لا يزال المفكر العربي والشرقي - منذ القرن العشرين وحتى اليوم - مرتبطا بفكرته المنهجية إلى الغرب، وكأنها سخرة ثقافية، موافقا أن يكون تابعا للمؤسسة الكولونيالية، مرتضيا بحاله، اعتمادا على أن العرب لا فكر لهم وليسوا فلاسفة، فكل ما لديهم من تراث وثقافة، أصله يوناني قديم أو أوروبي جديد.
ربما كنت أبالغ قليلا في هذا الطرح، لكن ألم يضعنا الاستشراق في قالب معين؟ حتى إننا ما زلنا نصرّ حتى اليوم على إنتاج الأصالة المحلية العربية والشرقية، وفق الترتيب الغربي للإنتاج الثقافي، إن لم نقل الاستعماري، وبمعنى آخر وفق المركزية الأوروبية وبأسلوب الاستشراق القديم، ولا أعتقد أننا وحدنا في ذلك، بل حتى الإنتاج الآسيوي والأفريقي يمضي وفق المنهج ذاته.
على الرغم من أننا نعلم اليوم أن المستشرق الغربي، بمعناه التقليدي والعميق، لم يعد موجودا في عصرنا الحالي، بل يأتي اليوم بمسمى خبير، بالطبع هو ليس بمستوى ولا بمكانة المستشرق منذ القرن السادس عشر حتى القرن التاسع عشر، فسابقا كان المستشرق ملما بالشرق، أي متقنا معظم اللغات الشرقية ويكتبها، ولم يخلُ مستشرق إلا من معرفة بأكثر من عشر لغات شرقية، بالإضافة إلى التفقه في الأديان، والتعمق في تقاليد المجتمعات، وتاريخها الثقافي والعلمي، والنتيجة أنه كان استشراقا مهيمنا، وانطلاقا من هذه الهيمنة، كانت القدرة على ارتياد أفق الشرق سهلة ليضع المستشرقون بثقة متناهية منهجا في الكتابة، اعتمده العالم كله حتى اليوم.
المستشرق الغربي، بمعناه التقليدي والعميق، لم يعد موجودا في عصرنا الحالي، بل يأتي اليوم بمسمى خبير
السواد الأعظم من كتاباتهم تلك أو تقاريرهم أو حتى أدب الرحلات الاستشراقية... ذهب نحو السيطرة الناعمة، وغدا أشبه بفتوحات للغرب، وأخذت الجامعات الأوروبية تؤسس تخصصات استشراقية، وتمضي في فرض نفسها بشكل مدروس، أي تفوقت أوروبا بصورة منهجية، خاصة بعد تمكنها من اللغة العربية واللغات الشرقية الأخرى والنصوص المكتوبة بها، فكان ذلك واضحا كمثال بسيط، خلال حملة نابليون على مصر التي ضمّت فريقا علميا باذخا.
إذن كيف يمكننا وضع قالبنا من جديد في البحث، كما كانت كتاباتنا في القرون الأولى، من خلال ما لدينا من تراث أصيل، وليس كما أفهمونا بأن جذور ما لدينا يونانية، فهذه فكرة لا صحة لها، كما أن أغلب المصادر الغربية أصبحت تحيط بها علامات استفهام لكثرة الأخطاء فيها، وهي أخطاء متعمدة لتكريس الهيمنة.
أعتقد أننا نستطيع اليوم أن نقدم أنفسنا بشكل أفضل، أو بصورة لا تشعرنا بأننا أدنى أو أعلى، عبر تأسيس مركز بحثي كبير، يضمّ حشودا من الباحثين، ويعمل على مشروع نعيد فيه كتابة التاريخ، باعتبارنا في حوار مع الحضارات لا في صراع معها، بالإضافة إلى التفاعل والجدال مع الغرب ومنتجاته الثقافية، ليتم تصحيح ما كُتب، بعد قرون من اعتبار الغرب نفسه سيد العالم، فنحن إلى اليوم تهيمن علينا مقولات الغرب وأسلحته، وتريد أن تدفع بنا إلى التواري والاختفاء.
نستطيع اليوم أن نقدم أنفسنا بشكل أفضل، أو بصورة لا تشعرنا بأننا أدنى أو أعلى، عبر تأسيس مركز بحثي كبير، يضمّ حشودا من الباحثين، ويعمل على مشروع نعيد فيه كتابة التاريخ
لا شك في أن المستشرقين قد انتهوا، فمنذ بدايات القرن العشرين لم يعودوا كذلك، بل باتوا خبراء متخصصين في شؤون مجتمعاتنا، وهم إما علماء اجتماع أو سياسة أو غير ذلك، يتقنون اللغة العربية الفصحى والعامية أي لغة الشعب، ولديهم بعض البحوث الصغيرة حول العدل والإحسان والمرأة، وليسوا كالمستشرقين القدماء الذين كانوا يتخصصون في دراسات الشرق ويقرأون في الدوائر المختلفة للحضارة العربية والإسلامية ثقافيا، ويتخصصون في التاريخ والفلسفة والأنثروبولوجيا.
لا أتحامل على الغرب الأوروبي والأميركي، لكنه يعترف حتى اليوم بتراثه المسيحي واليهودي، ولم أعد أجد أثرا لكلمة العلمانية في ظل الحرب الحارقة في منطقتنا، فهم يرفضون أن نخاطبهم انطلاقا من ثقافتنا كما يفعلون، وليس لنا الحق في أن نختلف معهم، كما يتلاعبون بأبرز تجليات الفكر العربي القديم، وبالميراث الحضاري للشرق عموما، من طريق إعادة الأمور إلى أصل يوناني.
نحن مطالبون إذن بمشروع نقدي للعقل الاستشراقي، فكثير من المفكرين العرب المعاصرين، في القرن العشرين تحديدا بما فيه من أسماء كثيرة، هم مفكرون تربوا في حضن الغرب وكتبوا بلغاته، وهذا يضع العرب في حالة قصور، وعلينا أن نبدأ من جديد.