غزة... الهوية والأيديولوجيا في "اليوم التالي" للحرب
النفور من "حماس" في القطاع أعظم منه في الضفة
أ ف ب
تظهر هذه الصورة الملتقطة من جنوب إسرائيل بالقرب من الحدود مع قطاع غزة تصاعد الدخان بعد غارة إسرائيلية بينما يتم إسقاط القنابل المضيئة أيضا فوق شمال غزة في 22 نوفمبر 2023
غزة... الهوية والأيديولوجيا في "اليوم التالي" للحرب
ينهمك الكتاب السياسيون في سعيهم لمعرفة الاحتمالات السياسية بعد حرب غزة، ولا يرون من شأنهم بحث الاحتمالات الفكرية بعدها، فشأن السياسيين أن يبقوا في البحث في المسائل القريبة المتعلقة بالحلول الزمنية المباشرة، على أن التغيرات الفكرية من أهم ما يمكن دراسته تبعا لتأثيرها الضخم حتى على الشق السياسي فيما بعد، وينبغي على المفكرين تلمس ما الذي يمكن أن تدفع إليه حرب غزة بعد انجلاء غبار الحرب في جانب الأفكار والأيديولوجيات، التي قد لا يكون لها مردود مرصود آني وسريع، رغم مساهمتها في التأثير على الحياة الاجتماعية والسياسية فيما بعد، فعادة ما تحتاج الأفكار الجديدة إلى وقت حتى تستثمر في تيارات وتشكلات اجتماعية وسياسية، ولا تظهر نتائجها السياسية إلا بعد عقود، وفي هذه المقالة سيتم التركيز على الاحتمالات الفكرية والأيديولوجيات فيما يمكن تعريفه بتشكلات الهوية.
لقد عرف العالَم تشكلات الهوية مع الأحداث السياسية والعسكرية العاصفة، ففي الحرب العالمية الثانية شعر الألمان بأن الشروط التي فرضت عليهم بعد الحرب العالمية الأولى 1918 مجحفة بحقهم، وعانوا من التضخم المالي والتفسخ الاجتماعي بعد الحرب، فساعدت الظروف على ظهور الأيديولوجيا النازية، إذ إن الظروف هي العِظام التي ينبت عليها لحم الأيديولوجيا، فمثلت الأيديولوجيا النازية تعبيرا عن رفض هزيمة ألمانيا بصورة أفكار متطرفة وكانت متسببة في اندلاع حرب عالمية ثانية على مستوى العالَم سنة 1939، وقد استعارت النازية الكثير من أفكارها من الفاشية في إيطاليا التي انبعثت هي الأخرى بعد الحرب العالمية الأولى ووصل موسوليني فيها إلى الحكم وشكل حكومة بسرعة بعد الحرب الأولى بعامين في 1922، ليصبح حليفا لهتلر الزعيم الألماني، ومشاركا مع دول المحور في الحرب العالمية الثانية.
في الحالة الفلسطينية شكلت حرب 1948 وقتا مفصليا لانبعاث أفكار جديدة، إذ كانت مرتبطة بما حدث من أفكار في الساحة العربية
وفي الحالة الفلسطينية شكلت حرب 1948 وقتا مفصليا لانبعاث أفكار جديدة، إذ كانت مرتبطة بما حدث من أفكار في الساحة العربية، ففي تلك الحرب شارك جمال عبد الناصر في صفوف الجيش المصري في غزة، وكان بعدها جزءا من إزاحة الملك فاروق عن مصر في 1952، ومساهما في تحويل مصر من ملكية إلى جمهورية، بحجج كثيرة منها الهزيمة في 1948، وعبر عبد الناصر عن رفضه للطريقة التي أديرت بها تلك الحرب في كتاب خصصه لتلك الحرب، حمل عنوان "يوميات عبد الناصر عن حرب فلسطين" فكتب فيه: "لم يكن معقولا أن تكون هذه حربا، لا قوات تحتشد لا استعدادات في الأسلحة والذخائر، لا خطط، لا استكشافات ولا معلومات".
وممن أرسل متطوعين في حرب 1948 حسن البنا الذي أسس جماعة "الإخوان المسلمين"، وكانت مشاركة "الإخوان" الرمزية وقودا لموقفهم من الملك في مصر، فأشاعوا أن الحكومة المصرية تضيق عليهم وتحقق مع من شارك في الحرب، فجرّهم ذلك إلى العنف السياسي الداخلي معها والذي وصل إلى اغتيال القاضي أحمد الخازندار ورئيس الوزراء محمود النقراشي وانتهى بمقتل حسن البنا في 1949، مما جعل "الإخوان المسلمين" من أنصار "حركة الضباط الأحرار" في 1952، وكان سيد قطب قد اجتذبه التغيير الثوري الجديد بما انعكس على أفكاره بعدها ويعد أهم مؤسس للأيديولوجيا الإخوانية.
وبعد هزيمة 1948 سجلت الشاعرة الفلسطينية فدوى طوقان التغيرات الاجتماعية في فلسطين، فكتبت في مذكراتها التي حملت عنوان "رحلة جبلية رحلة صعبة": "بعد نكبة فلسطين بعامين بدأ التحول الاجتماعي والتغيير الذي يحدث عادة بعد الحروب، بدأ هذا التحول ينقل الحياة الاجتماعية في نابلس من حال إلى حال، وكان أهم مظاهره رفع الحجاب عن وجه المرأة، والحضور المختلط لعروض السينما، وكذلك الزيارات العائلية المختلطة".
شكلت مشاركة ناصر، ومتطوعو "الإخوان" في حرب 1948 هويات اجتماعية وسياسية متنافرة
وهكذا انفتحت الأفكار نحو جيل مندفع، نحو جيل منفتح، وصارت الأفكار الناصرية التي دعت إلى التحرر، ومحاربة الإمبريالية مؤثرة بشدة في المشهد الفكري الفلسطيني سيما بعد تأميم قناة السويس الذي تبعه العدوان الثلاثي على مصر 1956.
وشكلت مشاركة ناصر، ومتطوعو "الإخوان" في 1948 هويات اجتماعية وسياسية متنافرة، وظهرت "فتح" (حركة التحرير الفلسطينية) بقيادة ياسر عرفات، وعُرفت للعالم في معركة الكرامة 1968، في وقت كان عبد الناصر يعلن عن حرب الاستنزاف ضد إسرائيل، وعرّفت "فتح" نفسها بأنها حركة علمانية، وبقي "الإخوان" ينشطون بصورة غير ظاهرة في المشهد السياسي، لكنهم أبقوا على نشاطهم الدعوي والاجتماعي، وضمرت الأفكار الناصرية بعد هزيمة 1967، فأخذت الأفكار الثورية منحى آخر نحو الشيوعية أكثر، وتجلى أثر ذلك في الصدام في الأردن الذي عرف بـ"أيلول الأسود" 1970، حينها وقع القتال بين المنظمات الفلسطينية والدولة الأردنية بما دفع إلى خروج "فتح" من الأردن إلى لبنان.
ارتبطت التحولات الفكرية نحو التيارات الإسلامية بخطاب السادات في القدس سنة 1977، واعتبروا التبشير بالثورة الإسلامية وقلب الأنظمة طريقا جديدا
كانت الأفكار الشيوعية التي تدعو إلى الصدام الطبقي سبباً مهماً في اندلاع تلك المواجهة، وتغذية عقيدتها القتالية، سيما فصائل مثل "الجبهة الديمقراطية" و"الجبهة الشعبية" اللتين تبنتا الأيديولوجيا الماركسية، وكان الخروج بخسارة من الأردن يعني ضمور الأفكار اليسارية. وفي لبنان سجل شفيق الغبرا في برنامج "الصندوق الأسود" شهادته على التحولات الفكرية بين عناصر المنظمات الفلسطينية، وقد كان أحد ضباط حركة "فتح" حينها في لبنان، فتحدث عن تحول كبير بين اليساريين نحو التيارات الإسلامية، وشمل هذا التحول كذلك عناصر حركة "فتح"، وبدأ التبشير بأفكار الخميني قبل الثورة الإيرانية 1979.
ارتبطت التحولات الفكرية نحو التيارات الإسلامية بخطاب السادات في القدس سنة 1977، واعتبروا التبشير بالثورة الإسلامية وقلب الأنظمة طريقا جديدا، وما إن جاءت الثورة الإيرانية 1979 حتى أعطتهم أملا بثورات مماثلة، فتسارعت الأحداث إلى اغتيال الرئيس المصري السادات في 1981، مرورا بالجهاد الأفغاني في الثمانينات، حتى أطلق "الإخوان" في فلسطين في 1987 مع الانتفاضة الفلسطينية الأولى حركة سياسية عرفت باسم "حماس" ونشرت ميثاقها في 1988 الذي حوى نصا صريحا على أنهم جناح من جماعة "الإخوان المسلمين"، واحتفى بهم عبد الله عزام عرّاب الجماعات المتطرفة في أفغانستان، في كتاب بعنوان "حماس الجذور التاريخية والميثاق".
ويمكن الاستعارة في دراسة الاحتمالات الفكرية من علم النفس بمصطلح (التماهي)، ويعني "عملية نفسية يتمثل الشخص بواسطتها أحد مظاهر أو خصائص أو صفات شخص آخر، ويتحول كليا أو جزئيا تبعا لنموذجه" [معجم مصطلحات التحليل النفسي، لابلانش، بونتاليس]، لكنه في الحالة الفكرية يتمثل نموذجا سياسيا، ومع الحرب الأخيرة في غزة، كانت العوامل المنفرة هي الدمار الذي تسبب به قرار الحرب، واستشراف الأفكار التي يمكن أن تخرج بعد الحرب، لا يلزم منه أي تقييم لها، خيرا أو شرا، بقدر ما هو رصد لما يحتمل أن يتشكل من هويات سياسية، ولفهم الهويات المتشكلة، والتي قد تلعب الظروف في ترجيح نموذج على آخر اجتماعيا وسياسيا، لا بد من ذكر الاحتمالات وفق العوامل في الحرب الآخيرة:
1. الشوفينية الوطنية: وتعني المغالاة والتعصب الوطني، وهذا يحتمل لعوامل النظر إلى جماعة "الإخوان" على أنها متسببة بالكارثة، وتحميل المحيط العربي مسؤولية ما حدث كذلك، وهذه الهوية تدفع نحو التعالي الوطني، كما حدث في إيطاليا وألمانيا بعد الحرب العالمية الأولى، وترى في انعزالها عن محيطها خيارا أفضل من الانسجام معه، وهذا التوجه يحمل في طياته نوعا من تبرئة "حماس" من قرارها وتوزيع الحِمل على غيرها.
2. اللا مبالاة الدينية والسياسية: تبعا للقالب الذي وضعت فيه "حماس" قراراتها السياسية، فقد تحفز ظهور جماعات لا دينية تربط شَرْطيا بين الدين واستعمال العنف غير الموظف سياسيا، وهو ما حدث ورصدته الدراسات بعد 2013 مع ظهور الجماعات الطائفية في العراق، فيترافق صعود اللا مبالاة الدينية أو ظاهرة الإلحاد السلبي مع تلك الجماعات، وهذه الحالة لا تشكل بنفسها تيارات سياسية، وإن كانت أرضية خصبة قد تنبت أحزابا ذات توجه ليبرالي فيما بعد.
3. الجماعات ذات الميل الطائفي المتشدد: وهذه الجماعات يمكنها أن تحمّل النموذج الإيراني والإخواني مسؤولية ما حدث، وترى في تحميل القرار السياسي الذي اختارته "حماس" على الطائفة الشيعية عموما، وقد وُجد هذا التوجه وشكّل تيارا في العراق مع تصاعد أعمال العنف الطائفي، وهذا الخط لا يترجح كونه مرتبطا بما عرف بجماعات الإسلام السياسي، وهي محل نفرة بسبب قرار الحرب.
4. توجه نحو السلطة الفلسطينية: وهو التوجه الذي يرجح أن يكون الأكثر انتشارا تبعا لنموذج قائم في الضفة الغربية، وتاريخ مرتبط بحركة "فتح"، والنموذج الواقعي يفرض احتمالية أقرب كونه مبنيا على وجود مؤسسات قد توظف الكثير من الغزيين بعد الحرب. لكن قد يعيق هذا النموذج التعنت الإسرائيلي في وجه استلام السلطة الفلسطينية لغزة بعد الحرب، وهو ما يجعل النموذج قائما في الضفة لا غزة.
5. توجه نحو حركة "فتح": والفرق بين هذا التوجه وسابقه أنه يوجد تيار في "فتح" له مواقف نقدية من "السلطة الفلسطينية"، ويرى في الحالة الثورية استمرارية دائمة وأنهم منتمون لـ"فتح" لا لـ"السلطة"، وهؤلاء يمثل نموذجهم بعض المجموعات المسلحة التي تركزت في الضفة، في (جنين، نابلس، طولكرم)، يرون الالتفاف حول ما عرف بـ"كتائب شهداء الأقصى" لا الأجهزة الأمنية التابعة لـ"السلطة"، لكن يثبط انتشار هذا النموذج أنه نواة قريبة من الحالة التي عاينها المجتمع الغزي، فضلا عن إمكان رعاية تلك الجماعات من إيران وهو نموذج منفر فكريا.
حكمت حركة "حماس" مع فرض الكثير من القيود على المجتمع الغزي، وتمثل حالة الخروج عن تلك القيود علامة على رفض الحكم الذي تسبب بالحرب في غزة
ويتلخص من هذا أن الخط الفكري الأقرب الذي تدفع له كل تلك الاحتمالات هو النفرة عن نموذج "الإخوان المسلمين"، على اعتبار أنهم مسؤولون مباشرون عن الحرب، وتدفع خارج الأيديولوجيا الإخوانية نحو نماذج أقرب لما حدث بعد 1948 في المجتمع الغزي، وهو نموذج يقترب من خط الانفتاح وهذا يعني اختلاف المظاهر الاجتماعية قبل الحرب عما بعدها، إذ حكمت حركة "حماس" مع فرض الكثير من القيود على المجتمع الغزي، وتمثل حالة الخروج عن تلك القيود علامة على رفض الحكم الذي تسبب بالحرب في غزة.
على أن هذا الخط يفترق عن الحالة بعد 1948 في عامل مؤثر وأساسي وهو انسحاب الخط اليساري من الحياة الاجتماعية والسياسية العامة، فلم تعد الثورية الناصرية موجودة، ولا يوجد كذلك عالَم شيوعي يدعم الجماعات المسلحة الساعية نحو التحرر الوطني، وبهذا فإن الاحتمالات الأقرب أن تكون الأفكار السياسية نحو الليبرالية أكثر من اقترابها من الخط اليساري الثوري الذي أنتج تيارات مثل "الجبهة الشعبية".
هذه الأرضية الفكرية قد تدخل عوامل جديدة عليها بحيث لا تضحي حتمية، لكنها تبقى في إطار الترجيح النظري من حيث الأفكار الاجتماعية والسياسية القادمة في المجتمع الفلسطيني، ويبقى النفور عن حركة "حماس" في غزة أعظم منه في مناطق أخرى من فلسطين كالضفة لوجود النموذج القائم فيها. لقد قررت حركة "حماس" في هذه الحرب إحداث تغييرات جذرية في المجتمع الفلسطيني، لصالح رفض المقدمات التي أدت إلى ظهور الحركة نفسها، ويحتمل على المدى البعيد أن تفقد الحركة جاذبيتها أكثر وأكثر بعد أن تزول آثار الحرب، وتظهر النتائج بما يلجم أي مكابرة.