يعرف خالد مشعل ولا ريب، الفرق بين "الخسائر التكتيكية" وتلك الاستراتيجية. ولا يغيب عن بال نعيم قاسم أن تشريد أكثر من مليون لبناني وتدمير قسم كبير من قرى البقاع والجنوب والضاحية، إضافة إلى آلاف الضحايا والجرحى، ليس ثمنا يسهل دفعه مقابل "الصمود".
هذه النبرة الظافرة، في خطابي الرجلين المحتفلين بالذكرى الأولى لـ"طوفان الأقصى" تتردد في أقوال متحدثين وصحافيين ومؤثرين على وسائل التواصل، حيث يمجدون الإنجازات والانتصارات المتعاقبة منذ اقتحم مسلحو "حماس" الشريط الفاصل بين قطاع غزة وإسرائيل ومنذ أن قرر "حزب الله" مساندة "حماس" في طوفانها. ولا يندر أن يلوح "خبير" من هذه الشاشة أو "كاتب" من تلك بمحاسبة خصوم "الحزب" والحركة عندما يهدأ دوي المدافع.
لا معنى هنا للتذكير بعدد المدنيين الذين يسقطون جراء هذه المغامرة ولا بعدد النازحين والمشردين وحجم الدمار الخرافي في غزة ولبنان ومستوى الضيق من وضع إنساني ومعيشي لا ينفك يتدهور. هذا ناهيك عن انكسارات ميدانية لا تُنكر شملت وجودا عسكريا إسرائيليا في أكثر أجزاء قطاع غزة وعدد من المناطق اللبنانية واغتيال قيادات في الصف الأول من "محور المقاومة". مع العلم أن التهرب من المسؤولية عن أرواح المدنيين الفلسطينيين واللبنانيين، يخفي عجزا معيبا في فهم ماهية القضية التي يُطلب إلى الضحايا تقديم أرواحهم ثمنا لها.
وإذا كان شُح المعنى في كلام مشعل وأترابه يظهر شيئا ما، فهو ليس الانفصام عن الواقع أو استصغار حجم المعاناة والكارثة الإنسانية فحسب، بل خصوصا غياب القدرة على التعامل مع نُذر الهزيمة السياسية والعسكرية لرؤية موقع ودور ومهمات تمتد من طهران إلى البحر المتوسط. يُفهم من كلام مشعل وقاسم أن الأمور على ما يرام، بالنسبة لتنظيميهما وأنها ستعود إلى ما كانت عليه فور التوصل إلى وقف إطلاق النار الذي ترفضه الحكومة الإسرائيلية لأسباب تتعلق بالعناد وعدم اعترافها بهزيمتها.
الأمر غير ذلك. فردود الفعل العنيفة والانفعالية التي تظهر على وسائل التواصل وفي المقابلات الصحافية مع مسؤولي "حماس" و"حزب الله" المتحدثين الرسميين وغير الرسميين باسم السلطات الإيرانية والإجابات القاسية على أسئلة تبدو بديهية من نوع "ما هي خطوتكم المقبلة؟"، بعد التراجعات الفادحة التي دُفع إليها "المحور"، تخبئ وراء الغضب من السائل، الافتقار إلى الإجابة المقنعة.
ما قاله المرشد الإيراني علي خامنئي في خطبة الجمعة الأخيرة وكرره وزير الخارجية عباس عراقجي في بيروت وأعاده نعيم قاسم عن ضرورة الصمود، يقفز فوق الحقيقة القائلة إن الصمود على أرض تهتز ليس سياسة، بل محاولة نجاة. وإن المبادرة لم تعد في يد "المحور" الذي يرفض الاعتراف بهول الخطأ الذي اقترفه في السابع من أكتوبر/تشرين الأول فاتحا على نفسه وعلى شعوب المنطقة "صندوق باندورا" الإسرائيلي الذي بدا وكأنه كان في انتظار هذه الفرصة ليغير كل المعطى الاستراتيجي في الشرق الأوسط.
وإذا رغبنا في البقاء بالإطار اللبناني، فإن التشفي من "حزب الله" والشماتة به وبخسائره البشرية والمادية وباختراقه من قبل المخابرات الإسرائيلية، لن يصنعا المادة اللازمة لإعادة بناء المجتمع قبل الدولة. لا ينبغي إغفال أن اللبنانيين منقسمون حول أسس الاجتماع قبل مؤسسات الدولة وأن الخلافات التي بدأت تطل برأسها بين النازحين وسكان المدن والقرى التي يلجأ إليها أهالي الجنوب والضاحية، قابلة للتحول إلى اقتتال أهلي بأسرع مما يتوقع الكثيرون وأن غنائيات "الالتفاف حول المقاومة"، و"التضامن الإنساني"، هزيلة الجذور وستتطاير في الهواء مع أول اختبار جدي.
لا ينبغي إغفال أن اللبنانيين منقسمون حول أسس الاجتماع قبل مؤسسات الدولة
يضاف إلى ذلك أن الطبقة السياسية اللبنانية فاسدة إلى الحد الذي لا يمكن عقد أي أمل ولو بسيط عليها، فيما يحول قصر نظرها وشهيتها المفتوحة إلى السلطة وغنائمها، دون قدرة أطرافها على تقديم المصلحة العامة للبنان واللبنانيين على المكاسب الصغيرة التي يمكن أن يجنيها هؤلاء الأشخاص.
انتخاب رئيس جديد للجمهورية وتشكيل حكومة تتولى إعادة الإعمار وتكليف الجيش اللبناني بالانتشار في الجنوب، تبدو شعارات مستلة من حلم بعيد المنال وليس من الواقع السياسي الراهن، حيث لم تظهر على أي جماعة سياسية أو طائفية الرغبة في التقدم خطوة باتجاه تجاوز ضغائن وكراهيات الأعوام الماضية. بل الأرجح أن الحرب، سيان انتصر فيها "حزب الله" أو أخرج من المشهد السياسي، ستكون مقدمة لسنوات من الاضطراب والعنف الأهلي ما لم يكتشف العالم وظيفة جديدة للبنان الذي تتراجع قيمته وقيمة حياة أبنائه كل يوم.