سنة مضت على حرب إسرائيل الأطول والأكثر فظاعة ضد الفلسطينيين، والتي عرّفت كحرب إبادة، ولا أحد يعرف حتى الآن متى ستنتهي، وكيف أو إلى ماذا ستنتهي؟ كما لا يمكن تلخيص هول ما جرى لكثافته وقسوته، وهي حرب غير مسبوقة ولم يكن بإمكان أحد تخيّلها.
في الواقع، شكّل هجوم "حماس" في عملية "طوفان الأقصى" فرصة لإسرائيل تحيّنتها لتصفية حسابها مع الفلسطينيين، باستكمال ما فعلته في النكبة الأولى، لإخضاعهم، والهيمنة عليهم من النهر إلى البحر، واستعادة صورتها كدولة رادعة.
بيد أن ما أرادته "حماس" بداية لهزيمة إسرائيل، وإنهاء الاحتلال، تمخّض عن مآس مروّعة، إذ إن الضربة المفاجئة والقوية التي وجهتها لإسرائيل، ليوم واحد، حولتها إلى وحش منفلت، يقتل ويدمر الفلسطينيين طوال ساعات وأيام وأشهر، على مدى العام الماضي.
فمثلا، في مقابل مصرع حوالي 1200 إسرائيلي (منهم 374 عسكريا) في هجوم "كتائب القسام"، قامت إسرائيل بقتل أكثر من 50 ألف فلسطيني (المسجلين رسميا) أي أكثر من كل الذين قتلتهم منذ إقامتها (1948)، إضافة إلى أكثر من مئة ألف جريح، مع ألوف الضحايا تحت الركام. وبدل رفع الحصار عن غزة قامت بتدمير عمرانها، بما في ذلك البيوت والمنشآت والبنى التحتية، وجعلها منطقة غير صالحة للعيش لحوالي مليوني فلسطيني بات معظمهم مشردون، ومن دون مأوى.
ضاعفت إسرائيل عدد المعتقلين، بما في ذلك اعتقال أكثر من 8000 من فلسطينيي الضفة، إضافة إلى تحويل مليوني فلسطيني في غزة إلى أسرى
وبدلا من وقف انتهاكات إسرائيل في القدس، إذا بتلك الانتهاكات تتزايد، وبدل تبييض السجون وتحرير الأسرى، ضاعفت إسرائيل عدد المعتقلين، بما في ذلك اعتقال أكثر من 8000 من فلسطينيي الضفة، إضافة إلى تحويل مليوني فلسطيني في غزة إلى أسرى.
المشكلة أن ثمة من يوارب، أو يغطي، على ما حصل بالقول إن إسرائيل المجرمة، كانت ستفعل ما فعلته، مع هجوم "الطوفان" أو من دونه، أو أن "الفلسطينيين ليس لديهم ما يخسرونه"، أو أن "إسرائيل لم تحقق أهدافها بعد"، أو إنه لا يجوز نقد أو "لوم" المقاومة، أو أن "خسائرنا تكتيكية في حين أن خسائر إسرائيل استراتيجية"! وكلها مقولات، تنم عن انعدام مسؤولية، سياسية وأخلاقية، وافتقاد للمنطق العقلاني، بلغت أوج بلاغتها الخاوية بالقول إن المقاومة بخير في حين يتعرض الشعب للإبادة في غزة، وفي لبنان.
ولعل وظيفة تلك المقولات أنها تبرير وتغطية للخيارات الخاطئة والمضرة من قيادات غير معصومة، ومنفصمة عن الواقع، ولا تبالي بموازين القوى، ولا بالمعطيات العربية والدولية، ولو نسبيا، مع احتكامها لعقليات قدرية ورغبوية ومبالغتها بقدراتها واستخفافها بعدوها ومراهنتها على أوهام كـ"وحدة الساحات"، وزلزلة الأرض تحت إسرائيل، الآيلة إلى انهيار، والتي هي "أوهن من خيوط العنكبوت"، كأن القول بتلك التخيلات يحسم الأمر على أرض الواقع.
عموما، لا يمكن القول باستخلاصات من تلك الحرب، فهي لم تنته بعد، ثم إنها توسعت بشمولها لبنان، إثر توجيه إسرائيل ضربات مزلزلة لـ"حزب الله" ما سيخلق تداعيات جديدة. ولأنها باتت تتخذ طابع حرب إقليمية، تبعا لطبيعة ومستوى، التصارع، بين إيران وإسرائيل، بعد أن غدت، رغم خصوصيتها الفلسطينية، تتعلق بتحجيم إيران، وإعادة تشكيل الشرق الأوسط، وهو ما يفسر ترك الأطراف الدولية والإقليمية إسرائيل لفعل ما تفعله في غزة ولبنان.
بينت الحرب اعتمادية إسرائيل على الغرب، بخاصة على الولايات المتحدة، من النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، وبدت كجزء منه
مع ذلك ثمة استخلاصات أولية لمجريات العام الأول لتلك الحرب المهولة، أولها، أن إسرائيل فاجأت الجميع بخرقها استراتيجيتها العسكرية التقليدية، بشنها حربا طويلة، وداخل أراضيها، وبتحملها خسائر بشرية كبيرة، بل وبأخذها المبادرة بشن حرب متعددة الساحات. وثانيها، أن الحرب وحدت المجتمع الإسرائيلي حول حكومته اليمينية المتطرفة، ما يذكر بنشوء الهوية الإسرائيلية على عصب التوحد ضد الخطر الخارجي، واعتبار الجيش كبوتقة الصهر لليهود الإسرائيليين، رغم اختلافاتهم الإثنية والثقافية والأيدلوجية.
وقد حصل ذلك كردة فعل على عملية "طوفان الأقصى"، التي اعتبرت كخطر وجودي على الإسرائيليين، الذين انقسموا، قبلها، إلى قسمين، على خلفية محاولة نتنياهو وحكومته تقويض السلطة القضائية، وتغليب طابع إسرائيل كدولة يهودية ودينية على طابعها كدولة ليبرالية وديمقراطية (نسبة لمواطنيها اليهود). هكذا، فبعد أن كان زمن نتنياهو السياسي انتهى، إذا به اليوم كالزعيم غير المنازع لإسرائيل.
ثالثا، بينت الحرب اعتمادية إسرائيل على الغرب، بخاصة على الولايات المتحدة، من النواحي السياسية والعسكرية والاقتصادية والتكنولوجية، وبدت كجزء منه، وكوضع دولي في الشرق الأوسط، أكثر من كونها دولة عادية فيه. أيضا، ظهرت إسرائيل، وبسبب حرب الإبادة تلك، بمثابة عبء سياسي وأمني ومالي وأخلاقي على الدول الغربية، وعلى اليهود في مجتمعات تلك الدول، وبخاصة أن تلك الدولة بحكوماتها المتطرفة باتت تقطع مع القيم الليبرالية الديمقراطية للغرب، وتظهر كدولة دينية ويهودية ودكتاتورية.
رابعا، بدت إسرائيل في هذه الحرب كأنها تستكمل سيرة النكبة الأولى للفلسطينيين، ما يفسر وحشيتها واستخدامها قوتها النارية والتدميرية بشكل غير مسبوق.
أما الوجه الآخر لهذا الجبروت، فيكمن في استعصاء إسرائيل تطبيع وجودها في المنطقة، مع تشبثها بطبيعتها كدولة استعمارية واستيطانية وعنصرية وعدوانية، فإذا كانت غير قادرة على التصالح أو التطبيع مع الفلسطينيين، حتى من مواطنيها في 48، بإصرارها على كونها دولة يهودية، فإنها غير قابلة للتطبيع مع محيطها العربي، ولا التطبيع مع ذاتها مع التناقضات الكامنة فيها، بين الشرقيين والغربيين، والمتدينين والعلمانيين.
خامسا، فقدت إسرائيل في تلك الحرب مكانتها، كدولة رادعة لمحيطها، وهي تخوض حربا في منطقة صغيرة جدا منذ 12 شهرا، رغم كل قدراتها التدميرية، ما كشف هشاشة وضع إسرائيل الأمني، في الشرق الأوسط. وتبعا لذلك فقد خسرت إسرائيل، أيضا، مكانتها كملاذ آمن ليهود العالم، وباتت قطاعات من يهود الدول الغربية تدين سياسات إسرائيل، وترفض الربط بين معاداة السامية ومعاداة إسرائيل، وهو تطور جديد وغاية في الأهمية.
في المقابل، شكلت تلك الحرب نكبة جديدة للفلسطينيين، لا تقل في أهميتها، وتداعياتها الخطيرة، عن النكبة الأولى (1948)، من كل النواحي، كما بينت ضعف إدراكاتهم لطبيعة إسرائيل وقدراتها وامتداداتها، إضافة إلى افتقادهم استراتيجية كفاحية مناسبة ومستدامة، ويمكن الاستثمار فيها في المعطيات العربية والدولية السائدة.
وللأسف، فإن تعزيز التعاطف الدولي مع الفلسطينيين، الذي تم على خلفية رفض حرب الإبادة الجماعية التي تشنها إسرائيل ضدهم، وليس على خلفية "طوفان الأقصى"، بحسب المظاهرات التي عمّت عواصم ومدن الدول الغربية، وضمنها الولايات المتحدة، وبحسب قرارات المنظمات الدولية، لا يخفف من وقع تلك النكبة وآلامها وأهوالها وتداعياتها الخطيرة.
وباختصار، فإن تلك الحرب قوضت بشكل مريع مراهنات وأوهام "حماس" و"حزب الله"، التي لا يغطي عليها، أو يخفف منها، استمرار عمليات المقاومة والقصف، ضد إسرائيل، فثمة بون شاسع بين ما تستطيعه "حماس"، و"الحزب"، وما تفعله إسرائيل في غزة ولبنان. مثلا، لنلاحظ أن "حماس" باتت تطالب بالعودة إلى ما قبل السابع من أكتوبر، في حين أن ذلك الواقع لم يعد موجودا، لا جغرافيا ولا ديموغرافيا ولا بالنسبة لأحوال الفلسطينيين ومعاشهم.
عموما تلك ليست نهاية المطاف، فالمطلوب أن يستخلص الفلسطينيون، هذه المرة، الدروس المناسبة من تلك التجربة المأساوية وباهظة الثمن، بالتحرر من الأوهام، والاعتماد على قدراتهم، والبحث عن خيارات سياسية وكفاحية أجدى ومناسبة أكثر لاستعادة حقوقهم الوطنية، بحسب ظروفهم وإمكانياتهم بالتناسب مع المعطيات العربية والدولية المحيطة بهم.