لم يسبق لموجات التهجير والنزوح السكاني- وهي لازمت الحروب الإقليمية والأهلية الداخلية في لبنان- أن اقتصرت على جماعة لبنانية بعينها دون سواها، كما حدث ويحدث اليوم. وهذا منذ أواسط سبتمبر/أيلول المنصرم، حين بدأت إسرائيل بحرب تفجيرها الفردي/الجماعي أجهزة النداء "البيجر" في أيدي وعيون وأجسام عناصر "حزب الله". ومن ثم اغتالت أمينه العام حسن نصرالله وبعض قادته الآخرين. قبل شروعها في تدمير مواقعه وبنيته العسكرية. وسرعان ما وسّعت تدميرها الكثيف والسريع وغير المسبوق بشموله مناطقَ مجتمع "الحزب" كلها، وتهجير أهلها وسكانها في جنوب لبنان وضاحية بيروت الجنوبية والبقاعين الشمالي والأوسط.
التهجير الشيعي والمسيحي ومترتباته السياسية
عرفت قرى وبلدات الشريط الحدودي الجنوبي– وهي في غالبيتها شيعية- التهجير والنزوح منذ نهايات ستينات القرن العشرين الماضي. أي منذ عشية "اتفاق القاهرة" الذي "شرّعَ" في العام 1969 "حرية العمل الفدائي" الفلسطيني مما سُمِّي "فتح لند" في جنوب لبنان. ومنذ ذلك الحين قُسِّم شريط البلدات والقرى الحدودية اللبنانية تلك، وسُمِّيَ في اللغة العسكرية الفلسطينية تسميات لا تزال شائعة حتى اليوم:
• القطاع الشرقي، أي العرقوب السني والدرزي والمسيحي السكن في بلداته وقراه على سفوح جبل الشيخ ومرتفعاته وصولا إلى مزارع شبعا المطلة على المستعمرات الإسرائيلية في سهل الحولة وإصبع الجليل في فلسطين.
• القطاعان الأوسط والغربي، من سهل مرجعيون- الخيام شرقا، وحتى الناقورة غربا بطول أكثر من 60 كلم من البلدات والقرى الشيعية في غالبيتها الساحقة، ومسيحية قليلة، مثل إبل السقي والقليعة ورميش وعين إبل ودبل...
وكانت موجات النزوح والتهجير السكاني الأولى قد شملت على نحو متقطع ذاك الشريط الحدودي كله، بفعل القصف الإسرائيلي المتواتر، ردا على عمليات "الفدائيين" الفلسطينيين انطلاقا من الأراضي اللبنانية، قبل بدايات الحروب الأهلية في لبنان سنة 1975. وهي حروب أدت جولاتها وحقبها الإقليمية والداخلية المتعاقبة (1975-1990) إلى إعادة رسم وتكوين خريطة لبنان السكانية، الاجتماعية والسياسية.
والأرجح أن ظاهرتين أساسيتين وكبيرتين نجمتا عن موجات النزوح والتهجير المديدة في لبنان، حتى توقف الحروب فيه سنة 1990، عقب إبرام "اتفاق الطائف" سنة 1989:
• ظاهرة تهجير المسيحيين ونزوحهم من معظم مناطق الاختلاط الطائفي في لبنان: بيروت وضاحيتها الجنوبية، الشوف وساحله، المتن، الجنوب، وطرابلس شمالا... هذا وأدت جولات الحرب وحقبها ومنعطفاتها إلى هجرة مسيحية خارجية واسعة طاولت الفئات الاجتماعية العليا والوسطى وأصحاب المهن الحرة. وإلى انكفاء المسيحيين إلى مناطق السكن المسيحي الصافي في المتن الشمالي وساحله، كسروان وساحلها، جبيل، الكورة-أميون، وأقصى الشمال اللبناني في زغرتا- إهدن- بشري. فانتهى بذلك انتشار المسيحيين المتفاوت من شمال لبنان إلى جنوبه.
وكانت الظاهرة السياسية الأبرز التي ترتبت على التهجير والنزوح والأنكفاء المسيحي عن مناطق الاختلاط الطائفي إلى المناطق المسيحية الصافية والمتصلة جغرافياً، إضعاف النخب السياسية التقليدية في المناطق، وبروز زعامة بشير الجميل الميليشياوية، القاعدية والشبابية.
• ظاهرة تهجير الشيعة من جزرهم السكنية المكتظة في ضواحي بيروت الشرقية المسيحية: النبعة، برج حمود، منطقة المسلخ، الدكوانة، سن الفيل، ومحيط مخيم تل الزعتر الفلسطيني الذي اقتُلع سكانه اقتلاعا تامّا. وتعاقبت مرات كثيرة موجات التهجير والنزوح الشيعية من الجنوب إلى بيروت وضاحيتها الجنوبية، ومن هذه الأخيرة إلى الجنوب. وهذا ما أدى أخيرا إلى التكدّس السكاني الشيعي الكبير في الضاحية الجنوبية وأحياء شيعية داخل مدينة بيروت.
ترتب على ذلك نشوء "حركة المحرومين- أمل" الشيعية بزعامة رجل الدين موسى الصدر قبل حرب السنتين (1975-1976) وبعدها. وللمرة الأولى وحّدت هذه الحركة القاعدية الجماهيرية الفضفاضة، الحساسيةَ الشيعية من الجنوب إلى البقاع مرورا بالضاحية الجنوبية، وضمت نخبا شيعية جديدة، وبدأت في تهميش زعامة آل الأسعد الإقطاعية والعشائرية القديمة في الجنوب، وكذلك تهميش زعامة صبري حمادي العشائرية في البقاع.
أما "حزب الله" فولد لاحقًا- برؤيته الخلاصية الأخروية- من ركام التهجير وحطام التذرر الاجتماعي الشيعيين في ضاحية بيروت الجنوبية. وذلك بعد الحرب الإسرائيلية على لبنان صيف 1982، وترحيل ياسر عرفات ومقاتلي "منظمة التحرير الفلسطينية" من بيروت.
عاصفة التهجير الشيعي الشامل
وقد يصلح التأريخ المشهود والعاصف لموجة من التهجير الشيعي الشامل اليوم، بواقعة اغتيال الطيران الحربي الإسرائيلي أمين عام "حزب الله" ومجموعة من قادته في مقر قيادته المركزي في "مربعه الأمني" بحارة حريك. وذلك في 27 سبتمبر/أيلول المنصرم، المسبوق بغارات جوية كثيفة على مواقعه العسكرية وعلى بلدات وقرى جنوب الليطاني، والمتبوع بغارات مماثلة على مناطق بعلبك- الهرمل البقاعية، وعلى ضاحية بيروت الجنوبية.