يبني الشعراء مع اللغة علاقات وظيفية ويخلقون مسارات وينشئون ألعابا وحيلا، وفي كل هذه الأنساق المختلفة يبقون في نظام علاقة لصيقة الطابع مع اللغة، وتبقى متسلطة عليهم وتهبهم المكانة على قدر نجاحهم في اكتشاف مناطق جديدة للقول. حفل الشعر العربي بمستعملين كبار للغة ولاعبين مهرة، وشهد ظهور الكثير من السحرة والحواة، ولكن بقي الأندر ظهور من يصنع لنفسه لغة خالصة نقية من رواسب الاستعمالات السابقة والتجارب والنصوص والأفكار، لغة تتجلى طازجة وجارحة على الدوام وكأنها ولدت في التو والحال، وتنجح في الحفاظ على استثنائيتها على امتداد تجربة شعرية عريضة ناهزت الستين عاما.
شوقي أبي شقرا المولود في عام 1935 الذي فارق الحياة في العاشر من شهر أكتوبر/ تشرين الأول 2024 عن 89 عاما، امتلك وحده دون سواه ذلك الوهج الذي يجعله خالقا لغته وأسلوبه وطريقته التي طبقها في 14 ديوانا، وبقيت فريدة وعصية على التجاوز والاستهلاك.
شعرية المتدهور
مني الشاعر بتجربة صادمة وحاسمة في العاشرة من عمره حين فقد والده العسكري مجيد الذي قضى في حادث سير في منطقة عين تراز، ومنذ تلك اللحظة بات ابنا لحالة السقوط من الأعلى والارتطام بالأرض. اعتنق التدهور نهجا كتابيا يمكن سبر إيقاعه عبر ملاحقة منطق الكتابة الذي اعتمده وتبناه منذ ديوانيه الأولين، "أكياس الفقراء" و"خطوات الملك"، المنتسبين إلى شعر التفعيلة، وصولا إلى ديوانه الأخير "أنت والأنملة تداعبان خصورهن" الصادر عام 2022. شحن كتابته بالبنية الارتطامية ولكنه حرص على خلق بنية دلالية عامة لا تذهب في اتجاه التحطم والتناثر بل تتبنى الانتشار والامتداد.
اعتنق الشاعر فكرة المرجعية الذاتية في ديوانيه الأولين الصادرين تباعا في العامين 1959 و1960، فعلى الرغم من انتمائهما إلى مرجعية شعر التفعيلة، فإن أبي شقرا دس فيهما الكثير من ملامح شعرية قصيدة النثر التي يعتبر أبرز مؤسسيها. بدا في بواكيره غير خاضع للأطر العامة التي تحكم منطق كتابة ذلك النوع، سواء من ناحية الأسلوب أو من ناحية الأفكار. بنى عالما بصريا حركيا قلقا ورجراجا، انتفت معه فكرة النوع وبدا أنه اخترع نوعا خارجا على الأنواع كلها حتى إذا كان ملتزما إطارها الشكلي.