الدمار العربي وآليات الدعم الخليجي... حاجة سياسية ومالية

363 مليار دولار من دول الخليج لـ22 دولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في 6 عقود

.أ.ف.ب
.أ.ف.ب
رجال الدفاع المدني اللبناني يتفقدون المباني المدمرة في منطقة البسطة عقب غارة إسرائيلية أودت بحياة 22 شخصا في بيروت، 11 أكتوبر 2024

الدمار العربي وآليات الدعم الخليجي... حاجة سياسية ومالية

منذ بداية هذا القرن، توالت الحروب والصراعات على العديد من الدول العربية التي لم تنعم بأوضاع اقتصادية ومعيشية مستقرة ومقبولة. كانت البداية مع أحداث 11 سبتمبر/أيلول، 2001 عندما هاجم تنظيم "القاعدة" نيويورك وواشنطن في الولايات المتحدة مما أدى إلى مقتل نحو 3000 مواطن أميركي، ودفع حكومة الولايات المتحدة إلى تبني سياسة مكافحة الارهاب التي شملت غزو العراق وتصفية نظامه السياسي.

أدى ذلك الغزو إلى انهيار المؤسسات الأمنية وطغيان الاستقطابات الطائفية والفئوية بعد عام 2003. جاءت بعد ذلك عملية اغتيال رئيس الوزراء اللبناني الراحل رفيق الحريري على أيدي أطراف محلية وإقليمية، لم يتمكن اللبنانيون من محاكمتهم وتحقيق العدالة في البلاد.

إقرأ أيضا: من سيمد يد العون إلى لبنان وينتشله من نكبته؟

ثم كانت حرب 2006 بين "حزب الله" وإسرائيل التي رفعت مستوى الدمار. لم تتوقف عمليات العنف والخراب حيث انطلق ما سمي "الربيع العربي" من تونس لتشتعل بعدها الحروب الأهلية في سوريا واليمن وليبيا. وشملت عمليات التدمير السودان الذي لا يزال يعاني من حرب أهلية غير واضحة الأهداف.

قدمت دول الخليج خلال الفترة ما بين 1963-2022، نحو 363 مليار دولار لـ22 دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا

المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS)

الخراب والدمار والتعثر المؤسسي والسياسي أكدت أهمية إنجاز عملية التصالح والإصلاح السياسي والتوافق الوطني في كل من هذه الدول العربية. اجتهدت دول الخليج ومصر والمؤسسات الدولية لتحقيق الاستقرار وضبط إيقاع الحياة الاقتصادية.

.أ.ف.ب
دخان يتصاعد من مدينة رفح بعد غارات إسرائيلية على منطقة خان يونس، 22 فبراير 2024

لكن لن يتمكن كل الأطراف من إعادة الإعمار وتحسين الأوضاع الاقتصادية وإنعاش معدلات النمو والسير في أعمال التنمية من دون توفير الأموال اللازمة التي تقدر بمئات المليارات من الدولارات. الدول التي عانت ولا تزال تعاني من الحروب والدمار وغياب آفاق التسويات السياسية كانت مثقلة بالديون وضعف الأداء وارتفاع أعداد العاطلين عن العمل في مقابل ارتفاع معدلات النمو السكاني.

مساعدات دول الخليج

بطبيعة الحال، ظلت الأنظار تتجه نحو الخليج لترى كيف يمكن لهذه الدول أن تدعم مختلف الدول العربية بالتمويل والمساعدات. لم تتوقف دول الخليج عن تقديم الدعم المالي، وتبنت مؤتمرات واجتماعات بحث احتياجات العراق وسوريا ولبنان، وقدمت، من خلال مؤسساتها، تمويلات ميسرة ومساعدات مباشرة. تشير دراسة للمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية (IISS) نُشرت في أكتوبر/تشرين الأول 2023، إلى أن دول الخليج قدمت خلال الفترة ما بين 1963-2022، نحو 363 مليار دولار لـ22 دولة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا.

تصل تكاليف إعادة إعمار غزة الى ما يزيد على 80 مليار دولار، وقد يستغرق الإعمار زمناً طويلاً

الأمم المتحدة

تستمر المساعدات والتحويلات من دول الخليج كبيرة قياساً بحجم اقتصاداتها. الأهم من ذلك، أن دول الخليج تقف حائرة أحياناً حيال مواقف العرب الآخرين تجاهها، إذ يعرب عدد من الخليجيين عن استيائهم من مواقف عدد من الدول العربية، حكومات ونخبا، تجاه غزو الكويت في عام 1990، حيث كانت المواقف مساندة لصدام حسين واحتلاله للكويت، على الرغم من المساعدات التي قدمتها الكويت من خلال مؤسساتها الاقتصادية لهذه الدول، وتمكينها من تحقيق إنجازات مهمة في مسيرتها الاقتصادية. 

يضاف إلى ذلك أن دول الخليج لم تعد كما كانت في العقود الماضية، تتمتع بفوائض مالية كبيرة، بعد تراجع أسعار النفط وارتفاع مستويات الإنفاق لديها حيث أصبحت تواجه عجوزات في موازناتها السنوية منذ عام 2014. ولا شك أن الخراب الكبير الذي يواجهه لبنان منذ تدمير مرفأ بيروت في عام 2020، وحاليا من الغارات الاسرائيلية المتتالية على مناطق الجنوب وبيروت وضاحيتها الجنوبية والبقاع، أضف إليها تعطل الحياة الاقتصادية وتدهور النظام المصرفي وشلل الحياة السياسية، تتطلب توافقاً خليجياً مع حكومة مستقرة في لبنان تحظى بثقة المجتمع الدولي. يتفهم الخليجيون الأوضاع في لبنان، ولديهم الاستعداد السياسي والعاطفي لدعم الاقتصاد اللبناني بعد تحديد التكاليف وتطوير برامج تنموية ملائمة.

دمار غزة الهائل

قدرت الأمم المتحدة إعادة إعمار غزة بما يزيد على 80 مليار دولار، وأشارت الى أن الإعمار قد يستغرق زمناً طويلاً. لا شك أن تلك التكاليف، ماليا وزمنياً، لا يمكن أن تساهم في إعادة الحياة سريعاً الى أهل غزة. فقد عانى القطاع منذ عام 2007 بعدما انفصل سياسياً عن السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية ونتيجة للحصار الاسرائيلي، لكن الحرب الأخيرة أنهت الحياة الاقتصادية ودمرت المباني وأفلست مختلف الأعمال، بعدما قضت على حياة آلاف العائلات وشردت غالبيتهم وأدت إلى مقتل أكثر من 40 ألف مواطن ناهيك عن الجرحى.

إقرأ أيضا: أهالي غزة بين جحيم الحرب ومافيا الحوالات المالية

ولا تزال الحرب مستمرة من دون أن تتمكن مختلف الأطراف العربية والدولية من إقناع الحكومة الاسرائيلية بوقف الحرب والتفاوض على حل سلمي قابل للاستمرار.

لا بد أن يكون الدعم الخليجي مرتبطاً بمعالجة شاملة للأوضاع الفلسطينية، ومبنياً على أساس قيام دولة فلسطينية بموجب القرارات الأممية

لا شك أن معالجة أوضاع غزة الاقتصادية وإعادة الحياة إليها ستضع دول الخليج أمام مطالب عربية ودولية للمساهمة في عمليات إعادة الاعمار. بيد أن دول الخليج، لتكون قادرة على توفير الدعم، تمويلات ومساعدات، لا بد أن تطالب بحكومة فلسطينية موحدة معترف بها دولياً وتتحكم بالضفة الغربية وقطاع غزة. لا بد أن يكون الدعم الخليجي مرتبطاً بمعالجة شاملة للأوضاع الفلسطينية، ومبنياً على أساس قيام دولة فلسطينية بموجب القرارات الأممية.

سوريا... الحد الأدنى للأجور 21 دولارا

عانت سوريا من تبعات الحرب الأهلية التي نشبت منذ عام 2011، حيث تقدر أعداد القتلى نتيجة للصراع بنحو 500 ألف، ناهيك عن الجرحى والمشردين وملايين المهجرين في الداخل والخارج. اقتصادياً، عانت البلاد من تدهور سعر صرف العملة الوطنية وارتفاع معدلات التضخم. يضاف إلى الحرب الأهلية، تعرض أجزاء من البلاد لزلزال كبير في فبراير/شباط 2023. لم تتمكن اللقاءات التي رعتها أطراف دولية وإقليمية من إنهاء انسداد الأفق السياسي لإقامة حكومة وطنية تنفيذاً لقرارات الأمم المتحدة، وقيام نظام سياسي متفق عليه شعبياً ومن كل الأطراف الوطنية. ولا يمكن تحقيق انتعاش اقتصادي في البلاد دون إنجاز التوافق السياسي.

إقرأ ايضا: سوريا بعد 13 سنة... نصف مليون قتيل وثلاث "دويلات" فقيرة ومدمرة

الأوضاع الاقتصادية التي نتجت من الحرب الأهلية في سوريا دفعت 90 في المئة من السكان إلى مستويات معيشية متواضعة قريبة من خط الفقر، بعدما فقدت الليرة السورية 83 في المئة من قيمتها، حيث أصبح سعر الدولار يعادل 14,650 ليرة، في حين تحسب الحكومة السورية الحد الأدنى للأجور بـ 280 ألف ليرة أي ما يقارب 21 دولاراً. من الأهمية بمكان تقدير تكاليف إعادة الإعمار وتحديد المساهمات الممكنة التي قد تعمل دول الخليج على توفيرها على مدى زمني معقول.

من المهم صياغة استراتيجية متكاملة متفق عليها من خلال مجلس التعاون لدول الخليج، يليها وضع خطط تفصيلية للتعامل مع كل دولة عربية عانت من الحروب والخراب والانهيار الاقتصادي

السودان... استمرار الانقلابات والفقر

السودان أيضا، يعاني من حرب أهلية غير واضحة، ولا يبدو أن هناك إمكانات لتحقيق وقف للحرب والعمل على المصالحة وتشكيل حكومة مدنية قادرة على إدارة البلاد. لم يوفق السودان في تحقيق الاستقرار السياسي منذ الاستقلال في عام 1956. استمرت الانقلابات العسكرية وتعطلت الحكومة المدنية وأدت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب إلى انفصال الجنوب الذي يتمتع بثروات طبيعية ونفط. يعاني الشمال حاليا من الحرب بين الجيش وقوات الدعم السريع.

رويترز
حرائق مشتعلة في العاصمة السوداني الخرطوم خلال اشتباكات بين الجيش السوداني قوات الدعم السريع، 1 مايو 2023

وظلت الأوضاع الاقتصادية في السودان مزرية حتى قبل نشوب الحرب الأهلية الأخيرة، على الرغم من ثرواته المعدنية والزراعية. تعتبر الإدارة في البلاد سببا رئيسا للتدهور الأمني ومن ثم الاقتصادي. استثمرت دول الخليج، السعودية والكويت والإمارات، في العديد من القطاعات في البلاد. من أهم المشاريع التي وظفت الكويت والسعودية الأموال فيها منذ عام 1975 هو مشروع سكر كنانة المتكامل، الذي ينتج حالياً 400 ألف طن سنوياً من السكر الأبيض ومنتجات مرافقة أخرى. ولم تتردد دول الخليج في الاستثمار المباشر في السودان أو تقديم القروض الميسرة.

أهمية استراتيجية للتمويل الخليجي

على دول الخليج الاستفادة من دروس تعاملها الاستثماري والتمويلي مع الدول العربية منذ أكثر من خمسة عقود زمنية. ومن المهم صياغة استراتيجيا متكاملة متفق عليها من خلال مجلس التعاون لدول الخليج، يليها وضع خطط تفصيلية للتعامل مع كل دولة عربية عانت من الحروب والخراب والانهيار الاقتصادي. لا يمكن لدول الخليج، مهما كانت المشاعر المحلية المأزومة، أن تتنكر لتقديم الدعم للدول العربية، أو ترفض ذلك. لكن يجب أن يكون هذا الدعم مفيداً لسكان هذه الدول وأن يتم من خلال آليات الاقتصاد الحر وبما يعزز إمكانات النمو بعيداً عن البيروقراطية.

font change

مقالات ذات صلة