عالقون بين حربين... الخطر المحدق بعودة اللاجئين السوريين من لبنان

مع ازدحام مراكز الإيواء، لم يُترك أمام الناس أي خيار سوى النوم في الشوارع

 رويترز
رويترز
سوريون عند الحدود السورية – اللبنانية في جديدة يبوس في 7 اكتوبر

عالقون بين حربين... الخطر المحدق بعودة اللاجئين السوريين من لبنان

مع تصاعد الهجوم العسكري الإسرائيلي على لبنان، يفر مئات الآلاف من المدنيين من منازلهم، ما أحال المناطق النابضة بالحياة مدنَ أشباح. وفي غضون أسبوع واحد فقط، قدرت السلطات اللبنانية نزوح قرابة 1.2 مليون شخص- في أقسى أزمة نزوح شهدتها البلاد منذ عقود. وفي حين أن غالبية الفارين لبنانيون، فقد وجد لاجئون سوريون في المناطق المتضررة أنفسهم مجبرين أيضا على البحث عن الأمان في أماكن أخرى.

على مدى أكثر من عقد، اختار 1.5 مليون سوري البقاء في لبنان، ورزحوا تحت ضغط الصعوبات الاقتصادية والعداء المتزايد، حَذَرَ الأذى الذي قد يواجهونه إذا عادوا إلى سوريا. أما الآن، ومع تزايد المشقات وضآلة الدعم، يواجه الكثير من اللاجئين خيارين يلفهما القدر نفسه من المخاطر: البقاء والتعرض لأهوال الحرب مرة ثانية في لبنان، أو العودة إلى سوريا ومواجهة التهديدات التي دفعتهم إلى الفرار في المقام الأول.

وتشير تقديرات السلطات اللبنانية ووكالات الأمم المتحدة إلى أن ما بين 130 ألفا و250 ألفا عبروا الحدود إلى سوريا حتى الثالث من أكتوبر/تشرين الأول، ويعتقد أن غالبيتهم العظمى من السوريين. وفي غياب بدائل أفضل، ينبغي التدقيق بإحكام في استعداد النظام السوري لقبول اللاجئين العائدين الذي أعلن عنه مؤخرا. ولا بد من إنشاء آليات مستقلة وشفافة لضمان سلامتهم عند عودتهم. ففي ظل انعدام مثل هذه الضمانات، يمكن أن تكون المخاطر التي يواجهونها كارثية.

نزوح غير مسبوق

يشهد لبنان حجما وسرعة في النزوح لم يسبق لهما مثيل. ففي ما يزيد قليلا على أسبوع، كان عدد الأشخاص الذين اضطروا للفرار من ديارهم أكبر بكثير من أولئك الذين نزحوا أثناء الصراع بين لبنان وإسرائيل في عام 2006 بأكمله. ومن المتوقع أن يرتفع العدد الحالي– ما يزيد على 1.2 مليون شخص، يمثلون أكثر من 20 في المئة من سكان لبنان– مع اشتداد هجمات القوات الإسرائيلية وتوسيعها وإصدار أوامر جديدة لإعادة التوطين.

ولئن تمكن بعض اللبنانيين من إيجاد حل مؤقت بأنفسهم، فإن ما يزيد على 155 ألف نازح يقيمون حاليا في 851 مركز إيواء مؤقت، ومن بينها المدارس العامة. بيد أن تلك المرافق، التي جرى تحويلها على عجل لاستيعاب هذا التدفق المفاجئ، تعاني من نقص حاد في التجهيزات، وتفتقر إلى الخدمات الأساسية مثل الحمامات والصرف الصحي المناسب والماء الساخن ووسائل التدفئة. ومع ازدحام الكثير من مراكز الإيواء بما يفوق قدرتها الاستيعابية بالفعل، لم يُترك أمام عدد لا يحصى من الناس أي خيار سوى النوم في الشوارع أو على الشواطئ العامة أو في سياراتهم.

 أ ف ب
سوريون يعودون من لبنان الى ديارهم في ادلب بعد رحلة استمرت خمسة ايام في 4 اكتوبر

والضغوط الهائلة التي تواجهها مراكز الإيواء هذه- والتي تتفاقم بسبب محدودية الموارد، وقلة الاستعداد، والمخاوف من صراع طويل الأمد- تجبر النازحين على مواجهة خيارين أحلاهما مر. فإما أن يتحملوا الظروف المتدهورة في لبنان وإما أن يخاطروا بعبور الحدود إلى سوريا بحثا عن ظروف قد تكون أفضل، كمن يزج بنفسه في المجهول. وعلى الرغم من ارتفاع عدد الذين يغادرون لبنان، يبدو أن معظم النازحين اللبنانيين مصممون على البقاء في بلدهم، حتى في ظل الصعوبات المتزايدة.

الإقصاء من المساعدات الحيوية

بالنسبة لمعظم السوريين الذين يعيشون في لبنان والبالغ عددهم 1.5 مليون سوري، يبقى خيار العودة إلى سوريا خطيرا. ومع ذلك، فإن البقاء في لبنان يفرض تحدياته الخطيرة أيضا، خصوصا في خضم الأزمة الحالية. حيث جاءت الموجة الأخيرة من النزوح في وقت أصبح فيه السوريون في لبنان معرضين للخطر بالفعل، في ظل عمليات الترحيل التعسفية المتزايدة التي يواجهونها، والإخلاء، والعنف الذي تقابلهم به الجماعات الأهلية على مدى السنوات القليلة المنصرمة. واليوم يواجه السوريون النازحون حديثا صعوبات أكبر، حيث أفاد كثيرون منهم بأنهم طُردوا من الملاجئ أو مُنعوا من دخول مؤسسات حكومية بأكملها مثل البلديات.

إما أن يتحمل النازحون الظروف المتدهورة في لبنان وإما أن يخاطروا بعبور الحدود إلى سوريا بحثا عن ظروف قد تكون أفضل، كمن يزج بنفسه في المجهول

وفي حين قدم بعض المواطنين اللبنانيين والمنظمات غير الحكومية المحلية المساعدة، فقد أفادت التقارير بأن مراكز إيواء كثيرة رفضت السماح للسوريين بالدخول، ما حولها إلى أماكن "خاصة باللبنانيين" فعليا. وعلى نحو مماثل، قامت البلديات- لاسيما في سهل البقاع– بتحذير السوريين في بعض المخيمات من استضافة الأصدقاء والأقارب الذين نزحوا حديثا، وهددت بإخلائهم الفوري في حال عدم الامتثال. وفي بعض الحالات، طرد أصحاب المساكن اللاجئين السوريين لإفساح المجال للأسر اللبنانية النازحة.
حتى قبل هذه الأزمة الأخيرة، كان تسعة من بين كل عشرة لاجئين سوريين في لبنان يعيشون في فقر مدقع، ويعتمدون على المساعدات الإنسانية إلى حد بعيد. فعلى سبيل المثال أدى ارتفاع أسعار الإيجار، المدفوع بارتفاع الطلب، إلى جعل تأمين السكن أمرا شبه مستحيل لمعظم أسر اللاجئين. وحذرت منظمات حقوق الإنسان في الآونة الأخيرة من أن حرمان السوريين من الوصول إلى مراكز الإيواء والحصول على المساعدات يترك عشرات الآلاف دون بدائل واقعية. وفي محاولة يائسة للتعامل مع هذا الوضع المزري، كانت هناك دعوات عاجلة "لرفع حواجز التمييز" والسماح للسوريين بالوصول إلى مراكز الإيواء. لكن هذه النداءات فشلت فشلا ذريعا، الأمر الذي لم يترك لكثير من اللاجئين السوريين أي خيار سوى العودة إلى ديارهم، ليواجهوا أسوأ مخاوفهم أملا في توفير الأمان لأسرهم.

تسهيل الدخول إلى سوريا

وفي استجابته لمعالجة التدفق المتزايد للاجئين اللبنانيين الفارين إلى سوريا، سارع النظام السوري إلى تسليط الضوء على جهوده التي تهدف إلى تبسيط عملية الدخول. ومن بين التدابير الرئيسة التي اتُخذت توجيه العاملين في إدارة الهجرة لقبول أي شكل من أشكال الهوية الرسمية كوثائق صالحة للمواطنين اللبنانيين الذين يدخلون سوريا. كما سمح النظام لوكالات الأمم المتحدة والمنظمات الإنسانية بالعمل عند المنطقة الحدودية، وتقديم المساعدات للمواطنين اللبنانيين الذين يعبرون إلى سوريا.
بيد أن العائدين السوريين لم يحظوا بالقدر نفسه من التساهل. فإلى جانب الصعوبات المالية الشديدة التي يرزحون تحتها، يتوجب على كل مواطن سوري بالغ عائد إلى البلاد أن يصرف 100 دولار على الحدود بسعر أقل من سعر الصرف في السوق السوداء. هذه السياسة، المعدة لزيادة احتياطي النظام من العملة الصعبة، تركت كثيرا من اللاجئين السوريين عالقين على الحدود، غير قادرين على الدخول لأنهم لا يملكون المبلغ المطلوب. لكن وبعد انتقادات واسعة النطاق، أعلن النظام تعليقا مؤقتا لهذا الشرط لمدة أسبوع للمواطنين السوريين في 29 سبتمبر/أيلول الماضي.
وقد رافق هذا التعليق لشرط صرف المئة دولار تغطية إعلامية واسعة لجهود النظام في تسهيل دخول المواطنين اللبنانيين والسوريين العائدين. ووفقا للأرقام الرسمية، عبر نحو 240 ألف شخص الحدود من لبنان إلى سوريا حتى الثالث من أكتوبر/تشرين الأول، بينهم حوالي 64 ألف مواطن لبناني.
كما أكد النظام استعداده للتعاون مع مختلف المبادرات الرامية إلى دعم العائدين. ويتكهن المحللون بأن قرار التعليق المؤقت للشرط المالي قد يرجع إلى أمل النظام في أن السماح للسوريين بالعودة بأعداد أكبر قد يفضي إلى جذب المزيد من المساعدات المالية، وعلى وجه التحديد من قبل الدول العربية التي كانت تضغط على سوريا لتسهيل عودة اللاجئين.

استمرار المخاطر التي تهدد اللاجئين العائدين 

على الرغم من أن تعليق النظام المؤقت لشرط صرف المئة دولار ربما أزال عقبة واحدة، فثمة مخاطر جمة تلوح في أفق أولئك العائدين إلى سوريا. حتى الآن كان معظم العائدين من النساء والأطفال، بينما اختار كثير من الرجال البقاء في لبنان بسبب المخاطر المحتملة التي قد يواجهونها عند العودة. وفي المقابل لجأ بعض الرجال إلى استخدام طرق تهريب لدخول سوريا من جديد، آملين أن لا تكتشف قوات الأمن السورية أمرهم.

تنبع الرهبة بين السوريين بسبب الانتهاكات المعروفة جيدا التي ارتكبتها أجهزة الأمن السورية بما فيها الاعتقال التعسفي والاختطاف والتعذيب بل وحتى القتل

تنبع هذه الرهبة بين الرجال السوريين بسبب الانتهاكات المعروفة جيدا  التي ارتكبتها أجهزة الأمن السورية بما فيها الاعتقال التعسفي والاختطاف والتعذيب بل وحتى القتل. ولا تزال هذه الانتهاكات، التي وثقتها "هيومان رايتس ووتش" بشكل واسع، تشكل تهديدا خطيرا لمن يفكرون في العودة.
وبالرغم من الجهود التي يبذلها النظام بشكل كبير لتسهيل عودة اللاجئين، تبقى هذه المخاوف الأمنية حقيقية للغاية. فقد وثقت منظمات سورية محلية مؤخرا اعتقال ما لا يقل عن تسعة لاجئين سوريين، معظمهم من ريف دمشق، بتهم تتعلق بالتخلف عن "الخدمة العسكرية الإلزامية والاحتياط". ويدل هذا بشكل قوي على أن خطر الاعتقال التعسفي ما زال يخيم على السوريين العائدين من لبنان، ما يلقي بظلال من الارتياب حول سلامة عودتهم.
ونظرا لأن عددا كبيرا من اللاجئين السوريين في لبنان يرون في العودة إلى سوريا مقامرة هم على استعداد لخوضها وإن مع كثير من التردد والحذر كي يضمنوا سلامة عائلاتهم، ينبغي اختبار التزام النظام المعلن بتسهيل عودتهم بشكل صارم. وحتى لا يواجه اللاجئون أسوأ مخاوفهم بمفردهم، لا بد من إنشاء آليات قوية ومستقلة لمراقبة عودتهم وضمان حمايتهم، وهو ما يمثل أهمية قصوى. وفي غياب مثل هذه الضمانات، تبقى مخاطر عودة اللاجئين كبيرة، ولا يمكن صرف النظر عن احتمال تعرضهم لمزيد من الاضطهاد. ويتحتم على المجتمع الدولي أن يظل يقظا، فيحمّلَ الحكومة السورية مسؤولية سلامة العائدين وصون حقوقهم.

font change

مقالات ذات صلة