خرائط المكتبة... مكان مضيء نقرأ من خلاله وجه الكاتب

لماذا نشيّد مكتبات لن يتسع العمر لقراءتها؟

Shutterstock
Shutterstock
دبي، الإمارات العربية المتحدة: امرأة تبحث عن كتب داخل مكتبة محمد بن راشد.

خرائط المكتبة... مكان مضيء نقرأ من خلاله وجه الكاتب

لعل أول ما يغري النظر في بيت كاتب من لدن كاتب آخر هو اكتشاف مكتبته الشخصية، ربما هو الأمر نفسه بالنسبة الى القارئ أيضا، إذ المكتبة المستأثرة بهذا الاهتمام في بيت أو شقة صاحبها هي أبدع ما يمكن أن يتمثل صورته، شخصيته، رمزيته ككاتب جدير بالدنو من طقوسية أشيائه في عالمه الخاص.

من بداهة الخطاب تكرار القول: "لا يمكن تخيل بيت كاتب بدون مكتبة"، إذ هي ما يسبغ على المكان قيمته ومعناه، هذا إن لم يكن مجمل البيت محض مكتبة، بالطول والعرض.

في الغالب تلفي كتّابا يشهرون مكتبة علنية للضيوف، فيما يخفون أخرى في غرف نومهم، فالأولى شبه مكشوفة، تفصح عن قائمة عناوين أريد لها بعناية أن تشغل الحيز المشرع على فضول الزائرين، والثانية سرية، حميمة، منذورة لأقلية من صفوة الأصدقاء لا غير.

مكان مقدّس

أحيانا تصدمك زيارة بيت كاتب ولا تلفي مكتبة إطلاقا، وإن ما قد تقع عليه نظرتك رزمة كتب مهداة إليه في الغالب، وأخرى محشورة في صناديق كرتون، كما لو كانت نشازا، وإلا كيف لا يوليها تقديرها بأن يرففها في خزانة تليق بها على الأقل... يفقد هذا الصنف المثير للشقفة احترامك كيفما كانت أسبابهم وإكراهاتهم.

تشييد مكتبة شيء مقدس بالنسبة الى الكاتب، لا يستقيم فضاء البيت إلا بصرحها اللافت، بأيقونيتها المثيرة، وبجاذبيتها السحرية. وبغير ما مبالغة، هناك من الكتاب من يكتفي بحضورها كأثر هندسي وجمالي لا بد منه لإقامته كي يكون لها معنى، وهناك من يبالغ في تضخيمها حد البهرجة، فتبدو فولكلورية أكثر منها طقوسية، وجودية وجمالية.

تشييد مكتبة شيء مقدس بالنسبة الى الكاتب، لا يستقيم فضاء البيت إلا بصرحها اللافت، بأيقونيتها المثيرة، وبجاذبيتها السحرية

في كل الأحوال، المكتبة دليل خاص إلى خرائط كينونة الكاتب، ما يشبه بورتريها أيقونيا لوجهه الغامض، وإذ تتمثله بصورة من الصور، مضيئة الجانب الخفي من ذاته الملتبسة، فهي على الدوام تستحوذ على رغبة الاكتشاف، على فضول المعرفة، كما هي أكثر حظوة لمن يزورها وينزلق داخل عالمها الفاتن.

مكتبات لافتة لأبدع الكتاب اكتشفناها بأكثر من طريقة، إما زرناها فعليا بالنظر إلى صداقات تجمعنا وإياهم، وإما حدث الأمر مصادفة عبر مناسبات ثقافية أو سهرات موشومة، أو تحقق لنا بشكل من الأشكال عبر الدنو منها في يومياتهم، في حواراتهم المكتوبة أو المرئية أو مقالاتهم المرفقة بصور -داخل مكتباتهم ذاتها- أو عبر تخييل رواية، قصة قصيرة، شعر، من منجزهم الأدبي.

Shutterstock

عواصم وحواضر

لعل متلازمة بورخيس والمكتبة الشائعة حجبت نسبيا علاقات معظم الكتاب ومكتباتهم، وإن التفتنا خارج هذه المتلازمة البورخيسية وتلامذته البررة، ألبرتو مانغويل على سبيل المثل، فإننا نعثر حتما عما يبهر ويفتن ويضاعف عند أقلية أخرى تتشابك مكتباتهم بتشعب يطابق شفرة العالم، من أرسطو حتى ما بعد ابن رشد، ومن الجاحظ حتى ما بعد أمبرتو إيكو.

عواصم ثقافية وحواضر لافتة بثقل لحظاتها الحضارية المتألقة معرفيا وفلسفيا وأدبيا وفنيا ومعماريا عبر التاريخ شرقا وغربا، يتكثف دليل زخمها المتعدد في مكتبات رموزها من مفكريها وشعرائها وكتابها الألمعيين، أغلبهم طال التدمير والحرق والإتلاف مشيداتهم الكتبية عن قصد من طرف الطغمة السياسية والدينية، والأوفر حظا من صانته رعاية المصادفة أو رعاية المهتمين من ورثة ذخيرتهم المنذورة للخلود.

Shutterstock
طالب يدرس ويقرأ الكتب في مكتبة عامة بالجامعة.

وفي الأزمنة الحديثة حرص الكثير من هؤلاء الرموز على التبرع بمكتباتهم عبر وصايا لمدنهم الأصلية أو إلى منارات ثقافية كبرى، لحفظ نوعيتها وفتح كنوزها للقراء والمهتمين والباحثين من جهة، ومن جهة جعل أثرها مفتوحا على سيرورة الآتي، بدل أن تظل رهينة رفوف النسيان، أو خشية وقوعها في مستنقع السماسرة والتجار ممن يقدرون قيمتها تجاريا ويجهلون قيمتها المعرفية، فتشيخوف تبرع بمكتبته لمدينته الأصلية تاغانروغ، وراي برادبري تبرع بمكتبته للمكتبة العامة لمدينة ووكيجان العامة، وميلان كونديرا تبرع بأرشيفه لمكتبة عامة في تشيكيا.

 يفقد الكاتب كتبا حميمة أشبه ما تكون بفقدانه لأسنانه، أو أعز أقربائه، إما سرقة أو إعارة، أو بسبب تعرضها لحريق أو إتلاف، ومع ذلك يصر أن يشيد مكتبة تلو أخرى

وأما مصائر المكتبة المتناغمة مع تحولات العصر رقميا، فنجد في نماذج تحويل مكتبات خوليو كورتاثار وإيتالو كالفينو وبول أوستر إلى فضاءات الشبكة الذكية وفق هندسة تليق بتشعباتها الغابوية، طفرة استباقية نحو المستقبل الرقمي الجارف، إذ مكتبات مثل هؤلاء بقدر ما تنتمي الى الماضي العتيد، تنتمي أيضا إلى خرائط المستقبل المجهولة.

صرح الأسرار

يخطئ التقدير من ينبش في سيرة المبدع الذاتية، شاعرا كان أو روائيا أو فيلسوفا أو سينمائيا، متجاهلا مكتبته الخاصة، ففي ما وراء صرحها تتوارى الأسرار الأخرى، الحقائق المنسية، أو هي السيرة الظلية التي ينام في صمتها هدير المبدع المتواري، ويمكن تلمس صداه الانسيابي عبر أكثر من جزيئة: لكل عنوان في المكتبة قصة، بالنظر إلى طرافة حكاية الحصول عليه، وأشكال الظفر بالكتاب، اعتباطا كان أو بتخطيط، بالسفر إليه في أمكنة مجاورة أو نائية، داخل البلاد أو خارجها، استنادا إلى برنامج أو بتلقائية وفوضوية بالأحرى.

وفي طرائق اغتنام الكتب، على سبيل الاقتناء أو حظوة الهدايا، في غمرة تراكمها العارم، تتفرد كتب موشومة ظفرنا بها قديما بتقدير خاص لا يمكن أن تزاحمها كتب جديدة برغم قيمتها هي الأخرى.

Shutterstock
رواية مفتوحة على كومة من الكتب أمام الرف.

ما من كتاب في عمارة الكاتب الورقية هذه، نادرا كان أو أشد غرابة، إلا ويضيء كنجمة قطب منطقة مبهمة من ذاته كمشيد للمكتبة أكثر مما يحيل على مؤلف الكتاب نفسه، وبهذه الصورة إذا ما احتكمنا إلى ذخيرة الكتب بمجملها في غابة مكتبته، ستبدو في إحدى استعاراتها مثل لوحة "ليلة تضيئها النجوم" لفان غوغ، إذ المكتبة تضيء وجه الكاتب بطريقة سحرية أو شعرية بالأحرى، وأما ترتبيها إن فوضويا أو عبر نظام أو نسق ما فحكاية ثانية.

المفارقة ألا تتضمن المكتبة الكتب اللاسعة التي أحدثت منعطفات في حياتنا، والحقيقة السوداء ألا وقت لاستيفاء قراءة كل الكتب، فكم منها مؤجل لزمن قد لا ندركه.

يفقد الكاتب كتبا حميمة أشبه ما تكون بفقدانه لأسنانه، أو أعز أقربائه، إما سرقة أو إعارة، أو بسبب تعرضها لحريق أو إتلاف، ومع ذلك يصر أن يشيد مكتبة تلو أخرى، وما أشبه عمله بديونيزوس زارع الكروم في ترحاله بين البلدان.

تشييد المكتبات الشبيه بزرع الكروم بطريقة ديونيزوس هذه، هو الولع المتواصل للكاتب في حياته، المتماهي مع ولعه البكر بالكتابة.

font change

مقالات ذات صلة