هي صورة ليست كالصور.
يُقال إنها التُقطتْ قبل أيام. لكن من يبصرها محدِّقا فيها، سرعان ما تكرُّ في ذاكرته المجهدة شبه المبنّجة متاهةٌ فوضوية من صور وأجزاء صور. كالتي تتراءى في المنامات أو في هنيهات أحلام اليقظة، وتطلع فجأة وسريعا من ماضٍ سحيق ابتعد سنوات واندثر في أيام قليلة، كأنما بلا ذكرى ولا أثر.
وهي صورة هيهات أن تستوقف أحدا. وإن استوقفته، هيهات أن تعنيه في شيء. أو تذكّره بشيء، في هذه الأوقات المصفّحة بالأنين أو بالعنين المعدنيّ المحوّم في سماء لبنان المعدنية، من أمسٍ كأنما من سنين كثيرة.
وهي صورة من تلك التي كانت تثير تندُّرَ اللبنانيين. حينما كان سياسيّوهم وزعماؤهم يتزاورون في ذلك الزمن البلدي البعيد. فتُلتقط لهم الصور فور خروجهم من لقاءاتهم، ويقولون تلك الكلمات القديمة التي لا تقول شيئا. وبعضهم كان يبتسم مضيفا كلمتين عما يدور في تلك اللقاءات. كلمتان من ذاك القاموس الفولكلوري الطالع من مسرحيات الأخوين رحباني الفيروزية: "المجالس بالأمانات".
أما الصحافيون فكانوا يسمون الزعماء بأسماء كرسي أو عرين زعامة كل منهم، فيقولون: عين التينة، قريطم، حارة حريك، المختارة، الرابية، معراب... إلخ.
نعم، لقد انطوى أو انبتر منذ زمن بعيد ذاك القاموس وصوره. طواه أو بتره هذا الأنين أو العنين المعدني المحوّم في سماء لبنان القصديرية. عنين كالأنين، كالهُجاس، كالمرض، وبدأ يسري من أمس، لكن كأنما من دهر انغرس في الأجسام قبل الأسماع انغراسا معدنيا صامتا أصمّ، وشلّ الذاكرة والذهن والروح.
الصورة وزمنها وكلماتها
في الواقع المادي التقريري، التقطت الصورة على مدخل كرسيّ عين التينة في بيروت. والكرسي هو مقرّ رئيس مجلس النواب المعطل والخاوي منذ زمن سحيق، دولة الرئيس نبيه بري. وقد جاء لزيارته ومجالسته في مقره أو عرينه السيد أو الأستاذ نجيب ميقاتي، رئيس حكومة تصريف أعمال البطالة والإفلاس والخواء منذ سنوات منسية، تاركا كرسي عرينه في السرايا الحكومية، وإلى جانبه زعيم المختارة، النائب السابق وليد جنبلاط، الممتلئ منذ زمن ليس بقريب قنوطا وضجرا ويأسا. وتاريخ التقاط الصورة هو 2 أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
لكن ذلك الأنين المعدني المحوّم في السماء جعلها كأنما حدثت خارج الزمن، ما وراء الزمن. كالتصريح الذي أدلى به الرئيس ميقاتي حين التقاطها، مرددا أصداء كلمات طالعة من الفراغ والعدم: الدولة اللبنانية. الأراضي اللبنانية. الجمهورية اللبنانية. بسط سلطة الدولة. القرار الدولي 1559. جنوب الليطاني. الجنوب. الجيش اللبناني. انتخاب رئيس جمهورية... إلخ.
وربما كان ينقص الثلاثة أن تقف إلى جانبهم شخصية رابعة وخامسة ويمكن إضافة سادسة... وعاشرة: مثلا، الجنرال ورئيس الجمهورية الأسبق وحطامها، ميشال عون، آتيا من كرسي تقاعده في عرينه بالرابية. أو فتاهُ الأغر، الذرب اللسان، المهذار، السيد النائب (رحم الله صدام حسين) جبران باسيل.