لبنان إلى أين؟

السؤال الذي لا يملك أحد جوابا عليه

أ ف ب
أ ف ب
تظهر هذه الصورة الملتقطة من مدينة صور بجنوب لبنان سحابة من الدخان تندلع في أعقاب غارة جوية إسرائيلية على قرية دير قانون في 14 أكتوبر

لبنان إلى أين؟

لطالما تكرر السؤال: لبنان إلى أين؟ ولطالما كانت لتكراره أسباب موضوعية في بلد لا تكاد تغيب عنه أزمة حتى تطل عليه أخرى. لكن رغم التاريخ المديد للأزمات في لبنان- حتى تحولّت جزءا أساسيا من تكوين البلد وتحولت معها قدرة اللبنانيين على التأقلم والتعايش مع الأزمات إلى خاصية لبنانية نادرة وغير مبررة أحيانا- فإن ما يشهده لبنان حاليا أزمة غير مسبوقة في خطورتها على حاضر البلد ومستقبله.

منذ 23 سبتمبر/أيلول الماضي ولبنان يشهد تصعيدا إسرائيليا استثنائيا في كثافة نيرانه وأهدافه ومدياته الجغرافية حتى كاد يطال مناطق على طول الخريطة اللبنانية من الشمال إلى الجنوب مع تركيز على الجنوب والبقاع فضلا عن بيروت وبالأخص ضاحيتها الجنوبية التي شهدت غارات إسرائيلية عنيفة جدا طالت الجسم القيادي الرئيس في "حزب الله" وعلى رأسه أمينه العام حسن نصرالله. وقد ترافق ذلك مع موجة تهجير غير مسبوقة من الجنوب والبقاع وبيروت بفعل القصف الإسرائيلي، و"أوامر الإخلاء" التي يصدرها الجيش الإسرائيلي والتي طالت نحو 200 قرية في الجنوب اللبناني، فضلا عن أحياء في "الضاحية" طالها القصف.

بالتالي فإن لبنان الذي يواجه هجوما إسرائيليا جويا وبريا عنيفا، يواجه أيضا أزمة اجتماعية داخلية متمثلة في هذا العدد الهائل من المهجرين والذي تخطى المليون شخص في بلد يعاني من أزمة اقتصادية خانقة ومن تداعي بناه التحتية. هذا فضلا عمّا يرتبه هذا التهجير من "أعباء" اجتماعية- سياسية، في ظل التركيبة اللبنانية المعقدة وحساسياتها القديمة الجديدة التي تجعل الخريطة الديموغرافية في البلد فائقة الحساسية وملتهبة أحيانا.

كل ذلك يجعل السؤال: لبنان إلى أين، سؤالا ملحا ومشروعا أكثر من أي وقت مضى، مع العلم أن لا أحد يملك إجابة واضحة عليه في ظلّ الهجوم الإسرائيلي المتمادي والذي يبدو أنّ لا أحد في العالم يمكنه ضبطه أقله في المدى القريب. والأخطر أنّ إسرائيل تتصرف وكأن لديها فسحة زمنية لتحقيق أهدافها في لبنان وأولها "تغيير الواقع الأمني" في الجنوب بما يسمح بعودة مستوطنيها إلى "الشمال" بعد أن هجروه ابتداء من الثامن من أكتوبر/تشرين الأول 2023.

والحال فإنّ النظر في وقائع الهجوم الإسرائيلي والذي لا يمكن وصفه وحسب على أنه حرب بين "حزب الله" وإسرائيل لأن تبعاته تطال كامل الجغرافيا اللبنانية ولأن ضحاياه غير محصورين، النظر في تلك الوقائع يدفع إلى قراءة هذا الهجوم على أنه جزء من الصراع الكبير الدائر في المنطقة منذ السابع من أكتوبر الماضي والذي تطور بصورة تدريجية حتى بلغ درجات المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل، القوتين الإقليميتين اللتين تتصارعان منذ عقود على رسم ملامح الشرق الأوسط. فمن ناحية تستخدم إيران كل أدواتها العسكرية والأمنية لبسط نفوذها في المنطقة، ومن هذه الأدوات الضغط على إسرائيل كحليف رئيس للولايات المتحدة في الشرق الأوسط. ومن ناحية ثانية فإنّ إسرائيل تعطي لمعركتها ضدّ إيران معاني أبعد من الدفاع عن نفسها، وليس قليل الدلالة في هذا السياق تكرار بنيامين نتنياهو ما مفاده أن الجيش الإسرائيلي يقاتل إيران ووكلاءها نيابة عن الغرب بأسره.

أي قراءة للضوابط الأميركية لإسرائيل ولمساعي واشنطن لوقف إطلاق النار في غزة ولبنان يجب أن تأخذ في الاعتبار أن هناك أهدافا مشتركة بين واشنطن وتل أبيب

وبالتالي فإن الحرب الدائرة في المنطقة هي حرب معقدة وبمستويات عدّة ولا تنحصر في مسألة الردّ الإسرائيلي على هجوم السابع من أكتوبر، ولذلك كان متوقعا أن يتوسع هذا الرد ليشمل جبهات غير غزة، وهو ما بادرت إليه الميليشيات الموالية لإيران أولا عملا بما يسمى "وحدة الساحات"، ثمّ بادرت إسرائيل إلى توسيع حربها إلى جبهات إضافية وخصوصا ضدّ "حزب الله" في لبنان، كل لبنان. والواقع أنّ اقتراب المواجهة الرئيسة لأن تكون بين إيران وإسرائيل يدلل بوضوح على طبيعة الصراع وديناميكياته الرئيسة بحيث هو أولا وأخيرا صراع على الشرق الأوسط.
هذه هي النقطة الأساسية التي تحاول إسرائيل الاستثمار فيها للاستمرار في حربها ولنيل غطاء غربي وبالأخص أميركياً لها، باعتبار أنّ هذه الحرب ليست بالنسبة لإسرائيل فرصة لتغيير الوقائع المهددة لأمنها وحسب بل هي أيضا فرصة لتغيير الشرق الأوسط من خلال ضرب النفوذ الإيراني والذي أخذ في التوسع بالمنطقة على نحو تدريجي منذ الغزو الأميركي للعراق عام 2003. طبعا إسرائيل تصوّر الأمرين، أي الدفاع عن أمنها وتغيير ملامح الشرق الأوسط، على أنهما أمران مترابطان، لكن الأهم من ذلك أنّه لا يمكن فهم الموقف الأميركي خلال هذه الحرب خارج هذا الربط الذي تقيمه إسرائيل والذي يعبّر عنه نتنياهو بوضوح.

رويترز
أفراد الدفاع المدني يعملون في موقع غارة جوية إسرائيلية في منطقة أيطو في شمال لبنان، في 14 أكتوبر

هذا يفسّر الدعم الأميركي لإسرائيل طوال حربها على حركة "حماس" وقطاع غزة، وهذا يفسر أيضا الدعم الأميركي لإسرائيل خلال الحرب ضدّ "حزب الله" ولبنان، وذلك تحت عنوان "التزام واشنطن بالدفاع عن أمن إسرائيل". وليس قليل الدلالة في هذا السياق الترحيب الأميركي وعلى لسان الرئيس جو بايدن بالاغتيالات التي نفذتها إسرائيل ضدّ قيادات "حزب الله" في لبنان وبالأخص اغتيال نصرالله، ما يعني أنّ جلّ الأهداف الإسرائيلية هي أهداف أميركية أيضا. وبالتالي فإنّ أي قراءة للضوابط الأميركية لإسرائيل ولمساعي واشنطن لوقف إطلاق النار في غزة ولبنان يجب أن تأخذ في الاعتبار أن هناك أهدافا مشتركة بين واشنطن وتل أبيب في الحرب الحالية، وأنّ الخلاف يحصل أحيانا على كيفية تحقيق هذه الأهداف وتوقيته. 
هذا مع الأخذ في الحسبان أن واشنطن لا تأخذ موقفا مبدئيا كليا من الحرب بل هي تنظر إليها بجزئياتها وبمستوياتها، بمعنى أن واشنطن التي تدعم إسرائيل في القضاء على "حماس" وإضعاف "حزب الله" لا تريد أن ترى مواجهة مباشرة ومفتوحة وبلا ضوابط بين إيران وإسرائيل، وهو ما تسميه الحرب الإقليمية الشاملة، وبالتالي فإن ضوابطها، إن وجدت، أمام إسرائيل في كل من غزة ولبنان، متصلة بمنع هذه الحرب الإقليمية الشاملة وليست مرتبطة بوقائع متصلة حصرا بالحرب الدائرة في لبنان أو غزة.
ولذلك فإنّه طالما أن واشنطن تستطيع تحييد إيران عن الدخول في الحرب فإنها تغطي العمليات العسكرية الإسرائيلية في لبنان وغزة حتى تمكين تل أبيب من تحقيق أهدافها منها أو أقله الحد الأقصى من هذه الأهداف. وهو ما يحصل راهنا، إذ إن أميركا لم تفقد حتى الآن الأدوات السياسية والعسكرية لردع إيران عن الانخراط في الحرب، خصوصا أن طهران نفسها لا تريد هذا الانخراط بل على العكس تماما فهي تحاول أن تبقي حضورها في الحرب محصورا بالدعم السياسي والعسكري لحلفائها. وليس قليل الدلالة في هذا السياق أن إيران امتنعت عن الرد على اغتيال إسماعيل هنية في قلب طهران إلى أن قامت إسرائيل بضربات موجعة جدا إلى "حزب الله" درة التاج في المنظومة الإقليمية الإيرانية، وبالتالي وجدت إيران نفسها أمام واقع مختلف تماما، إذ لا يمكنها التفرج على انهيار "حزب الله" عن بُعد، وهي التي كانت تعتبره خط الدفاع الأول عنها في مواجهة أي هجوم إسرائيلي ضدّها وبالأخص ضدّ منشآتها النووية. 
بالتالي فإن الهجوم الإيراني على إسرائيل بنحو 180 صاروخا باليستيا كان هجوما اضطراريا بالنسبة لطهران وإلا تكون قد كشفت نفسها أمام الهجمات الإسرائيلية فتتحول بالتالي إلى هدف إسرائيلي بعد "حزب الله"، ولاسيما أن تأخر إيران في الرد على مقتل إسماعيل هنية خلق اختلالا كبيرا في موازين الردع بين إسرائيل و"محور المقاومة"، وقد كان ربما من أسباب الهجوم الإسرائيلي الكبير ضدّ "حزب الله" واغتيال أمينه العام الذي من الصعب جدا على "حزب الله" تعويضه.

ضمان عدم دخول إيران في حرب مباشرة مع إيران يجعل الحرب الإسرائيلية ضد "حزب الله" ولبنان مفتوحة على تصعيد متواصل

لكنّ النظر إلى ما يجري بين إيران وأميركا وبينهما إسرائيل في ما يخص المحاولة الأميركية لاحتواء سلسلة الردود المتوقعة بين طهران وتل أبيب، لا يكفي وحده لتوقع تطورات الهجوم الإسرائيلي على "حزب الله" ولبنان على قاعدة أن هذا الاحتواء يمكن أن يقلص من حجم الهجوم الإسرائيلي في لبنان، بل على العكس تماما فإنّ هذا الاحتواء قد يشكل دافعا لإسرائيل لتعميق هجومها في لبنان وتوسيع قائمة أهدافهما التي وإن كانت تتركز حاليا، في المعلن، في مسألة تأمين إعادة المستوطنين إلى "الشمال"، فإنه لا يمكن توقع الخطة الإسرائيلية لتحقيق ذلك، في ظل الحديث عن تشكيل حزام أمني داخل الأراضي اللبنانية وفرض سيطرة بالنار على المنطقة الحدودية، مع ما يعنيه ذلك من تهجير لسكان المنطقة الحدودية وربما أبعد منها، مثلما أصبح يتخوف كثير من المهجرين، وقد تحوّل سؤال التهجير إلى سؤال سياسي، خصوصا عند متابعة ما تحاول إسرائيل القيام به في شمال قطاع غزة. لكنّ ثمة كلاما في إسرائيل أن الجيش الإسرائيلي لا يخطط في المرحلة الأولى لتعميق توغله في الداخل اللبناني بل يحاول تفكيك بنية "حزب الله" القتالية في المنطقة الحدودية ودفعه عبر الضغط العسكري للقبول بتسوية دبلوماسية.

أ ف ب
مسعفون من الصليب الأحمر اللبناني ينتشلون جثة من تحت الأنقاض في موقع غارة جوية إسرائيلية استهدفت قرية أيطو في شمال لبنان في 14 أكتوبر

لكن أيا تكن السيناريوهات المطروحة من جانب إسرائيل فإنه لا يمكن القول إن هناك خطة إسرائيلية واحدة وإن كان يجب القول إن تل أبيب مصممة على تحقيق هدفها المتمثل في تغيير الواقع الأمني في الجنوب اللبناني، وهو هدف يحظى بغطاء أميركي أكيد. لكن تأخر إسرائيل في تحقيق هذا الهدف بالنظر إلى اشتداد المواجهات مع "حزب الله" في الجنوب- وهو ما يعزز فرضية أن حضور "الحزب" في الجنوب لم يتأثر كثيرا بتصدعه في بيروت طوال الأسابيع الماضية- ييفتح المعركة على آفاق أكثر راديكالية.
ولا بدّ هنا من العودة إلى الاستراتيجية الإيرانية في الحرب الحالية والقائمة على دعم وكلائها من دون الانخراط مباشرة في الحرب. وهو ما يفسر توافد المسؤولين الإيرانيين إلى لبنان تباعا منذ اغتيال نصرالله في رسالة مفادها أن إيران متمسكة بنفوذها في لبنان الذي يعد ساحة رئيسة بالنسبة إليها، وأنها ستواصل الدعم السياسي والعسكري لـ"حزب الله" في المواجهة الحالية. وهذا يجعل قتال "حزب الله" في الجنوب قتالا من ضمن هذه الاستراتيجية الإيرانية التي لم تتغير منذ السابع من أكتوبر الماضي. لكن في المقابل فإن ضمان عدم دخول إيران في حرب مباشرة مع إيران يجعل الحرب الإسرائيلية ضد "حزب الله" ولبنان مفتوحة على تصعيد متواصل، إلى أن يفرض الميدان معادلة جديدة لصالح هذا الطرف أو ذاك. 
هذا كله يجعل المساعي الدبلوماسية والسياسية لوقف إطلاق النار سابقة لأوانها وإن كانت تجهز الأرضية لحين نضوج تسوية معينة، واللافت في هذا السياق الحديث عن "1701 plus" في دلالة إلى أن الجانب الإسرائيلي وبدعم أميركي لم يعد يقبل بالصيغة القديمة للقرار الذي أوقف حرب عام 2006 ولكنه لم يطبق بصورة تامة كما هو معلوم، وليس قليل الدلالة في هذا السياق دعوة نتنياهو لسحب قوات "اليونيفيل" المخولة بتنفيذ هذا القرار من الجنوب، في إشارة واضحة إلى الرغبة الإسرائيلية في تعميق التوغل في الجنوب اللبناني وفي تعديل القرار 1701.

التوغلات الإسرائيلية داخل الأراضي السورية في منطقة الجولان لافتة، فإسرائيل تحاول خلق وقائع أمنية جديدة على كامل "حدودها"، لكن اللافت أكثر هو تحذير الرئيس التركي من "احتلال إسرائيل لدمشق"

وبالتوازي، هناك الشق السياسي المتصل بالحرب والذي يتعلق بالربط بين وقف إطلاق النار وخلق وقائع سياسية جديدة في لبنان بدءا من انتخاب رئيس جديد للجمهورية. وهذا الربط يستحضر إلى هذا الحد أو ذاك وقائع الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 والذي انتهى إلى انتخابات رئاسية أوصلت قائد "القوت اللبنانية" بشير الجميل إلى قصر بعبدا، لكن سرعان ما فُرض واقعا مختلفا بعد اغتياله بنحو 20 يوما من انتخابه. الآن هناك كلام وتسريبات– أميركية بالدرجة الأولى– عن وجود فرصة لتغيير سياسي في لبنان يقلص هيمنة "حزب الله" على الدولة، لكنها تسريبات متضاربة أحيانا، إذ إن ثمة كلاما أميركيا عن صعوبة إجراء تسوية بمعزل عن "حزب الله" الذي "رسخ حضوره في المشهد اللبناني". بالتالي فإنّ التسوية السياسية لإنتاج سلطة جديدة هي أيضا سابقة لأوانها وتتصل بتطورات الحرب وتحديدا على الحدود الجنوبية والتي تحولت ساحة مواجهة إيرانية-إسرائيلية لن تكون نتائجها عسكرية وحسب بل وسياسية أيضا بالنظر إلى تأثيراتها في الداخل اللبناني. والسؤال المطروح هنا هو ما إذا كان "حزب الله" يستطيع من خلال المواجهة في الجنوب أن يعيد بناء نفسه وصورته سياسيا وعسكريا بعد كل ما تعرض له خلال الأسابيع الثلاثة الماضية.
لكن كذلك فإنّ السؤال الذي يجب طرحه هو إلى أي حد تستعد إسرائيل لتعميق هجومها الجوي والبري في لبنان، واللافت هنا أيضا التوغلات الإسرائيلية داخل الأراضي السورية في منطقة الجولان، في دلالة إلى محاولة إسرائيل خلق وقائع أمنية جديدة على كامل "حدودها"، لكن اللافت أكثر تحذير الرئيس التركي من "احتلال إسرائيل لدمشق". وهذا يذكّر بما يردده بعض من عايشوا مرحلة الاجتياح الإسرائيلي للبنان في 1982، عن أن حافظ الأسد خشي من امتداد هذا الاجتياح إلى دمشق. وفي مطلق الأحوال فإن كلام رجب طيب أردوغان سواء صحّ أم لا، فهو يؤشر إلى أن المنطقة مفتوحة على كل الاحتمالات في ظل اليد المطلقة لبنيامين نتنياهو الذي يراوده مشروع "إسرائيل الكبرى"، وفي ظل أخذ الحرب الدائرة وجهات الصراع الإقليمي والدولي على مستقبل الشرق الأوسط، أما لبنان فهو كان في كل مرة يدفع الكلفة الأعلى لهذا الصراع، وهذه المرة أكثر من أي وقت مضى... ويعود السؤال: لبنان إلى أين؟

font change

مقالات ذات صلة