وإلغاء الكفيل

كذلك تؤكد التعديلات "حرية التصرف في نشاط الاستثمار وحرية تحويل رؤوس الأموال دون تأخير وتأكيد حماية الملكية الفكرية والمعلومات التجارية السرية". لا ريب أن هذه الخطوة الرؤيوية تؤكد عمل المملكة على تعزيز مناخ استثماري حيوي وشفاف وشامل. وما رفع "ستاندرد آند بورز" من نظرته المستقبلية للسعودية من مستقر إلى إيجابي، إلا إشارة إلى جودة الإصلاحات التي قامت بها المملكة، وقدرتها على جذب الاستثمارات الأجنبية وصحة مناخ الاستثمار فيها.

تدرك المملكة الدور المحوري للمقيمين الأجانب، البالغ عددهم نحو 13,4 مليون نسمة، ومساهمتهم في استمرار عجلة التنمية، لذلك حرصت خلال السنوات المنصرمة على تنظيم العلاقة بين صاحب العمل والعامل الوافد بقوانين تحفظ مصالح الطرفين

تدرك المملكة الدور المحوري للمقيمين الأجانب، البالغ عددهم نحو 13,4 مليون نسمة، أي ما تصل نسبته إلى 41,6 في المئة من السكان، ومساهمتهم في استمرار عجلة التنمية، لذلك حرصت خلال السنوات المنصرمة على تأطير العلاقة بين صاحب العمل والعامل الوافد بقوانين تحفظ مصالح الطرفين. وليس الأمر بجديد، إذ تعتبر المملكة حقوق الأجانب، سواء كانوا عمالا أو سياحا، على رأس أولويات "رؤية 2030" ومستهدفاتها التي سخرت للجانب الإنساني كل الإمكانات.

ومن المبادرات الحية في هذا المجال، مبادرة تحسين العلاقة التعاقدية التي أطلقت في عام 2020، والتي تم بموجبها إلغاء الكفيل كما كان سائدا من قبل، لتعطي الوافد الحق في الخروج نهائيا من البلاد عند انتهاء عقده إذا رغب بذلك، بعيدا عن احتكار الشركة أو الأفراد للعمال لمصلحتهم.

يؤكد النظام الاستثماري الجديد أهمية التفاعل مع المتغيرات في الاقتصاد العالمي والموازنة بين المتطلبات المحلية وحقوق المستثمرين الأجانب. كما يسعى الى تحويل السعودية إلى دولة تحظى بجاذبية استثمارية رشيدة.

نجاح طرح أسهم "أرامكو"

إحدى أبرز مبادرات الإصلاح الاقتصادي التي اتخذتها المملكة، هي طرح أسهم شركة "أرامكو" للاكتتاب العام في 2019، تلاه طرح آخر في يونيو/حزيران 2024، وقد حصدت المبادرة إقبالا باهرا واهتماما بالغا من المستثمرين الأجانب خصوصا، وتمكنت من جمع نحو 42 مليار دولار، شكلت دعما تمويليا للمملكة في رحلة تنفيذ مشاريعها الكبرى وتنويع اقتصادها. أهم دلالات نتائج هذه الطروحات، هي الثقة الكبيرة في صدقية توجهات المملكة وأهدافها وإمكاناتها وقدرتها على الإنجاز والوفاء بوعودها مهما بلغ حجمها. 

وقد تشهد الشركة طروحات أخرى مستقبلا لتلبية التزاماتها، خصوصا بعد فوز المملكة باستضافة "إكسبو 2030" وأرجحية استضافتها لـ"كأس العالم 2034" كونها البلد الوحيد الذي أعرب عن رغبته في تنظيم هذا الحدث العالمي الضخم. هذا عدا استضافتها كأس آسيا لكرة القدم عام 2027، ودورة الألعاب الآسيوية الشتوية 2029.

بفضل التقدم الهائل الذي حققه الاقتصاد السعودي في إطار التحول الاقتصادي "غير المسبوق" الذي تشهده المملكة، نجحت بذلك في دفع جهود التحديث والتنويع

تقريرالمادة الرابعة لصندوق النقد الدولي لعام 2024

شهدت المملكة تحولا ملحوظا في السنوات الأخيرة، يمثل منعطفا في مسار تحقيق "رؤية 2030"، تمكنت المملكة خلاله من الحد من الاعتماد على النفط، وتنويع مصادر الدخل. وشكل هذا التحول نواة التقارير الرئيسة والمراجعات الدورية الصادرة عن صندوق النقد الدولي عن السعودية، التي تنضح إيجابية وتفاؤلا.

إشادة صندوق النقد الدولي بالانجازات

فقد أثنى صندوق النقد الدولي في تقييمه الأخير، ضمن تقرير المادة الرابعة، وعلى لسان رئيس بعثة الصندوق إلى السعودية، أمين ماتي، على التقدم الهائل الذي حققه الاقتصاد السعودي في إطار التحول الاقتصادي "غير المسبوق" الذي تشهده المملكة، حيث نجحت في دفع جهود التحديث والتنويع في إطار "رؤية 2030"، متوقعا نموا غير نفطي بواقع 4,4 في المئة على المدى المتوسط، مدفوعا برفع صندوق الاستثمارات العامة الاستثمار من 40 مليار دولار سنويا إلى 70 مليار دولار بدءا من عام 2025، على أن يساهم الإلغاء التدريجي لخفض إنتاج النفط في تعزيز النمو الكلي ليصل إلى 4,7 في المئة في عام 2025، قبل أن يبلغ متوسطه 3,7 في المئة سنويا بعد ذلك.

ديانا استيفانيا روبيو

وكان لافتا إعلان الصندوق تأييده لاتجاه المملكة نحو إعادة تقييم إنفاقها الاستثماري، لما في ذلك من حد من أخطار فورة النشاط الاقتصادي، وفقا للصندوق.

وعلى الرغم من توجه المملكة إلى الاستدانة في إطار استراتيجيتها المتكاملة في منظومة التمويل، يتوقع صندوق النقد ارتفاع نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي إلى نحو 36 في المئة بحلول عام 2029، وهي نسبة تقل بشكل مريح من سقف الدين البالغ 40 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي الذي حددته المملكة.

التنوع الاقتصادي الثلاثي المطلوب

وليس غريبا أن يتضمن التقرير إشادات توثّق رحلة المملكة نحو مالية مستدامة واقتصاد مزدهر في ظل "رؤية 2030"، ومن أبرز المؤشرات التي أضاء عليها، النمو الملحوظ الذي سجله الناتج المحلي غير النفطي الذي بلغ 3,8 في المئة في عام 2023 مدعوما بشكل رئيسي بالاستهلاك الخاص والاستثمارات غير النفطية، على الرغم من انكماش النمو الكلي بنسبة 0,8 في المئة في العام نفسه بسبب انخفاض إنتاج النفط.

تبلغ حصة النفط في الاقتصاد حاليا 30% بعدما كانت 50% قبل عقد من الزمن، وتضاعفت الإيرادات غير النفطية على مدى 5 سنوات من 6% من الناتج المحلي غير النفطي إلى 12%، وحصة النفط كنسبة مئوية من الإيرادات الإجمالية تبلغ الآن نحو 60% فيما كانت 80%

أمين ماتي، رئيس بعثة صندوق النقد الدولي في السعودية

وكان رئيس بعثة الصندوق في الرياض، أشار في حديث عن التنوع الاقتصادي للمملكة إلى ثلاثة جوانب مختلفة ينبغي النظر إليها، وهي "التنوع من حيث الناتج المحلي الإجمالي، التنويع من حيث الايرادات، والتنويع من حيث الصادرات".

إذ، وفقا لماتي، "تبلغ حصة النفط في الاقتصاد حاليا 30 في المئة بعدما كانت 50 في المئة قبل عقد من الزمن. وإذا نظرنا إلى الإيرادات غير النفطية نجد أنها تضاعفت على مدى السنوات الخمس الماضية من 6 في المئة من الناتج المحلي غير النفطي إلى 12 في المئة.

ديانا استيفانيا روبيو

وإذا نظرت إلى حصة النفط كنسبة مئوية من الإيرادات الإجمالية، فهي تبلغ الآن نحو 60 في المئة فيما كانت تبلغ 80 في المئة أو أكثر في السابق. أما إذا نظرنا إلى حصة الدولار من صادرات النفط، فهي تبلغ الآن نحو 75 في المئة وكانت أقرب إلى 90 في المئة سابقا. لذا فقد تم احراز الكثير من التقدم في ما يتعلق بالنمو غير النفطي".

ونوه تقرير الصندوق بانخفاض معدل البطالة إلى أدنى مستوياته التاريخية، وبتباطؤ معدل التضخم على أساس سنوي إلى 1,6 في المئة في مايو/أيار 2024، وببقاء الاقتصاد السعودي حتى الآن بمنأى من انعكاسات كبيرة نتيجة الأحداث الجغرافية والسياسية الجارية، وبقوة القطاع المصرفي وقدرة المصارف المحلية على مواجهة أي صدمات، حتى في ظل السيناريوهات السلبية الشديدة.

إقرأ ايضا: السعودية أرض الفرص والطموحات

في الخلاصة كما تبدو الصورة في بداية الربع الأخير من 2024، نجحت المملكة في تثبيت موقعها على الخريطة الاقتصادية والاستثمارية العالمية، وشهدت محطات عديدة من إطلاق المبادرات والمشاريع، أضاءت خلالها على مسيرة لا تخلو من التحديات والانتقادات والمنافسة، كانت حافزا لأن تزيد المملكة عزيمتها وترشد طموحاتها وتؤكد قدرتها على إدارة الأزمات ومكانتها البارزة لتكون إحدى الدعائم المتينة والضامنة للاقتصاد العالمي.

font change

مقالات ذات صلة