يبدو أن حركة رئيس مجلس النواب اللبناني قد تم تقييدها بسرعة كبيرة، أو أنه لم يدرك بعد حجم الكارثة التي حلت باللبنانيين ولبنان، والمخاطر الكبرى التي تنتظر البلاد- لا سمح الله- إن لم يسارع اللبنانيون أنفسهم لإخراج بلدهم من مأزق وضعوه فيه، وظلوا لسنوات ينتظرون من الآخرين إخراجه منه.
أيام قليلة فصلت بين زيارة وزير الخارجية الإيرانية إلى لبنان، واللقاء الذي جمع بري مع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي، والزعيم اللبناني وليد جنبلاط. وقال بري أن القرار الوحيد المطروح هو القرار 1701، أما القرار 1559 فصار وراءنا و"ينذكر ما ينعاد".
لا أظن أن الرئيس بري قد فاته قراءة القرار 1701 والذي تنص الفقرة الثالثة منه على "بسط سيطرة الحكومة اللبنانية على جميع الأراضي اللبنانية، وممارسة سيادتها عليها وفق أحكام القرار 1559 والقرار 1680 لعام 2006، والأحكام ذات الصلة من "اتفاق الطائف"، ومنع تداول الأسلحة أو استخدامها دون موافقة الحكومة".
بري مثل معظم- إن لم يكن جميع- السياسيين اللبنانيين، ماهر بتدوير الزوايا، وإن كانت السياسة هي فن تدوير الزوايا، فإن ما يعيشه لبنان واللبنانيون اليوم لم يعد يحتمل هذا التذاكي السياسي
ولا أظن أن بري قد فاته قراءة "اتفاق الطائف" الذي ينص على "الإعلان عن حل جمیع المیلیشیات اللبنانیة وغیـر اللبنانیـة، وتسـلیم أسـلحتها إلـى الدولـة اللبنانیـة خـلال سـتة أشـهر تبـدأ بعـد التصـدیق علـى وثیقـة الوفـاق الـوطني، وانتخـاب رئـیس الجمهوریـة، وتشـكیل حكومـة الوفـاق الـوطني، وإقـرار الإصـلاحات السیاسیة بصورة دستوریة"، وخصوصا أنه يترأس السلطة التشريعية في لبنان منذ 32 عاما.
ولكن بري، كحال معظم إن لم يكن جميع السياسيين اللبنانيين، ماهر بتدوير الزوايا، وإن كانت السياسة هي فن تدوير الزوايا، فإن ما يعيشه لبنان واللبنانيون اليوم لم يعد يحتمل هذا التذاكي السياسي، ولا أعداء لبنان وخصومه ينوون إعطاءه فرصة جديدة للمماطلة. وفي اللقاء الذي جمعه مع ميقاتي وجنبلاط، لم يعلن بري بطبيعة الحال أنه مع القرار 1559 ولكنه لم يعلن عكس ذلك، وكل التسريبات تحدثت عن إيجابية رئيس مجلس النواب، ومرونته للوصول إلى حل لمشكلات لبنان الكثيرة، ومنها بالطبع انتخاب رئيس للجمهورية.
أتت زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى بيروت وإعلانه "التمسك بشرط ربط مصير الحرب على لبنان بمصير الحرب على غزة"، لتوقف كل الحلول العقلانية المطروحة لإنقاذ لبنان
اندفاعته للحل ومن ثم الفرملة، لا يمكن إلا أن يراها المتابع كما القلق على مصير لبنان، فحليفه الأقوى "حزب الله" يتلقى الضربات منذ عام بعد انخراطه في ما سماه "حرب الإسناد"، وارتفعت حدة هذه الضربات في الأسابيع الأخيرة حتى كاد البعض يصفها بالضربات القاضية، من عملية تفجير "البيجر" إلى اغتيال قادة "فرقة الرضوان" ومن ثم اغتيال أمين عام الحزب حسن نصرالله ومن ثم المرشح لخلافته.
أتت زيارة وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي إلى بيروت وإعلانه "التمسك بشرط ربط مصير الحرب على لبنان بمصير الحرب على غزة"، لتوقف كل الحلول العقلانية المطروحة لإنقاذ لبنان، في تصرف لا يمت للدبلوماسية، ولا لاحترام سيادة لبنان وحقه في تقرير مصيره.
وليأتي بعدها كلام نائب الأمين العام لـ"حزب الله" نعيم قاسم، الذي وصف بري بالأخ الأكبر مؤيدا الحراك السياسي الذي يقوم به، ولكن "بعنوانه الأساسي وهو وقف إطلاق النار". لم يحدد قاسم إن كان وقف إطلاق النار في لبنان مرتبطا بوقفه في غزة، ولم يذكر القرار 1701، فكان خطاب قاسم كالحبل الذي شد حول رقبة بري. وكي لا يتوهم أحد، فإن كل خطابات فك الارتباط بين جبهتي غزة ولبنان التي صدرت عن نواب ومسؤولين في "حزب الله" تم التراجع عنها قبل أن يجف حبرها.
صار من الواضح أن إيران قررت خوض المعركة مع إسرائيل في لبنان، ولو كلف الأمر حياة آلاف اللبنانيين وتشريد الملايين وتدمير البلاد، فهذه المعركة هي التي تمنع الحرب المباشرة بين طهران وتل أبيب، والتي لا تريدها طهران ولا قدرة لها عليها، ولذلك فضلت طهران أن تخوض المعركة على الأرض اللبنانية وبقيادات إيرانية.
قبل أيام نقل الإعلام الإسرائيلي عن مصدر أمني أن رئيس "الموساد" ديفيد بارنياع ناقش مع مدير وكالة المخابرات المركزية ويليام بيرنز فكرة "الاستفادة من النجاحات الأخيرة التي حققها الجيش الإسرائيلي ضد (حزب الله) في الشمال للضغط على (حماس) لإبرام صفقة رهائن"، وتتلخص فكرة بارنياع بالربط بين الجبهتين، أي وقف إطلاق النار في لبنان مقابل إطلاق سراح الرهائن المحتجزين لدى "حماس" في غزة.
من كان يتوقع قبل أسابيع فقط أن إسرائيل هي من ستربط جبهة لبنان بغزة؟ الأيام مثقلة بالأحداث، وما رفضه لبنان قبل أسابيع صار مطلبه اليوم، وما يرفضه اليوم سيكون مطلبه غدا، فسياسة تدوير الزوايا لم تعد تجدي نفعا، والمأزق الذي يعيشه لبنان قد يكون الأخطر في تاريخه، وإن كان الرهان على "لبننة" من بقي من قيادات "حزب الله" أو دعوتهم لوضع مصلحة لبنان قبل إيران وهماً، فإن أمام المسؤولين اللبنانيين وأولهم بري فرصة قد لا تزال سانحة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من لبنان وشعبه.
فيا دولة الرئيس القرار الذي تقول إنه صار "وراءنا"، تطبقه إسرائيل اليوم بالقوة ويدفع ثمن تطبيقه اللبنانيون من حياتهم وحياة أطفالهم، واستهداف اليونيفيل لا يقرأ بغير هذا السياق بل وأبعد، أفلم يكن أجدى وأكثر حكمة لو أخذت الدولة اللبنانية الأمر على عاتقها، أو أقله لو أعلن لبنان الرسمي أن الوقت قد حان لتطبيق "الطائف"، حينها كان من الممكن أن يسارع العالم لإيجاد حل لا يكلف كل هذا الخراب، بدلا من الانشغال فقط بتقديم القليل من المساعدات الإنسانية؟