بين الشعر والفلسفة: اللغة جسد الفكرة والأصل كيمياء الكلمات

من حكمة زهير إلى المدارس الشعرية المعاصرة

Shutterstock
Shutterstock
كتب في مكتبة.

بين الشعر والفلسفة: اللغة جسد الفكرة والأصل كيمياء الكلمات

الشعر يفكّر لا يعني أنه فلسفة أيا كانت الشفافية والعلاقة التاريخية بين الشعر والفلسفة.

هذه الكلمة الـ"بين" هي التي تفصلهما وتميّزهما.

التفلسف فكر في الشعر، لكن لا أحد يخلط بين شعر أفلاطون وشكسبير، أو بين خليل مطران وطه حسين، بين صادق جلال العظم ومحمد الماغوط، حتى وإن كان التمييز داخل الفكرة ذاتها، كما لو نحاول أن نميز بين نيتشه الشاعر ونيتشه الفيلسوف، أو بين أبي حيان التوحيدي الفيلسوف والشاعر.

الشعر يفكّر، أي أن الفكرة وليس فقط الطريقة هي التي تشد أو تربط وتجعل بعض النصوص موجودة. فمن دون الفكر لا قصيدة، ولا شيء يمكنه سلوك طريق ما، ولا يؤدي ذلك إلى أي مكان، أي لا معنى ولا أي صورة، ولا أي عنصر بلاغي أو اقتراح.

الكلمات والأشياء

قال الشاعر اللبناني الفرنكوفوني الكبير جورج شحادة "الشعر هو الكلمات والفلسفة هي الأفكار. فإذا نجحنا في استخدام الكلمات فهي قادرة على أن تفعل كل شيء"، الأفكار تفعل أيضا: لكن هذا الفصل التاريخي لم يحدث طبعا. تميز الأفكار والكلمات يمكن الموافقة عليه لكن من المهم ألا ننسى الأشياء. وهذا بديهي في كل الأزمنة والتواريخ.

الشعر يفكّر، أي أن الفكرة وليس فقط الطريقة هي التي تشد أو تربط وتجعل بعض النصوص موجودة


"لا أفكار بلا كلمات، ولا كلمات بلا أشياء". لهذا يمكن القول إن هناك أشياء الشعر، ونظن أن كل شاعر واعٍ يتبنى هذه الفكرة باعتبارها فكرة. فالذكاء البشري يفكر، البشري يفكر، والأفكار تفكر بالأفكار، وتحتجّ باللغة المناسبة. فاللغة هي التي تضع أفكارا كما يقول شحادة، وما الشعر سوى إحدى هذه اللغات التي تفكر.

Reuters
نسخة من 'اللفافة الأولى' لوليم شكسبير معروضة في "كريستيز" بلندن، 24 أبريل 2023.

فجمال القصيدة لا يمكن أن يقوم من دون معنى، وهذا المعنى مصنوع بالمعنى اللغوي. يقول المسرحي الفرنسي الكبير موليير: "الشعر ربما هو مادة أفكارنا في حالتها المحضة". فالقول إن الفلسفة تفكر بلا تحوّل في طبيعتها، ليس دقيقا، بل التحول قائم دائما كما نرى في أعمال النحات الكبير رودان، أو كما في لوحة "غيرنيكا" لبيكاسو، أو كما في لوحات "الحرب والمذبحة الأرمنية" لبول غيراغوسيان.

وهذا الامتزاج يطاول المسرح، القديم والحديث. فالتفكرات الذهنية والنفسية تفكر بالأفكار التي تنتج بدورها أفكارا. ولهذا فالشعر يمكن أن يفكر بالفكر وهذا ليس ممنوعا عليه. فالشعر هو فكر الشعر أيضا، ونرى أن الغنائية تتردد بين الشعر والفلسفة كأنما أحيانا في تزاوج قوي قادر على الصمود إزاء تسارعات عصرنا. وهناك من يرى أن الفلسفة في جوهرها "شعر"، خصوصا التجريدية منها، تلك التي تتعامل بالمقولات الدينية والإنسانية واللغوية، فإذا كان الشعر هو التعبير الشعري عند الشعراء، فالفلسفة أيضا تستلهم الشعر، بدلالاته، أو المسرح الذي خرج من عباءة الفلاسفة اليونان. بل يمكن أن تكون الأفكار "الفلسفية"، مستمدة أو مستوحاة من الطبيعة "وغرائزها" وشعريتها ومعانيها: فالفيلسوف الكبير مارتن هايدغر، عاش في منزل تحيط به الطبيعة الصرف بجذورها التاريخية وجماليتها، ومنها استمد فكرة الانسياق للنازية التي هي في عمقها عودة إلى الغرائز العنصرية (الآرية)، والماضوية. وهذا ما فعله نيتشه عندما كان، لإيقاظ حالاته الفكرية وحتى الشعرية، يمشي في اليوم الواحد ساعات عدة في الطبيعة العارية، ومنها استقى فلسفته، وقصائده.

إذا كان الشعر هو التعبير الشعري عند الشعراء، فالفلسفة أيضا تستلهم الشعر، بدلالاته


 ونظن أن هذين المثالين لا يمكن أن يتعمّما على كل فيلسوف. بل نقول إن الرومنطيقية وفلسفاتها، هي أفكار موثقة تختلف من مكان إلى آخر، عبرت عنها شعرا وقواعد... وهكذا كل مدرسة أدبية، أو غير أدبية، كالدادائية والسوريالية، واللغوية، حددت بأنماط كادت تصل إلى "الأيديولوجيات" الفلسفية.

الذهنية والالتزام

لكن السؤال الكبير يطرح على شعراء وكتاب، هل حولوا أفكارهم وفلسفاتهم شعرا، أم أن الذهنية أدت إلى نثرية نصوصهم، أي تجفيفها بوعيهم الحاد؟ وإذا كانت القصائد الأيديولوجية أو الملتزمة عُبّر عنها بالشعر، كما فعلت هذه الأفكار "السياسية" والفلسفية أصلا وقد جعلت في نصوص شعرية غرفت من الخطابة والمباشرة، باعتبارها أدوات نضالية موجهة إلى الجمهور. انتماءاتها كوسائل أوقعتها في الهشاشة والمناسبية. فالقضية الفلسطينية، مثلا، بفصولها هي مزيج من الأفكار والمشاعر.

محمد الماغوط.

لكن إذا عدنا إلى بعض الشعراء "المفكرين" أو "الملتزمين" أفكارا محددة، فهل نجحوا في تزاوج الذهنية والشعرية في صوغ قصائد يغمر فيها الشعر تلك الأدوات المختلفة؟

نعود هنا إلى الجاهلية، بحكيمها الشاعر الكبير زهير بن أبي سلمى في معلقة مطلعها: "أَمِن أمّ أوفى دمنةٌ لم تكلّم" التي يخرج فيها، بفلسفته "السلمية" ونبذه للحروب عن تقاليد القبائل الجاهلية التي كانت مرتبطة بصراعاتها الكثيرة ولهذا يسمونه حكيم الشعراء. فهل نجح في "نصائحه" و"توجهاته" في امتصاص هذه كلها، فلا تطغى الأفكار بنثريتها على الشعر؟ نعم! إنها قصيدة رائعة سبق فيها كل الشعراء العرب الذين برزوا في العصور الأموية والعباسية.

إنه أول شاعر عربي مفكرا بمشاعره، وإحساساته. وقد لحقه في هذا المنحى أبو تمّام بمطالعه الشعرية داعيا إلى الانتصار في الحروب ومديحها، وقصيدته:

السَيفُ أَصدَقُ إنباء مِنَ الكُتُبِ/ في حَدِّهِ الحَدُّ بَينَ الجِدِّ وَاللَعِبِ

بيضُ الصَفائِحِ لا سودُ الصَحائِفِ في/ مُتونِهِنَّ جَلاءُ الشَكِّ وَالرِيَبِ

وَالعِلمُ في شُهُبِ الأَرماحِ لامِعَة/ بَينَ الخَميسَينِ لا في السَبعَةِ الشُهُبِ

إنه يفكّر في هذه القصيدة ويرى أن الحرب هي التي تحسم ساحة المعركة، وهذه القصيدة من روائع الشعر العربي قاطبة، وقد أثّر في مطالعه الشعرية للقصائد بالمتنبي الذي بادأه بالأمثال والأفكار التي ما زالت تردد اليوم.

Wikipedia
تمثال ابن رشد.

وإذا عدنا إلى عصرنا الحديث، وبروز الفلسفة والأفكار بمدارسها المتعاقبة، نقع على شعراء عرب جعلوا القصيدة جزءا من ذهنيتهم الفلسفية وانتماءاتهم، وفي مقدمهم الشاعر اللبناني خليل حاوي الذي نشر أطروحته عن الفيلسوف العربي ابن رشد وتعددت مواقفه، من الحزب القومي السوري، إلى تيار العروبة، وصاغ قصائد متفاوتة في قيمتها الشعرية الجديدة، ونظن أن بعض شعرائنا "اعتنق" السوريالية الفرنسية من دون ربطها بمضامينها الاجتماعية وتمردها، فوقع شعرهم عموما في الشكلانية، أي تجاوزوا "الفكرة" إلى مجرد "اللغة" والتعبير الخارجي.

الرومنطيقية

وقد لمع الشعراء العرب عموما في انفتاحهم على الرومنطيقية، وفي مقدمهم إلياس أبو شبكة، وخليل مطران، وإيليا أبو ماضي، وأحمد شوقي، والأخطل الصغير... كأنما المدرسة الوحيدة التي تمكن العربي تجاوز القواعد القسرية الأصلية بإبداع رومنطيقية منهجية رائعة. وهذا ما جسّده فيلسوف الفريكة اللبناني أمين الريحاني في كتابه "هتاف الأودية" الذي بشر فيه بقصيدة الغد. ولا ننسى جبران خليل جبران الذي تأثّر بالرومنطيقية الأميركية والأوروبية، وكذلك بنيتشه، لكنه أخذ من هذا الأخير "الطريقة" لا الأفكار، ونشر أجمل ما في اللغة العربية في هذا المجال، وكذلك ميخائيل نعيمة في رائعته "الرداء" وإن كانت تعابيرها معقدة، فهي كتل من الشعر المختبئة وراء اللغة.

إذا اعتبرنا اللغة، في تنوعاتها، أساسا للقصيدة الحديثة، فلا يعني أن تقع اللغة في اللغة، أي تكون هدفا في ذاتها


لهذا نقول، إن الشاعر يفكّر كما قلنا باللغة، فهي الوسيلة الأساسية في تحويل الكلمات والأفكار إلى شعر، وهذا لا يكون من دون لغة ذات أثر تركيبي، بعلاقاتها الكيميائية بين الحروف والجمل، توحي بالمناخات والحالات والطقوس وتربط المعنى بهذه العلاقات البلاغية أو سواها، أو الاشتقاقات الإيقاعية، وكلها تصنع مناخات سحرية، ربما غامضة أو صعبة، لكن ما ينقذها من النثرية (حتى في منطوقها) هو بالذات تفاعل الكلمات (وأحيانا بياض الصفحة)، في موسيقى داخلية صامتة تتوّج المعنى بموازينه غير المباشرة. فليس المهم أن الكلمات وحدها أو أي كلمات، تصنع الشعر. الكلمات لغة، ليست لتفسير الأفكار أو الفلسفة فحسب، بل لشحنها بما يصوغها بلغة تخلق مناخات كما تفوح الرائحة من الورد أو الشجر. وهذا ما فعله، كما رأينا بعض شعراء العرب، ولا ننسى أن الرمزية هي التي أطلقت هذه الأجواء غير التفسيرية. وكذلك أصحاب "مدرسة اللغة" في فرنسا الذين جعلوها عجينة مطواعة ومشغولة، وحتى تلاعبوا بها. من هنا نقول، إننا إذا اعتبرنا اللغة، في تنوعاتها، أساسا للقصيدة الحديثة، فلا يعني أن تقع اللغة في اللغة، أي تكون هدفا في ذاتها، فهنا تضيع الفكرة والشعر، وتبقى ممارسة اللغة عملا نثريا بامتياز، سواء كان قصيدة نثرية أو منظومة.

font change

مقالات ذات صلة