اتفاقية 1968 بين فرنسا والجزائر... هل تنقطع "شعرة معاوية" قريبا؟

مزايا اقتصادية-سياسية تفضيلية تقلصت باستمرار

أ.ف.ب
أ.ف.ب
الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون ونظيره الجزائري عبد المجيد تبون بعد انتهاء مؤتمرهما الصحافي في القصر الرئاسي بالجزائر العاصمة، 25 أغسطس 2022

اتفاقية 1968 بين فرنسا والجزائر... هل تنقطع "شعرة معاوية" قريبا؟

ما زالت العلاقات الجزائرية- الفرنسية تتخبط بلا توقف، فلا يكادان يخرجان من أزمة حتى يجدا نفسيهما أمام أخرى أشد خطورة، مفتوحة على الاحتمالات كافة، وعلى ما يبدو أن الاتفاقية الموقّعة بين البلدين في 27 ديسمبر/كانون الأول 1968، تقترب من أن تصبح أحدث فصول الصراع بينهما، فما هو مضمون هذه الاتفاقية الذي جعلها تثير في كل مرة نقاشا حادا وساخنا بين السياسيين الفرنسيين، وبالخصوص من اليمين واليمين المتطرف؟ وما هو الموقف الفرنسي الرسمي منها؟

صممت الاتفاقية التي وقّعت حينها من طرف وزير الخارجية الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، والسفير الفرنسي في الجزائر جان باديفان، من أجل تسهيل الهجرة الاقتصادية. ولأن المصانع الفرنسية كانت آنذاك في حاجة ماسة إلى اليد العاملة فقد سمحت الاتفاقية السالفة الذكر بولوج 35 ألف عامل جزائري، مقابل البقاء 9 أشهر للعثور على عمل، وفي حال نجاحهم في الحصول على عمل يحصل المهاجرون الجزائريون على تصريح إقامة صالح لمدة 5 سنوات لهم ولأسرهم، وكان بإمكان السياح الجزائريين الحاملين لجواز سفر أن يدخلوا التراب الفرنسي والبقاء فيه 3 أشهر.

ومن المزايا التفضيلية الأخرى التي منحتها الاتفاقية للجزائريين مقارنة بباقي الجنسيات الأخرى، الحصول على ما يعرف بإقامة 10 سنوات بعد 3 سنوات من الإقامة، مقابل 5 سنوات في القانون العام الفرنسي، كما أنه بعد 10 سنوات من الإقامة بفرنسا يمكن للجزائري الذي يوجد في وضعية غير شرعية، الحصول آليا على وثائق الإقامة.

وتسهل الاتفاقية منح الجنسية الفرنسية للجزائريين، الذين ولدوا بفرنسا، وأقاموا بها لمدة تتخطى ثماني سنوات، وتابعوا تعليما بمدارسها، ومن بنودها أن تمنح السلطات الفرنسية تفضيلات في التأشيرة والإقامة للطلبة والباحثين والفنانين والأدباء، وكل من له علاقة بالإبداع والتأليف، إن كان يحمل الجنسية الجزائرية.

مع مرور الزمن، أفرغت هذه الاتفاقية من محتواها 

لكن ومع مرور الزمن، أفرغت هذه الاتفاقية من محتواها، وأصبحت تشكل في الوقت ذاته انتهاكا وتراجعا عن اتفاقيات "إيفيان" بالنظر إلى التعديلات الجوهرية التي أدرجت عليها، ففي نهاية 1985 وبسبب ارتفاع البطالة، أدرج رئيس الحكومة الفرنسي آنذاك لوران فابيوس تعديلات عميقة عليها حيث تم إلغاء المادة الأولى منها، والتي تنص على قبول 35 ألف عامل كل سنة، وأيضا المادة الثانية التي تخص الإقامة لمدة 9 أشهر للعثور على عمل، ليعاد تحرير النص بشكل تقييدي وتلاها تعديلان آخران عامي 1994 و2001 وتم حذف جزء الولوج إلى التراب الفرنسي، وبقي الجزء الخاص بـ"الإقامة" ساري المفعول جزئيا، ومباشرة بعدها وبالتحديد في 2002 تم فرض التأشيرة كوسيلة للدخول إلى فرنسا.

القادم أصعب

واللافت للانتباه أن باريس قد قلصت رسميا حصة التأشيرات الممنوحة للجزائريين عام 2020، إذ انخفضت بواقع 94 ألف تأشيرة، مقارنة بتلك الممنوحة في عام 2019، وتراجعت بشكل ملحوظ في عام 2021، إذ منحت فرنسا تأشيرتين من أصل ثلاثة طلبات تأشيرة، وقد تستمر فرنسا في تقليص عدد التأشيرات، بما في ذلك التأشيرات الدبلوماسية، لا سيما وأن التوجه اليميني يبدو اليوم مسيطرا على مفاصل الحكومة الفرنسية الجديدة، ويقوده وزير الداخلية برونو روتايو المنتمي إلى اليمين الليبرالي المحافظ، والمدافع عن اتباع سياسة حازمة تجاه الهجرة.

وقد برزت هذه السياسة في تصريحات رئيس الحكومة الفرنسية، ميشال بارنييه، خلال خطابه الأخير في مطلع أكتوبر/تشرين الأول، ورغم أنه لم يذكر الوثيقة محل الجدل بشكل مباشر وواضح، فإنه لمح إلى أن بعض الاتفاقيات قد تجاوزها الزمن، "ولم تعد تتوافق مع حقيقة اليوم"، وقبلها أدلى وزير الداخلية، برونو روتايو، بتصريحات تصب في المسعى نفسه، معتبرًا أن "اتفاقية 1968 مواتية للغاية للجزائر، وغير مواتية للغاية لفرنسا"، مؤكدا أنه "يؤيد إعادة التفاوض على هذه الاتفاقيات، واستخدام التأشيرة كوسيلة ضغط ضد الدول التي ترفض استقبال مواطنيها".

الأوساط الفرنسية تستعمل اتفاقية 1968 كورقة ضغط على الجزائر لدفعها نحو تغيير مواقفها المتصلبة تجاه فرنسا

ولأن النص قد أفرغ من محتواه، ولم يعد يطبق بشكل فعلي منذ أربع سنوات تقريبا، يتساءل كثيرون عن خلفيات الحملة التي تشنها اليوم الحكومة الفرنسية الجديدة وأذرعها الإعلامية والسياسية المحسوبة على اليمين المتطرف، على الهجرة واتفاقية 1968، في الوقت الذي تعمقت فيه الأزمة السياسية والاقتصادية الفرنسية بسبب غياب التوافق الحكومي والسياسي، والديون التي بلغت مستويات غير مسبوقة، فنسبة الدين العام تخطت عتبة 60 في المئة وهي الحد الذي يسمح به الاتحاد الأوروبي، حيث بلغت نسبة الدين العام في فرنسا 112 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وقد يصل إلى حدود 120 في المئة خلال السنوات المقبلة، ولذلك قد تخضع باريس لغرامات كبيرة من المفوضية الأوروبية في حال عدم تقديمها خطة تمكنها من خفض العجز المسجل في موازنتها.

فزاعة سياسية

من الناحية السياسية يمكن قراءة الحملة التي ازدادت حدتها في تصريحات كبار المسؤولين والإعلاميين والسياسيين الفرنسيين، بأنها محاولة للضغط على السلطات الجزائرية، ويقول عبد الرفيق كشوط الباحث الجزائري لـ"المجلة": "إن الأوساط الفرنسية تستعمل اتفاقية 1968 كورقة ضغط على الجزائر لدفعها نحو تغيير مواقفها المتصلبة تجاه فرنسا".

والأمر الآخر الذي يمكن اليوم استخلاصه من هذا التوجه، وفق كشوط، هو التطور المثير للقلق الذي لحق بالمجتمع الفرنسي، والمتمثل في تأثره بأفكار اليمين المتطرف المعادي علنًا للمهاجرين، خاصة الجزائريين منهم، رغم أن فرنسا كانت من أكبر المستفيدين من هذه الاتفاقية، إذ كان لها هدف اقتصادي يتيح لاقتصادها الاستفادة من اليد العاملة الجزائرية، ونتج عن ذلك سياسة فتح باب الهجرة، ووفود عدد كبير من الجزائريين الذين يشكلون حاليا النسبة الأكبر في فرنسا حسب مكتب الإحصاء الفرنسي.

وطبعًا لا يقتصر هذا الوضع على فرنسا فقط، بل ينطبق على كثير من الدول الأوروبية التي عرفت منعطفا خطيرا مناهضا للهجرة والحرية، ويهدد حقوق التظاهر وحقوق الأقليات والحقوق الفردية، بعد إحراز الأحزاب اليمينية القومية والمتطرفة مكاسب هامة في انتخابات البرلمان الأوروبي.

وفي أول لقاء دوري أجراه السبت الماضي مع ممثلي الصحافة المحلية منذ انتخابه لعهدة رئاسية جديدة، وصف الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون هذه الاتفاقية بـ"الفزاعة السياسية"، وقال: "إنها جاءت أصلاً كمراجعة ولتقليص صلاحيات اتفاقيات إيفيان (اتفاق الاستقلال عام 1962)، التي كانت تسمح بالتنقل الحر بين الجزائر وفرنسا، وتمت مراجعة ثانية في 1985، ثم في 1995، ثم في 2001، بحيث لم يبق في هذه الاتفاقية أي محتوى"، مضيفاً أن "اتفاقية 1968 لم يعد لها أي معنى وهي عبارة عن فزاعة سياسية فحسب، وشعارات سياسية تمثل حالة ابتزاز ضد الجزائر".

الرأي نفسه استقر عنده وزير الاتصال والدبلوماسي الجزائري السابق عبد العزيز رحابي، الذي تساءل عن "فائدة اتفاقيات 1968 التي تعتبر في حد ذاتها انتهاكا وتراجعا عن اتفاقيات إيفيان"، وتابع رحابي في تغريدة على منصة "إكس": "لقد جعلوا من الجزائر موضوعا مركزيا ومتكررا للنقاش في فرنسا"، ثم زاد قائلا: "كرامتنا يجب أن تكون فوق المزايا غير المهمة"، في تلميح منه إلى ضرورة التخلص من هذه الورقة التي يشهرها اليمين المتطرف بين الحين والآخر واليوم يبدو أن الحكومة الفرنسية باتت تستعملها كأسلوب للضغط والمناورة.

رغم النقاش المفتوح في الجمعية الوطنية الفرنسية والحملة التي شنتها الحكومة فإن جميع التحركات لم تنجح لأنه لو تم فعلا إلغاء الاتفاقية ستقطع "شعرة معاوية" بين البلدين

ورغم النقاش المفتوح في الجمعية الوطنية الفرنسية والحملة التي شنتها الحكومة المنصبة منذ أسبوع، فإن جميع التحركات لم تنجح، لأنه لو تم فعلا إلغاء الاتفاقية ستقطع "شعرة معاوية" وهو ما أشار إليه الرئيس الجزائري عبد المجيد تبون في لقائه الإعلامي الذي بثه التلفزيون الوطني الرسمي السبت الماضي، إذ قال: "إن الجزائر ما زالت تحافظ على شعرة معاوية مع فرنسا، ولا يجب أن تسمح للمتطرفين اليمينيين بقطعها".

وتعليقا على هذا النقاش، يقول الأستاذ الدكتور نور الصباح عكنوش الباحث الأكاديمي المتخصص في العلوم السياسية والدراسات الاستراتيجية: "إن مصير العلاقات الجزائرية الفرنسية لا يفصل فيها شخص واحد أو تيار بحد ذاته، فهي علاقات معقدة تسير دائمًا على حافة الهاوية حسب السياقات والرهانات، ولهذا من المستبعد اليوم التوجه نحو قطيعة مستدامة، لا سيما وأن الاتفاقية السالفة الذكر تآكلت بعد التعديلات التي مستها منذ الإعلان عنها، إذ أصبحت مستهلكة وفارغة المضمون، وما بقي منها يستعمله اليمين المعروف بمعارضته الشديدة لما يعرف بمصالحة الذاكرتين كورقة سياسية وأيديولوجية للضغط والمناورة".

font change

مقالات ذات صلة