"جوكر" الجزء الثاني... هل يكفي كمرثية للحلم الثوري؟

فيلم تصعب قراءته بعيدا من السياسة

Warner Bros
Warner Bros
واكيم فينيكس في "جوكر: معا في الجنون".

"جوكر" الجزء الثاني... هل يكفي كمرثية للحلم الثوري؟

جاء الجزء الأول من "جوكر" 2019 في منطقة وسطى بين الفيلم الفني والفيلم الجماهيري، حين تناول بحساسية فنية، لا بتقريرية مباشرة، موضوعات مثل التنمر والاغتراب والمرض النفسي إذ يمثل العلامة الوحيدة على الصحة النفسية في مجتمع مدينة غوثام السوداوي، والمختصِر بدوره مجتمعات الرأسمالية المتسلطة، وصعود هيمنة الأفكار اليمينة المتطرفة. ومع ذلك، قدّم صُنّاع الفيلم كل المسوغات لسلوك آرثر فليك الذي يصنّف قانونا بالإجرامي، كما استفاضوا في تشريح عذابات طفولته، وألحقوها بتفسيراتهم الحدية، التي لا تُتعب أذهان الجماهير كثيرا، وتترك لهم دائما مفاتيح اللغز في كل مكان، حتى لا يعود لغزا تقريبا.

لعب العنوان الذي كان مخاتلا للمرة الأولى آنذاك، على التذكير بشخصية "جوكر" عدو "باتمان" اللدود، وأباح الفيلم بشكل ما أن يتحوّل شخص مفرِط الطيبة إلى قاتل منتقِم، أي إلى عدو للأخلاق الظاهرية المتفق عليها.

بدا أعداء "جوكر" أو ضحاياه، أعداء طبيعيين للإنسانية البريئة، فالشبان الثلاثة الذين بدأ بهم جوكر سلسلة جرائمه، مارسوا استعلاء غير عادل، على الآخرين، بحكم انتماءاتهم الطبقية وتعليمهم، واستفادوا من أوضاع أهلهم في سلّم السلطة، لتبييض وجوههم حتى بعدما أمسوا مجرد جثث. في المقابل، لعب آرثر فليك، الذي سيصير "جوكر"، دور روبن هود ما، يحرِك الجماهير بلا إرادة، يمسي أيقونيا في أعين الطبقات الدنيا، الضحايا الرمزيين لطبقة الثلاثة شبان البيض المتعلمين. وباختصار، حقق جوكر عدالة مؤقتة وربما متطرفة، سرعان ما اتضح أنها أيضا سريعة الزوال.

سوداوية

بالطبع، لا يمكن لأحد أن يشجع على القتل، لكن في النهاية ألا يطحن العالم بعضه بعضا ويضحّي ببساطة بساكنيه أمام أعيننا؟ تود فيليبس، مخرج الفيلم، وكاتبه بالاشتراك مع سكوت سيلفر، اعترف بتأثره بأعمال مارتن سكورسيزي لا سيما "سائق التاكسي" 1976. إنها السوداوية نفسها: صعوبة العثور على الحب، والشعور المتواصل بالخيبة والضآلة والخديعة، واستحالة الاندماج. لكنه يبدو الآن في الجزء الثاني، أكثر حساسية تجاه نتائج الفوضى التي أطلقها آرثر فليك في نهاية الفيلم الأول، وتجاه الثورة المضادة التي قادتها الطبقات الأكثر ثراء، والمالكة للسلطة، فهي أيضا التي ستنكّل بجوكر، لا فقط لأنه جوكر الرمز، لكن مجددا لأنه الشخص البسيط الأعزل وسط مجتمع شرس، المسكين بمستوى الذكاء المحدود، والحالم مع ذلك، وأحلامه تلك التي تعبر من أفلام السينما الهوليوودية وأغانيها، لا تشفع له في الهرب من قبضة الواقع العالمي الحالي.

لا يمكن لأحد أن يشجّع على القتل، لكن في النهاية ألا يطحن العالم بعضه بعضا ويضحّي ببساطة بساكنيه أمام أعيننا؟

ومع كل ذلك التفسير السياسي لفيلم، من الصعب قراءته بعيدا من السياسة، لا يزال "جوكر" يدور، خصوصا هنا في الجزء الثاني، حول شخص آرثر فليك، الذي خضع في البداية لقسوة لا متناهية، ثم اكتسب في لحظة عفوية القدرة على إعادة توجيه هذه القسوة إلى الخارج. إنها تبقى لحظة فائتة، وعليه أن يدفع ثمنها. لا هو فقط، ربما علينا نحن أيضا أن ندفع معه الثمن، ربما لأننا صدقناه أو لأننا حلمنا معه.

ولئن كان يمكن النظر إلى "جوكر" كحلم المهزومين، وكابوس للمُنتصرين، فإن عالم "جوكر" الثاني يدور حصرا في ارتداد الكابوس مجددا في وجه المهزومين. حتى بناء الفيلم الذي يتشكل من فاصل كارتوني طويل إلى حد ما في البداية، ثم حلم غنائي يؤديه بالتناوب واكيم فينيكس وليدي غاغا، تُستظهر سوداويته بالتدريج، إلى أن يتاخم الجحيم، ويتحول إلى تجربة صادمة ومؤذية لمشاهديه.

Warner Bros
ليدي غاغا وواكيم فينيكس في "جوكر: معا في الجنون".

ما الذي أصاب الحلم إذن، ولمَ يُمارس تود فيليبس كل هذه القسوة على آرثر فليك، وعلينا بالتالي كمشاهدين؟

يطرح "جوكر" من ضمن ما يطرح، الكثير من الأسئلة حول تصوراتنا عن السينما، عن الفن. وهي تصورات شخصية مهما بدت عموميتها في النهاية. يمكن لكلٍ منّا أن يقدم مفهومه الخاص عمّا ينبغي أن تكون عليه السينما، وأن يجيب بناء على تجاربه الشخصية ومشاهداته السابقة عن سؤال: هل على السينما أن تنقل الواقع بفوضويته وتقشفه إلى الشاشة كما هو؟ أم عليها، كما دأبت، أن تمتص صدماتنا، وتلهمنا أحلامنا؟ "جوكر" في الجزء الثاني، يصنف كفيلم غنائي سيكولوجي (حتى إن عنوان "معا في الجنون" أو "الجنون لاثنين" يأتي هنا مكتوبا بالفرنسية Folie à deux مما يصبغ الفيلم برومنسية ما) وكانت عادة الأفلام الغنائية أن تعيننا على الحياة. إنها حتى تعين آرثر فليك نفسه، وتعزيه في عذابه بسجن مستشفى الأمراض العقلية بينما ينتظر محاكمته. غير أن تود فيليبس يجعل من أغنيات الفيلم واستذكاراته للأناشيد العاطفية الشهيرة والمحبة للحياة، ذكرى سيئة للمستمعين والمتفرجين بعد مشاهدة الفيلم، بلا أدنى شك.

 تود فيليبس يجعل من أغنيات الفيلم واستذكاراته للأناشيد العاطفية الشهيرة والمحبة للحياة، ذكرى سيئة للمستمعين والمتفرجين بعد مشاهدة الفيلم

رؤى الخراب

الأكيد أن السينمائيين الأذكياء لا يمكنهم أن ينفصلوا عن أزمنتهم، وأن عليهم أن يقولوا هم أيضا كلمتهم في أحوالنا المعاصرة. ومن الجزء الثاني، يمكن استخلاص أن رؤية تود فيليبس ليست مستبشرة كثيرا بزماننا، كما أنه غير قادر على تجاهل الخراب الذي حلّ علينا، بل إن مشهد تفجير قاعة محاكمة آرثر فليك، وهو يرتدي ثياب جوكر، من الصعب ألا تذكرنا بما نشهده يوميا على شاشات التلفزيون من ويلات الحروب بالوكالة والتفجيرات الساحقة وضياع المدن التي كانت يوما جميلة.

Warner Bros
واكيم فينيكس في "جوكر: معا في الجنون".

ومع الاعتراف بمنطقية هذه الرؤية التي يقدمها تود فيليبس في الجزء الثاني وواقعية فلسفته، فإن السؤال الذي يصعب تماما تجاهله أثناء مشاهدة الفيلم، بالأخص في النصف ساعة الأخيرة، حين تصير تجربة المشاهدة من أثقل ما يمكن على المتفرج: هو لماذا؟ لماذا قرر صُنّاع القصة تقديم فيلم ثان منها أصلا؟ وسوى الإجابة الجاهزة بالنجاح التجاري المتوقع لعمل تعدت إيرادات جزءه الأول المليار دولار، فإن من الصعب رؤية الجزء الثاني خارج نطاق محاولة التكفير والتنصّل. ها هو آرثر فليك، يُحاسَب بضراوة، على جرائمه دفعة واحدة، وها هو مسلوب الإرادة، عاجز حتى عن الدفاع عن نفسه، على الرغم من أنه يزعم لنفسه هذه القدرة. وها نحن طرفا صامتا ومستلَبا في المحاكمة.

"جوكر" في جزءيه يبقى تجربة مهمة، وستبقى بحلمها وانكسارها علامة سينمائية خاصة ومعبرة عن أيامنا

ثمة لحظات ممتعة بلا شك، في هذا الجزء وأداءات متألقة لا سيما لواكيم فينيكس الذي لعب مع ريدلي سكوت دور نابوليون بكل عظمته وغطرسته، ثم عاد هنا يبث الروح في جسد آرثر فليك الهزيل وشبه المحتضر. ليدي غاغا لافتة أيضا في شخصية لي، وهي تُرينا نبل الجنون، مقارنة بتلاعب العقلانية، وقد كانت في شرّها أكثر طهرا من خيرها المتنكر. بريندن غليسون لا يُنسى في الدور المزدوج لضابط يحب آرثر فليك في أحيان، وينتهكه في أحيان أخرى. للجميع هنا وجهان، وآلاف الظلال، وربما يبدو آرثر فليك نفسه وسط هذه العصابة، أو "جوكر" مقارنة بهم كلهم، أكثر اتساقا وتحديدا وأقل مراوغة بكثير، على الرغم من أنه لا يعدم بالطبع هذه الصفة الأخيرة بالذات.

لا يمكن الاستغناء عن مشاهدة "معا في الجنون" والاكتفاء فقط بالجزء الأول، بدعوى تجنيب النفس عذاب الفرجة وعنفها. نعم، ثمة الكثير من مشاهد عنف الشرطة، وهي تفوق الاحتمال في غالب الأوقات. غير أن "جوكر" في جزءيه يبقى تجربة مهمة، وستبقى بحلمها وانكسارها علامة سينمائية خاصة ومعبرة عن أيامنا.  

font change

مقالات ذات صلة