حين ترى رجلا يحمل ذراع شقيقه المقطوعة، وهي كلّ ما بقي منه، ويمشي ذاهلا في أرض خراب، أو حين ترى مجموعة صحافيين يضعون جثة زميل لهم في حفنة حقائب بلاستيكية ويقولون "هذا ما بقي منه"، أو حين تسمع أن تسعة أطفال اضطر الأطباء إلى بتر أعضائهم في حادثة واحدة، فمن الصعب اختزال شعورك – أو موقفك – بكلمات بسيطة مثل "التعاطف"، "الأسى"، "الألم". بلى، حتى الألم يصبح شعورا بسيطا والكلمة التي لا نملك سواها للتعبير المباشر عنه، ومترادفاتها، هي الأخرى تفقد معناها.
كلّ النقاشات القديمة تغدو ثانوية، إن لم نقل تافهة، أمام هذا الواقع الجديد. استخدام وصف "إبادة"، أو التحّفظ في استخدامه عند كثر، هو الآخر لا معنى له، كما لا معنى لكلّ الكلمات التي تحاول تأطير الضحايا انطلاقا من موقف سياسي أو أخلاقيّ ما. هذه لعبة السياسة والأيديولوجيا والصحافة، إن كان ما زال ممكنا التمييز بين هذه المستويات الثلاثة. نيل اعتراف ما من مكان ما بحقيقة ما تشهده أيّامنا، باسم ما يجري، وبصفة الضحايا وصفة من (وما) جعلهم ضحايا، هو مهمة أجيال لاحقة وربما إرثها الأثقل من الآن فصاعدا. من يعيشون هذه اللحظة الرهيبة (عذرا على ركاكة كلمة "رهيبة" لكنها الوحيدة المتاحة حاليا)، هم شهود، بمن فيهم أولئك الذين يغضون الطرف أو ينظرون بعين واحدة أو ينظرون في اتجاه آخر. من يحدّقون بالشاشة ليروا صورة ما هو رهيب متجسّدة أمامهم، هم أنفسهم من يغلقون الشاشة حتى يوفّروا على قلوبهم الضعيفة عناء المشاهدة، وحتى لا يكبّدوا عقولهم عناء التفكير بما تراه عيونهم.
كلّ النقاشات القديمة فقدت صلاحيتها. سواء تناظر القوم عبر شاشات الفضائيات أو عبر منصات التواصل، وأيا يكن الحدّ الذي يصل إليه الكلام، سلبا أو إيجابا، صوابية أو لا صوابيّة، توظيفا أيديولوجيا أو نزاهة، كلّ هذا فقد معناه. جمهور المتكلمين وحده لا يدرك ذلك فيصرّ عليه كأن شيئا لم يكن. مواقف الحكومات والدول والمنظمات الدولية وغيرها أيضا لا معنى لها، وحتى تلك التي تسهم مباشرة في التأثير بالوقائع، هي الأخرى فقدت معناها. فليصف من يريد المشهد بالكلمات التي يريدها، وليحمل المسؤولية للطرف الذي يريده، وليحاكم من يشاء وليبرئ من يشاء، فما وقع قد وقع. ذلك الذي كنا نخشاه دون أن نجرؤ على تسميته أو حتى تخيّله صار الآن هنا. كل ما عدا ذلك محض ثرثرة في مقبرة.
سوف يغدو شأنا من شؤون الحياة اليومية الاعتيادية أن نرى المذيعين يملأون الهواء بانتظار الانفجار التالي. ما حجم الانفجار، نوعه، شكله، تأثيره، من قضى فيه، أيّ شارع يدمّر مباشرة على الهواء، حياة من تصبح ركاما في ثانية... المذيعون والمحلّلون والمراقبون الذين يملأون الهواء كان لهم أن ينصرفوا في حياة أخرى إلى أشغال أخرى. الآن عليهم فقط أن يجدوا الكلمات المناسبة، أن يستنبطوا ويحللوا ويناقشوا. ماذا جرى؟ سؤال بسيط لا يجد إجابة كلّ مرة. ماذا جرى؟ من يستطيع حقا أن يصف ما جرى، من يملك الكلمات؟ لا أحد. ما جرى قد جرى. بمَ يفيد الوصف؟ ويفيد من؟
حين يغدو الدم غزيرا إلى هذه الدرجة، وحين يصبح الدمار عميما إلى هذا الحدّ، وحين تتمزّق الأجساد والأمكنة بهذه الطريقة، تفقد جميع الحجج جدواها
هناك، في الاتجاهات كافة، من يتخذ مما يجري حجّة ودليلا: أرأيتم؟ ألم نقل لكم؟ أرتاب ارتيابا عميقا حين أسمع مثل هذه الكلمات بتنويعاتها الكثيرة، تقال صراخا أو همسا، صراحة أو تلميحا. ألم نقل لكم؟ أصحاب السؤال ينتمون إلى عالم سابق، عالم ما قبل الواقعة. حين يغدو الدم غزيرا إلى هذه الدرجة، وحين يصبح الدمار عميما إلى هذا الحدّ، وحين تتمزّق الأجساد والأمكنة بهذه الطريقة، تفقد جميع الحجج جدواها. هذا الدم ليس حجّة أحد بعد اليوم. هو حجّة أصحابه فحسب. لا أحد يستطيع ادعاء حمله أو النطق باسمه. ما جرى قد جرى، وأنت جزء منه، ولو ذهبت إلى أقصى الحدود لتنظر في اتجاه آخر، أو لتنشغل بشيء آخر.
أولئك الذين ماتوا لا ينتظرون رأي أحد في ما جرى لهم. أولئك الذين دمّرت حياتهم لا ينتظرون أن تشرح لهم لماذا دمّرت ومن دمّرها. هذا ليس في تجهيل القاتل على الإطلاق. فالقاتل معروف للجميع، لكنه حتى هو نفسه لم يعد مهما. لقد نجح في أن يقتل إلى الدرجة التي تجعل حتى تعيين اسمه بلا معنى. لقد تمكن ببساطة من محو نفسه. لقد اقترف شيئا لا تقترفه سوى الآلهة، أيا يكن اسمها أيضا.
عزيزي القارئ، حين تجد نفسك مثلي عاجزا عن وصف ما جرى، وعن إيفاء شيء من العدالة لمن جرى لهم ما جرى، حاول فقط أن تلفظ أيّ كلمة، أن تثرثر أيّ شيء، أو أن تصمت صمتا تاما مطبقا، وحاول مثلي، في الأثناء، أن تأتي أو ألا تأتي على ذكر كلمات مثل مذبحة أو مجزرة، غزة أو بيروت.