لطالما تكرر السؤال: لبنان إلى أين؟ ولطالما كانت لتكراره أسباب موضوعية في بلد لا تكاد تغيب عنه أزمة حتى تطل عليه أخرى. لكن رغم التاريخ المديد للأزمات في لبنان- حتى تحولّت جزءا أساسيا من تكوين البلد وتحولت معها قدرة اللبنانيين على التأقلم والتعايش مع الأزمات إلى خاصية لبنانية نادرة وغير مبررة أحيانا- فإن ما يشهده لبنان حاليا أزمة غير مسبوقة في خطورتها على حاضر البلد ومستقبله.
منذ 23 سبتمبر/أيلول الماضي ولبنان يشهد تصعيدا إسرائيليا استثنائيا في كثافة نيرانه وأهدافه ومدياته الجغرافية حتى كاد يطال مناطق على طول الخريطة اللبنانية من الشمال إلى الجنوب مع تركيز على الجنوب والبقاع فضلا عن بيروت وبالأخص ضاحيتها الجنوبية التي شهدت غارات إسرائيلية عنيفة جدا طالت الجسم القيادي الرئيس في "حزب الله" وعلى رأسه أمينه العام حسن نصرالله. وقد ترافق ذلك مع موجة تهجير غير مسبوقة من الجنوب والبقاع وبيروت بفعل القصف الإسرائيلي، و"أوامر الإخلاء" التي يصدرها الجيش الإسرائيلي والتي طالت نحو 200 قرية في الجنوب اللبناني، فضلا عن أحياء في "الضاحية" طالها القصف.
بالتالي فإن لبنان الذي يواجه هجوما إسرائيليا جويا وبريا عنيفا، يواجه أيضا أزمة اجتماعية داخلية متمثلة في هذا العدد الهائل من المهجرين والذي تخطى المليون شخص في بلد يعاني من أزمة اقتصادية خانقة ومن تداعي بناه التحتية. هذا فضلا عمّا يرتبه هذا التهجير من "أعباء" اجتماعية- سياسية، في ظل التركيبة اللبنانية المعقدة وحساسياتها القديمة الجديدة التي تجعل الخريطة الديموغرافية في البلد فائقة الحساسية وملتهبة أحيانا.
كل ذلك يجعل السؤال: لبنان إلى أين، سؤالا ملحا ومشروعا أكثر من أي وقت مضى، مع العلم أن لا أحد يملك إجابة واضحة عليه في ظلّ الهجوم الإسرائيلي المتمادي والذي يبدو أنّ لا أحد في العالم يمكنه ضبطه أقله في المدى القريب. والأخطر أنّ إسرائيل تتصرف وكأن لديها فسحة زمنية لتحقيق أهدافها في لبنان وأولها "تغيير الواقع الأمني" في الجنوب بما يسمح بعودة مستوطنيها إلى "الشمال" بعد أن هجروه ابتداء من الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023.
والحال فإنّ النظر في وقائع الهجوم الإسرائيلي والذي لا يمكن وصفه وحسب على أنه حرب بين "حزب الله" وإسرائيل لأن تبعاته تطال كامل الجغرافيا اللبنانية ولأن ضحاياه غير محصورين، النظر في تلك الوقائع يدفع إلى قراءة هذا الهجوم على أنه جزء من الصراع الكبير الدائر في المنطقة منذ السابع من أكتوبر الماضي والذي تطور بصورة تدريجية حتى بلغ درجات المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل، القوتين الإقليميتين اللتين تتصارعان منذ عقود على رسم ملامح الشرق الأوسط. فمن ناحية تستخدم إيران كل أدواتها العسكرية والأمنية لبسط نفوذها في المنطقة، ومن هذه الأدوات الضغط على إسرائيل كحليف رئيس للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ومن ناحية ثانية فإنّ إسرائيل تعطي لمعركتها ضدّ إيران معاني أبعد من الدفاع عن نفسها، وليس قليل الدلالة في هذا السياق تكرار بنيامين نتنياهو ما مفاده أن الجيش الإسرائيلي يقاتل إيران ووكلاءها نيابة عن الغرب بأسره.