تونس "الخضراء" تواجه أخطر أزمة مياه في تاريخها

الزراعة تستأثر بـ80% من الموارد المائية و"الخيارات الاقتصادية" تلعب دورا في شح المياه

لينا جرادات
لينا جرادات

تونس "الخضراء" تواجه أخطر أزمة مياه في تاريخها

في يوم 8 سبتمبر/أيلول 2024، سجلت واردات تونس من الكهرباء الجزائرية رقما قياسيا ببلوغها 1000 ميغاواط. يمثل هذا الرقم تعثرا للانتقال نحو اعتماد الطاقات المتجددة التي تشكل رافعة خطط البلاد الاستراتيجية لمواجهة ندرة مواردها المائية، وهي أزمة باتت توصف بالأخطر وتنذر بالأسوأ بسبب تأخر مسارات التكيف مع التأثيرات الحادة للتغيّرات المناخية وعدم مراجعة السياسات المستنزفة للمياه، بما يهدد أمن البلاد المائي والغذائي وسلمها الاجتماعي.

دخلت مؤشرات الوضع المائي في تونس المنطقة الحمراء، وقد يكون أهم المؤشرات دلالة هو مستوى امتلاء السدود باعتبار أنها مصدر مياه الشرب لنصف سكان البلاد، إذ لم يتعد معدل تعبئة السدود 22,8 في المئة خلال شهر سبتمبر/أيلول الماضي في واحد من أدنى المستويات المسجلة منذ ربع قرن، ولا يكاد تلبي احتياجات الاستهلاك لأكثر من أسابيع قليلة. وتفرض مثل هذه المؤشرات إعلان حالة الطوارئ المائية، مثلما دعا إلى ذلك المرصد التونسي للمياه، وهو منظمة محلية غير حكومية.

خزان أزمات اقتصادية وسياسية

هذا الواقع المخيف لندرة المياه أثّر على مختلف القطاعات والفئات. فقد امتدت "خريطة العطش" لتشمل كل أقاليم البلاد ومدنها وقراها وأريافها من شمالها إلى جنوبها وفي المناطق الرطبة وشبه الجافة كالصحراوية. وتهدد هذه الندرة المنظومات الحيوية كالزراعة التي تستأثر بـ80 في المئة من الموارد المائية.

عزت السلطات التونسية التدني الكبير لنسبة النمو، التي لم تتجاوز 0,4% عام 2023 و0,6% في النصف الأول من السنة الجارية، إلى شح المياه وحالة الجفاف التي دخلت عامها السادس

تحولت أزمة المياه إلى خزان أزمات، مؤسساتيا واقتصاديا واجتماعيا وسياسيا، تظهرت بإقالة الحكومة بعد تضارب السرديات بينها وبين رئاسة الجمهورية حول أسباب الانقطاعات المتكررة للمياه في مختلف المحافظات. وتحولت هذه المياه أيضا إلى نقطة تصادم بين الرئاسة والجيش وفق آخر تقرير لمجموعة الأزمات الدولية، وهي منظمة غير حكومية مقرها بروكسيل، وتعد من أهم المصادر العالمية المعتمدة في التحليل والمشورة.

شادلي علاء بن إبراهيم
بستان زيتون جاف، في سليانة، تونس وسط معاناة المزارع من الجفاف ونقض المياه، 10 مايو 2024

على المستوى الاقتصادي، عزت السلطات الاقتصادية والمالية التونسية التدني الكبير في نسبة النمو، التي لم تتجاوز 0,4 في المئة عام 2023 و0,6 في المئة في النصف الأول من السنة الجارية، إلى شح المياه وحالة الجفاف التي دخلت عامها السادس.

 ووضعت تأثر البلاد بتغير المناخ على سلم التحديات الوطنية من حيث رسم الخطط وتعبئة الموارد، إذ تتطلب مواجهة التغييرات المناخية في تونس اعتمادات بأكثر من 19 مليار دولار حتى عام 2030 لتأمين الأمن المائي والغذائي، بحسب تقرير خبراء في المناخ تابعين للبنك الأفريقي للتنمية.

تقلبات مناخية خطيرة تضرب الاقتصاد

تونس، الدولة التي تصنف ضمن الثلاثين دولة الأكثر عرضة لأخطار التغير المناخي في العالم، كانت قد أقرت استراتيجيا وطنية للمياه في أفق 2050. وتناهز تكلفة تنفيذ هذه الاستراتيجيا، التي أعلنت وزارة الفلاحة عناوينها الكبرى منذ أشهر قليلة، 23 مليار دولار (70 مليار دينار)، أي ما يعادل تقريبا نصف ناتجها المحلي الإجمالي (46 مليار دولار).

تكلفة عدم التكيف مع التغيّرات المناخية ستكون باهظة على اقتصاد تونس، وقد تصل إلى 1,8 مليار دولار سنويا مع خسائر في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3,4 في المئة بحلول عام 2030

تقرير البنك الدولي لعام 2024

خرج النقاش حول ندرة المياه والتغيير المناخي عن الدوائر والأطر الأكاديمية والتقنية ليغزو الرأي العام بعد ان أصبح محل اهتمام اجتماعي واسع. فقد كشف مسح المناخ، وهو استطلاع رأي للبنك الأوروبي للاستثمار، وهو من أهم المؤسسات المالية الدولية المقرضة، أن 87 في المئة من التونسيين أكدوا أن التغيرات المناخية مست بحياتهم اليومية فيما أكد 52 في المئة من المشاركين في المسح، أن تغيرات المناخ والأضرار البيئية أضرّت بدخلهم وبمصدر رزقهم.

 يتقاطع هذا المسح مع الأرقام الواردة في تقرير لمجموعة البنك الدولي صدر بداية السنة الجارية، ونبه إلى أن تكلفة عدم التكيف مع التغيّرات المناخية ستكون باهظة على اقتصاد تونس، وإلى أنها قد تصل إلى 1,8 مليار دولار سنويا مع خسائر في الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 3,4 في المئة بحلول عام 2030.

أ.ف.ب.
سد "سيدي سالم" أكبر السدود في تونس، شمال غرب العاصمة التونسية 6 أبريل 2023

وراجع البنك الدولي توقعاته في شأن تأثيرات التغيّرات المناخية على الاقتصاد التونسي في شهر مارس/آذار الماضي، وتوقع أن ينتج من ندرة المياه انكماش الاقتصاد التونسي بنسبة تتراوح بين 1 و2 في المئة وانخفاض الناتج المحلي الإجمالي بين 4,1 في المئة و4,6 في المئة حتى عام 2030.

وتأتي أزمة ندرة المياه في سياق تعددت فيه المظاهر المناخية المتطرفة في تونس، مثل تكرار الفيضانات والارتفاع الكبير في درجات الحرارة (تجاوزت 50 درجة كمعدل في شمال البلاد في الصيف الماضي)، والحرائق وعدم انتظام تساقطات الأمطار وإعادة تشّكل خريطتها بعدما أصبحت تتساقط خارج السدود.

تونس لا تساهم الا بـ0,07 في المئة من انبعاثات الغازات الدفيئة المتسببة في الاحتباس الحراري، لكنها تعاني الجفاف منذ ست سنوات، مما يفاقم أزمة المياه المعقدة

حسين الرحيلي، خبير في الموارد المائية

وتشكو تونس بحكم موقعها الجغرافي، مثلما يرد في مختلف النشرات المناخية، من مناخ جاف وشبه جاف مع فوارق كبيرة في كمية التساقطات بين الشمال حيث تصل إلى أكثر من 1000 ملم، والجنوب حيث تقل عن 100 ملم. وشكلت هذه الفوارق قاعدة لسياسة تشييد السدود التي انطلقت منذ فجر الاستقلال ليبلغ عددها 37 سدا حتى اليوم، إلى جانب مشاريع لبناء أربعة سدود جديدة.

هذه التقلبات القصوى مثلما يصفها الخبير في الموارد المائية حسين الرحيلي لـ"المجلة"، متواصلة منذ سنوات، ومن مفاعيلها أنه لأول مرة يأتي فصل الخريف مبكرا في مناطق جنوب البلاد التي شهدت خلال النصف الثاني من هذا الشهر تساقطات مهمة من الأمطار نجم عنها سيلان أودية لم تشهد مثيلا له منذ سنوات. 

وبحسب الرحيلي، فإن تقلبات المناخ أصبحت تمثل حربا حقيقية لا يمكن الاستخفاف بها مع ما تسبب به من خسائر تعد الأكبر في تاريخ البشرية بعد الحربين العالميتين، وأشار إلى أن تونس لا تساهم الا بـ0,07 في المئة من انبعاثات الغازات الدفيئة المتسببة في الاحتباس الحراري، لكنها على الرغم من ذلك، في حال جفاف منذ ست سنوات، مما يفاقم أزمة المياه المعقدة.

"سيناريو الديناصور"

يصل معدل نسبة التبخر، وفق الرحيلي، إلى 300 ألف متر مكعب في اليوم، وأكد أنها تبلغ في فصل الصيف 700 ألف متر مكعب في اليوم، وأن ذلك يعادل 50 في المئة من المياه التي يشربها التونسيون في اليوم الواحد. ويبقى الرقم القياسي ذلك المسجل في صيف 2023 عندما تبخر نحو مليون متر مكعب من المياه (950 ألف متر مكعب) في 24 ساعة. وقال وزير الزراعة السابق عبد المنعم بلعاتي في مايو/أيار المنصرم إن ذلك يعد كارثة.

ترجح الدراسات والتقارير الأكثر تفاؤلا، أن تتحول بعض المحافظات التونسية إلى مدن أشباح بعد أن يهجرها سكانها بسبب ندرة المياه وارتفاع درجات الحرارة ما بين 1,8 و2,3

من جهته، حذر الخبير الرحيلي من "سيناريو الديناصور" في حال استمر الوضع على حاله في الكوكب، حيث "سيأتي يوم لا مياه لدينا والمياه هي الحياة"، أي قد تتجه البشرية نحو الانقراض.

ففي الدراسات والتقارير الأكثر تفاؤلا، يرجح أن تتحول بعض المحافظات التونسية إلى مدن أشباح بعد أن يهجرها سكانها بسبب ندرة المياه وارتفاع درجات الحرارة (بين 1,8 و2,3 درجات مئوية في نهاية هذا القرن بحسب المعهد التونسي للأرصدة الجوية) توازيا مع تراجع هطول الأمطار بنسبة تصل إلى 10 في المئة بحلول 2050. وتشمل تأثيرات التغيير المناخي ارتفاع مستوى البحر الذي يهدد بتملح الطبقات المائية الجوفية في المناطق الساحلية في الجنوب التونسي على نحو يهدد أهالي هذه المناطق بسبب نفاد المياه الصالحة للشرب، مثلما جاء في دراسة صادرة عن منظمة "هاينريش بول" تعنى بالمناخ والبيئة ممولة من الحكومة الألمانية. 

.أ.ف.ب.
نساء تونسيات يملأن غالونات المياه من نهر في قرية أولاد عمر، 180 كيلومترا جنوب غرب العاصمة التونسية، 28 نوفمبر 2024

كما شدد تقرير للبنك الدولي على ضرورة "الاستعداد لاحتواء الهجرات الداخلية الناجمة عن تغيّر المناخ"، وتباطؤ النمو السكاني في المناطق التي تشهد شحا في الماء وأن يدفع نقص المياه الى الهجرة الداخلية، وأن يجبر سكان المحافظات الساحلية والداخلية على الهجرة إلى الساحل الشمالي الشرقي لتونس. ويرجح أن تصبح تونس الكبرى، التي تضم 4 محافظات، بؤرة ساخنة للهجرة الداخلية بين 2030 و2050 بسبب وضعها المائي الأفضل من حيث كميات المياه المتوفرة مقارنة ببقية محافظات البلاد.

أربع سنين من الإجهاد المائي

تعد ندرة المياه مشكلة قائمة في تونس منذ أكثر من 3000 عام، وتشهد الآثار والمعالم التاريخية المائية لعبقرية الحضارات المتعاقبة على تونس في التعاطي مع شح المياه، وحسن التصرف فيها وتخزينها على مر العصور. وقبل ثلاثة عقود، وتحديدا عام 1995، صنفت تونس من بين الدول التي دخلت مرحلة الضغط المائي، ثم صنفت سنة 2020 ضمن الدول التي تعاني من الإجهاد المائي. وعلى مر عقود ما بعد الاستقلال في عام 1956، استثمرت الدولة بقوة في خطط إدارة الموارد المائية التي كانت في قلب سياساتها الاستراتيجية ووجهت، على سبيل المثل، نصف التمويلات المخصصة للتنمية تقريبا.

تلعب الخيارات الاقتصادية دورا في شح المياه، لجهة منح الامتيازات ودعم الزراعة التي تقوم على المنتجات القابلة للتصديرأو ذات القيمة المضافة على غرار الزيتون والتمور والحمضيات في اتجاه الأسواق الأوروبية

تقرير لوزارة الزراعة التونسية

ورصدت تونس ما بين سنوات 1973 و1976 موازنة بـ204,7 ملايين دينار (67,4 مليون دولار) تحت عنوان التنمية، منها 48,4 في المئة للموارد المائية. ووجهت أكثر من ثلثيها، لتنفيذ هذه السياسات خلال سبعينات القرن الماضي، ولا سيما السدود وقنوات التحويل بين الأقاليم. وارتفع التمويل بشكل قياسي حتى تضاعف 46 مرة بين عامي 1997 و2001، فيما فاقت نسبة التمويلات المخصصة للأشغال المائية الكبرى 90 في المئة من حجم الأموال المرصودة للمياه خلال الفترة نفسها. وتضاعفت المساحات المروية في البلاد عشرة أضعاف.

الخيارات الاقتصادية: الأولوية للصادرات الزراعية لا المياه

لكن بريق ما تحقق في البنية التحتية المائية خفت نهائيا مع بروز "الوجه الخفي" لخيار اقتصادي وضع الماء، وفق توصيف تقرير وزارة الفلاحة، كـ" قيمة اقتصادية تخضع لقاعدة العائد المالي"، عبر دعم الاستثمار ومنح الامتيازات ودعم الزراعة التي تقوم على المنتجات القابلة للتصدير إلى الأسواق الأوروبية مثل الزيتون والتمور والحمضيات، وهو نوع من تصدير الماء يمثل أحد أسباب "الفقر المائي"، كما أوضح أحمد فريعة، وهو وزير سابق وأحد الناشطين في مراكز أبحاث تونسية حول ندرة المياه.

.أ.ف.ب.
بحيرة سد سليانة شمال تونس، 28 نوفمبر 2023

تفسر دراسة مهمة لمؤسسة "هاينريش بول" الممولة من الحكومة الألمانية، كيف تغيرت ملامح الزراعة التونسية منذ نهاية السبعينات من زراعة سيادة غذائية إلى زراعة موجهة لتعديل الميزان التجاري وتوفير العملات الأجنبية. ويبين التقرير الذي حمل عنوان "حق التونسيين في الماء ضحية سياسات الدولة والتغيرات المناخية"، الآثار البيئية الخطيرة الناجمة عن الاستنزاف الهائل للمخزون المائي للبلاد لتحقيق زراعة موجهة للتصدير. 

وشهدت المياه السطحية تراجعا كبيرا بأكثر من 60 في المئة بين 2015 و2021 بسبب سنوات الجفاف المتعاقبة، وتزامن ذلك مع ارتفاع استغلال المياه الجوفية بشكل يهدد ديمومتها. ووفق التقرير نفسه، بلغت نسبة استغلال المياه الجوفية خلال الأعوام الأخيرة، 119 في المئة مقارنة مع إمكانات تجددها، كما ارتفعت نسبة استغلال المياه الجوفية العميقة بشكل وصفته الدراسة بالمخيف، مع بلوغه 134 في المئة سنة 2020. هذا الاستنزاف ناتج من توسع انتشار الآبار العشوائية التي تبلغ نسبتها 60 في المئة من مجموع الآبار في تونس.

صار بعض القطاعات اليوم يمثل أهم موارد العملات الأجنبية، خصوصا الزيتون والتمور. فقد حققت إيرادات صادرات زيت الزيتون خلال النصف الأول من السنة الجارية 1,1 مليار دولار

كانت نتيجة هذه السياسات المائية كارثية على المخزون المائي الاستراتيجي للبلاد، الذي يستنزف بشكل درامي وسريع جدا، وأيضا على الأمن الغذائي، وتغيرت المنظومة الزراعية جذريا، من فلاحة تقوم على مساحات صغيرة موجهة للاستهلاك المحلي والأسواق الداخلية، وتعتمد أساسا على زراعة الحبوب والبقول والزياتين المحلية، إلى زراعة موجهة للتصدير عبر تشجيع زراعة الباكورات والخضر والورقيات والفراولة والحمضيات والزراعات المروية التي تستهلك كميات كبيرة جدا من الماء. 

زيت الزيتون نافذة الدولار

وصار بعض هذه القطاعات اليوم يمثل أهم موارد للعملات الأجنبية، خصوصا الزيتون وبعض المنتجات الأخرى على غرار التمور. فقد حققت إيرادات صادرات زيت الزيتون خلال النصف الأول من السنة الجارية 3,4 مليارات دينار (1,1 مليار دولار)، وارتفعت عائدات تصدير التمور بأكثر من 22,7 في المئة (874 مليون دينار – 288 مليون دولار).  

في المقابل، تراجعت محاصيل القمح الصلب بشكل كبير ولم تعد السلطات قادرة على مجاراة الطلب، وهو تراجع يعكس خيارات اقتصادية، وأيضا نتيجة شح المياه والتغيّرات المناخية. وانخفضت المحاصيل العام المنصرم من 1,5 مليون طن إلى 300 ألف طن فقط، وزادت حاجات البلاد للاستيراد لتتجاوز الـ80 في المئة من حاجات الاستهلاك، وتمثل هذه الواردات نصف واردات تونس الغذائية.

ستكون الزراعة بلا شك في قلب خطط مواجهة شح المياه وندرتها، ومن المهم التحرك سريعا لتجديد الشبكات المهترئة التي تتسبب في إهدار أكثر من 30 في المئة من المياه، علاوة على أهمية تعزيز استخدام التكنولوجيا وتقنيات الذكاء الاصطناعي في القطاع، وطرح تصورات متطورة وحلول على غرار السدود الجوفية، التي يقول الخبير الرحيلي إنها ضرورية لمقاومة ظاهرة تبخر المياه، وصارت بديلا من السدود التقليدية.

font change

مقالات ذات صلة