‏"غرف الطوارئ" السودانية... أسباب تُرجح فوزها بجائزة نوبل للسلام

الحفاظ على الحياد السياسي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه

أ.ف.ب
أ.ف.ب
نازحون سودانيون يقفون في طابور للحصول على المياه في مخيم بمدينة القضارف شرق السودان، 23 سبتمبر 2024

‏"غرف الطوارئ" السودانية... أسباب تُرجح فوزها بجائزة نوبل للسلام

يوم الخميس 3 أكتوبر/تشرين الأول 2024 أعلن مركز أوسلو لأبحاث السلام عن قائمة ترشيحاته المحدثة التي تم اعتمادها لجائزة نوبل للسلام لهذا العام والتي يتم إعلان الفائز بها في 11 أكتوبر من كل عامقبل تقديم الجائزة في ديسمبر/كانون الأول. تضمنت قائمة المرشحين "غرف الطوارئ" السودانية لجائزة نوبل السلام، بالإضافة إلى مكتب المؤسسة الديمقراطية وحقوق الإنسان التابع لمنظمة الأمن والتعاون في أوروبا، ووكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) بالشراكة مع مديرها فيليب لازاريني، ومحكمة العدل الدولية، واليونسكو بالشراكة مع مجلس أوروبا.

عندما اندلعت شرارة الحرب في السودان في منتصف أبريل 2023، برزت "غرف الطوارئ" كمنارة أمل وسط الظلمات الدامسة لتحمل عبء أكبر كارثة إنسانية معاصرة فوق كاهلها، ببسالة وشجاعة منقطعتي النظير، تحملت هذه "الغرف" على عاتقها عبئا جسيما، فكانت درعا واقيا للمدنيين الأبرياء، ومنبعا للحياة في خضم الموت عندما تراجعت المنظمات الدولية وانسحبت هيئات الأمم المتحدة من مناطق النزاع. وقفت "غرف الطوارئ" شامخة، تتصدى لعواصف الحرب بلا هوادة، وسطعت كنجوم مضيئة، من بين ظلمات الحرب لتثبت للعالم أن الإنسانية لا تموت، وأن روح التضامن لا تنطفئ مهما اشتدت الظروف وأن إرادة الشعوب لا تنكسر مهما تكاثرت عليها الخطوب.

‏لقد حملت هذه "الغرف"- التي تتكون بالأساس من متطوعين شباب قاموا على خدمة أهليهم في الأحياء السكنية المختلفة- هموم المدنيين المحاصرين في مناطق الصراع منذ اللحظة الأولى، كما أطلس وهو يحمل الأرض فوق كاهليه دون أن يئن أو يشتكي.

هذه "الغرف" التي تتكون بالأساس من متطوعين شباب قاموا على خدمة أهليهم في الأحياء السكنية المختلفة، حملت هموم المدنيين المحاصرين في مناطق الصراع منذ اللحظة الأولى

لم يلتفت شباب "غرف الطوارئ" إلى المبررات الشكلانية التي قدمتها منظمات الإغاثة الدولية لتبرير عجزها أو بالأصح قصورها عن تقديم الإغاثة، ولم ترهبهم أصوات الرصاصات والمدافع ولا وحشية الأطراف المتقاتلة، ولم يقعدهم عجز الموارد ولا ضعف الإمكانيات، بل قاموا إلى ابتداع طرق مبتكرة لخدمة شعبهم وأهليهم وحمايتهم من غوائل الحرب.

فقاموا ومنذ الأيام الأولى بإجلاء المواطنين المحاصرين في المناطق الملتهبة- بل وحتى إجلاء بعض الدبلوماسيين الأجانب الذين حاصرتهم الحرب التي اندلعت في قلب العاصمة إلى مناطق آمنة- ثم انصرفوا إلى إنشاء المطابخ الجماعية والتي تولت إطعام الأسر في الأحياء التي تقطعت بها السبل وانقطعت موارد عيشها، وتولوا إيصال الأدوية والمستلزمات الطبية إلى أصحاب الأمراض المزمنة، وكل ذلك بحسب ما يتوفر لهم من موارد، ابتدعوا وابتكروا كل السبل في توفيرها، ودون أن ينتظروا أجرا ولا ثناء ولا شكورا من أحد. لم تحركهم غير عاطفتهم الوطنية وانتمائهم لروح هذا الشعب السوداني العظيم، وبسالتهم التي فاقت كل حدود المعقول. 

الحياد السياسي

لم يلتفتوا إلى محاولات التسييس المستمر لعملهم، بل هدتهم فطرتهم السليمة إلى التركيز على مبادئ العمل الإنساني والحفاظ على الحياد السياسي، بغض النظر عن الطرف المسيطر على منطقة نشاطهم. وكان هيكلها اللامركزي الذي شكل استجابة مبدعة للسياق والظروف المحلية في كل منطقة، وبالإضافة إلى الفهم العميق للواقع المحلي من العوامل التي عززت فعاليتهم.

رويترز
أحد الشوارع المدمّرة في السودان بسبب الحرب الدائرة في البلاد

كما قاموا بتطوير آلية مرنة للتنسيق فيما بينهم بهدف زيادة التعاون والتنسيق في القضايا الكلية.إن هذه المنظومة المتكاملة للإغاثة والإيواء والإطعام والعلاج، والتي قامت بالأساس على الجهود التطوعية، هي التي أبقت جذوة الأمل في السلام واستمرار الحياة في السودان متقدة، حين نهضت- دونما انتظار لأحد- لسد فرقة الدولة، حين غابت الدولة. وعلىمدى أكثر من عام ونصف العام، كانت شبكات "غرف الطوارئ" هي المصدر الوحيد للمساعدات في عدد لا يحصى من زوايا السودان، بما في ذلك العاصمة المحاصرة الخرطوم.

استثمرت كثير من الجهات الدولية والإقليمية المحلية في مواجهة الكارثة الإنسانية التي حلت بالسودانيين، وحاولت الاستفادة منها، بل وحاولت بعض الجهات تغطية تورطها في صناعتها عبر الحديث المجاني عن المعاناة الإنسانية في السودان، إلا أن أفعالهم على الدوام لم ترقَ إلى مستوى كلماتهم. يتجلى هذا في عجز المانحين عن تغطية الميزانية التي قدرتها الأمم المتحدة للاحتياجات الإنسانية، حيث لم تتم تغطية سوى 50 في المئة منها في العام الماضي، ولا يزال العجز يقارب 60 في المئة هذا العام.

لم يلتفتوا إلى محاولات التسييس المستمر لعملهم، بل هدتهم فطرتهم السليمة إلى التركيز على مبادئ العمل الإنساني والحفاظ على الحياد السياسي بغض النظر عن الطرف المسيطر على منطقة نشاطهم

ومع ذلك، لم يلتفت متطوعو "غرف الطوارئ" إلى هذا العجز، بل إن ميزانية عملهم تبدو مذهلة عند مقارنتها بميزانيات عمل المنظمات الدولية، إذ يكفي مبلغ 16 دولارا أميركيا لتقديم وجبات غذائية متكاملة لأسرة مكونة من أربعة أفراد لمدة شهر كامل، في حين تبلغ ميزانية تقديم هذا العون نفسه بواسطة المنظمات الدولية حوالي 146 دولارا. وهو ما فتح نقاشا واسعا على المستوى الدولي حول فعالية مناهج العمل الإنساني وضرورة الاستفادة من دروس توطينه والتجارب الناجحة المبتكرة في التصدي للواقع المحلي.

وأورد هينريك أوردال، مدير معهد أوسلو لدراسات السلام، في سياق الحديث عن ترشيح "غرف الطوارئ" السودانية لجائزة نوبل للسلام: "بما أن عام 2024 يصادف الذكرى الخامسة والسبعين لاتفاقيات جنيف المنقحة، التي وضعت لحماية المدنيين أثناء الحرب، فإن منح جائزة السلام لهذا العام لمبادرة إنسانية تستحقها مثل (غرف الاستجابة للطوارئ) من شأنه أن يسلط الضوء على الأهمية الحاسمة للوصول إلى المساعدات المنقذة للحياة في أوقات الصراع".

ولكن هذا الترشيح وبالرغم من أنه يمثل اعترافا عالميا بالدور الأسطوري الذي لعبته شبكات "غرف الطوارئ" في خضم الحرب السودانية، فإنه خطوة أولى. فبعد اختيار المرشحين تقوم لجنة جائزة نوبل النرويجية بمهمة تقييم جميع الترشيحات المقدمة وعقد مداولات سرية يتم فيها اختيار الفائز بالتصويت السري بين أعضاء اللجنة. وفوز "غرف الطوارئ" بهذه الجائزة والذي سيمثل علامة كبيرة للتضامن مع الشعب السوداني وتذكيرا للعالم بالكارثة التي ظل يرزح تحت وطأتها سيحتاج إلى حملة تضامن إعلامي ومناصرة كبيرة للضغط من أجل هذا الهدف.

في ظل منظومة إغاثة دولية غارقة في البيروقراطية، تقدم "غرف الطوارئ" السودانية نموذجا بديلا يعتمد على المرونة والسرعة والاستجابة المباشرة لاحتياجات المتضررين ويضع الإنسان- وليس توازنات السلطة والقوة والسياسة- في مركز أولوياته. فبينما تعاني المنظمات الدولية من بطء الإجراءات وتعدد الوساطات وتضارب الأجندات، يثبت الشباب السوداني أن الإغاثة الإنسانية الحقيقية لا تحتاج إلى أجهزة ضخمة، وإدارات بيروقراطية معقدة بل إلى إرادة صادقة وقلب رحيم. إن هذه التجربة الرائدة تدعونا إلى إعادة النظر في أسس العمل الإنساني، والتحول من نموذج المساعدات التقليدية إلى نموذج يركز على تمكين المجتمعات المحلية ويقوم على الاحترام المتبادل والتكامل في الأدوار وبناء التدخلات الإيجابية من أسفل إلى أعلى. إن دعم وتعزيز مثل هذه المبادرات ليس مجرد واجب إنساني، بل هو استثمار في مستقبل أكثر استقرارا وازدهارا في المنطقة، بل والعالم كله.

font change

مقالات ذات صلة