من أين يجيء هذا الوباء؟

مقال حصري لـ "المجلة" من الشاعر الكبير أدونيس، المقيم في باريس

من أين يجيء هذا الوباء؟

  1. لا يزالون، كما نعرفهم

بعضهم لا يقدر أن يكتب إلّا إذا حوّل قلمه إلى خنجر

بعضهم لا يعرف أن يقرأ إلّا إذا حوّل لسانه إلى مطرقة

بعضهم لا يعرف أن يصغي إلّا إذا كان هو المتكلّم

من أين يجيء إلى اللغة العربية، يا امرأَ القيس، هذا الوباء؟

2. إنه بؤس الرغبة. أكبر انهياراً وأشدّ مرارةً من بؤس الواقع. واقعٌ يخاطب الغياب لا الحضور، ولا يدرك إلّا استيهاماً. حرب ما يسمونه البناء هي نفسها حرب الهدم: لا تقتل البصرَ وحده، تقتل كذلك البصيرة.

إنه كتابٌ يكتبه الناس كلّهم، والعجب أنّ أياً منهم لا يقرؤه إلا هاجياً أو متّهماً، أو متبرّئاً.

3. أعيدي، باسمنا، أنتِ أيتها الطيور العربية المهاجرة قراءة ما قبل التاريخ الذي طمسه تاريخٌ أرّخَ لأجنحتكِ.

قولي أنتِ أيضاً: هَذَيانُ الهواءِ يتآخى مع هذيانِ الغبار. وقولي باسم التكوين، شعرياً:

لم يعد من حَقّ الحجر أن يظلّ حجراً،

لم يعد من حَقّ الشّرر أن يخرجَ من رحمِ النّار وحدَها.

وها هي الأشياء تصير هي نفسها حروفاً، وتحل محل الكلمات.

4. رأيت قصائد كثيرة بلغاتٍ كثيرةٍ ماتت وتحولت إلى كلماتٍ تتشرّد من جديدٍ في معاجمها الأُولى.

سمعت الدائرةَ تقول: "الآن، عرفتُ لماذا يكرهني الخطّ المستقيم".

وكانت تقول ذلك وهي تتمرأى في قرص الشمس وتتشبّه به.

كأنّ ما لا نعرفه أبداً– هو، وحده، الذي يعرفنا، حقّاً.

5. وكان كاتبٌ من الشرق، دوستويفسكي، أكّد قائلاً:

كل إنسان مسؤولٌ أمام البشر عن كل شيء.

هكذا باسمه أكتب أنا العابر، فيما أقف على أبواب مجهولة:

اخترع الغرب هذه البطولة التي يسهر عليها:

يدمّر مدينة لكي يصنع دولاب سيّارة.

الوجود في هذا الغرب أقلّ من حياةٍ وأكثر من موت.

الحرب خاتمُ زواجٍ في إصبع السماء التي يصلّي لها.

لا شيء لا شيء، يقول هذا الغرب.

غير أن الدم يواصل كتابة التاريخ. غير أن العبث يواصل انفجاراته في رئة المعنى.

صارت الآفاق من جميع الجهات قاذفات لكل ما يبيد ويستأصل.

6. ما الحرب؟

نشوة بلا نهاية في رأس الغرب

7. هكذا تكاد الثقافة اليوم في صورتها اللغوية في العالم كلّه، وبخاصّة في العالم الإسلامي، أن تنشطر إلى فضاءين: فضاء الدين، وفضاء الشعر.

لا نرى في فضاء الدين وبخاصة الأوروبي-الأميركي إلا العنف والحروب، تدميراً وإبادةً، بطرقٍ وأشكالٍ مختلفة، متنوعة، وعلى جميع الصّعد.

وفي حين تحيط بهذا كله، احتفاءً ودعماً وتمجيداً، مختلف أشكال التعبير باللغة، يقف الشعر وحيداً، معزولاً ومُتّهماً. وعندما يلتفت إلى آبائه الأول، سائلاً: ماذا على الشعر أن يفعل، يا جلجامش؟ وأنت يا هوميروس، قل لنا: إلى أين يسافر أحفاد عوليس، وهل سيعودون من هذا السفر، وكيف؟ وإلى أين يعودون؟ وقبل ذلك: إلى أين يسافرون؟

وما أخطرَ اللّغة نفسها، هي المشتركة بين أهل الشعر وأهل الدّين. فهي تقدر أن تكون أداةً للطّمس والتّزوير والمحو. وبدلاً من أن تكون طاقةً لطرح الأسئلة، تتحول إلى مستودعٍ– مستنقعٍ لمياه الأجوبة اليقينية، الجاهزة. هكذا تصبح الحقيقة كذباً. والكذب يحلّ محلَّ الصدق. ويصبح الإنسان هو نفسه توهّماً. هكذا، يحلّ الوهمُ محلّ الواقع، ويغيب المرئيّ، لكي يحلّ اللامرئيّ محلّه.

وها هو عالمُنا الذي نعيش فيه، يسيطر عليه فنُّ الطّمس والمحو والتّهميش لكل ما هو إنسانيّ، حقيقيّ، كونيّ. ولا مكان في هذا العالم للذاتية الحرّة المستقلّة.

تكاد الثقافة اليوم في صورتها اللغوية في العالم كلّه، وبخاصّة في العالم الإسلامي، أن تنشطر إلى فضاءين: فضاء الدين، وفضاء الشعر

5. وكان كاتبٌ من الشرق، دوستويفسكي، أكّد قائلاً:

كل إنسان مسؤولٌ أمام البشر عن كل شيء.

هكذا باسمه أكتب أنا العابر، فيما أقف على أبواب مجهولة:

اخترع الغرب هذه البطولة التي يسهر عليها:

يدمّر مدينة لكي يصنع دولاب سيّارة.

الوجود في هذا الغرب أقلّ من حياةٍ وأكثر من موت.

الحرب خاتمُ زواجٍ في إصبع السماء التي يصلّي لها.

لا شيء لا شيء، يقول هذا الغرب.

غير أن الدم يواصل كتابة التاريخ. غير أن العبث يواصل انفجاراته في رئة المعنى.

صارت الآفاق من جميع الجهات قاذفات لكل ما يبيد ويستأصل.

6. ما الحرب؟

نشوة بلا نهاية في رأس الغرب

7. هكذا تكاد الثقافة اليوم في صورتها اللغوية في العالم كلّه، وبخاصّة في العالم الإسلامي، أن تنشطر إلى فضاءين: فضاء الدين، وفضاء الشعر.

لا نرى في فضاء الدين وبخاصة الأوروبي-الأميركي إلا العنف والحروب، تدميراً وإبادةً، بطرقٍ وأشكالٍ مختلفة، متنوعة، وعلى جميع الصّعد.

وفي حين تحيط بهذا كله، احتفاءً ودعماً وتمجيداً، مختلف أشكال التعبير باللغة، يقف الشعر وحيداً، معزولاً ومُتّهماً. وعندما يلتفت إلى آبائه الأول، سائلاً: ماذا على الشعر أن يفعل، يا جلجامش؟ وأنت يا هوميروس، قل لنا: إلى أين يسافر أحفاد عوليس، وهل سيعودون من هذا السفر، وكيف؟ وإلى أين يعودون؟ وقبل ذلك: إلى أين يسافرون؟

وما أخطرَ اللّغة نفسها، هي المشتركة بين أهل الشعر وأهل الدّين. فهي تقدر أن تكون أداةً للطّمس والتّزوير والمحو. وبدلاً من أن تكون طاقةً لطرح الأسئلة، تتحول إلى مستودعٍ– مستنقعٍ لمياه الأجوبة اليقينية، الجاهزة. هكذا تصبح الحقيقة كذباً. والكذب يحلّ محلَّ الصدق. ويصبح الإنسان هو نفسه توهّماً. هكذا، يحلّ الوهمُ محلّ الواقع، ويغيب المرئيّ، لكي يحلّ اللامرئيّ محلّه.

وها هو عالمُنا الذي نعيش فيه، يسيطر عليه فنُّ الطّمس والمحو والتّهميش لكل ما هو إنسانيّ، حقيقيّ، كونيّ. ولا مكان في هذا العالم للذاتية الحرّة المستقلّة.

font change

مقالات ذات صلة