خلال العقود الأربعة الماضية، عملت إيران تدريجيا للسيطرة على عدد من العواصم العربية، من خلال جماعاتها الوكيلة، بعدما وجهت هذه الجماعات وغذّت نزعاتها المذهبية والانفصالية، ودربتها على القتال، الأمر الذي مكنها من أن تصبح قوة ردع في المنطقة، وأتاح لها ابتزاز دول المنطقة بأمنها واستقرارها من جهة، والضغط على الولايات المتحدة وإسرائيل من جهة أخرى، واستتثمار نتائج هذه الضغوط في ملفات إقليمية.
هذه الاستراتيجية التي اتبعتها إيران، ليست جديدة وهي معتمدة عادة، من الدول التي تفضل الاحتماء خلف الوكلاء واستخدامهم لخوض حروبها بدلا من جيوشها. والغاية منها أن تبقى النيران بعيدة عن حدودها الوطنية، وأن تحافظ على كلفة أقل للصراع.
أهدت الجماعات الوكيلة، بخاصة "حزب الله" اللبناني وحركة "حماس" و"الجهاد الإسلامي" الفلسطينيتين، إيران أهم نقاط القوة في المنطقة، بتسليمها مفاتيح القضية الفلسطينية وقتال إسرائيل، فصارت الفصائل هذه تقاتل نيابة عنها وتضحي بالشعبين اللبناني والفلسطيني، وإيران تحصد الانتصارات.
واستطاعت إيران طوال هذه العقود، إدارة هذا الصراع من "المنطقة الرمادية" بذكاء، فجنت مكتسبات عظيمة بتكلفة أقل. لكن منذ عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، سقطت حدود منطقتها الرمادية. أسقطتها إسرائيل، التي عمدت منذ ذلك التاريخ إلى ضرب مصالح إيران ومراكزها حيث توجد، والاعتداء على أراضيها، وتكبيدها خسائر معنوية وبشرية من خلال اغتيال قادة قواتها الوكيلة من إسماعيل هنية إلى حسن نصرالله، وما قبلهما وما بينهما.
من جهتها، تبدو إيران برغم الجولتين الصاروخيتين اللتين نفذتهما ضد إسرائيل، بأنها ما زالت ثابتة في منطقتها، ومعتمدة بشكل أساسي على قواتها الوكيلة، وغير مستعدة لدخول حرب مباشرة ضد إسرائيل.
أهدت الجماعات الوكيلة، بخاصة "حزب الله" اللبناني وحركة "حماس" و"الجهاد الإسلامي" الفلسطينيتين، إيران أهم نقاط القوة في المنطقة
سياسة "المنطقة الرمادية" لها معارضوها في الداخل الإيراني، من جانب التيار المحافظ (الأكثر تطرفا) الذي يُعلي لغة "الميدان" على لغة "الدبلوماسية"، وهو يرى أن إيران بسبب "دبلوماسيتها" فشلت في ردع إسرائيل وقمع استفزازاتها بشكل حاسم وشديد، وهو ما دفع الأخيرة إلى المزيد من التمادي.
لكن لماذا اتبعت إيران لغة "الدبلوماسية" كل هذا الوقت، على الرغم من أن الاعتداءات الإسرائيلية الأخيرة أنهكتها وأحرجتها؟ ولماذا ما زالت متمسكة بفضيلة ضبط النفس أو الردود المحدودة؟
الأجوبة كثيرة، ومنها أنه لاعتبارات داخلية وعلى رأسها حماية النظام، تتمسك إيران بمعادلة وضعتها بعد الحرب العراقية-الإيرانية، وهي عدم الانجرار إلى أية مواجهة عسكرية أو الدخول في حرب مباشرة مع أي دولة، وتعتبر ذلك إنجازا وطنيا وعلامة على صلابتها وحصانتها الذاتية وخلاصة نظرية "الصبر الاستراتيجي" التي أحرزت فيها قصب السبق، من جهة، ومن جهة أخرى تتمسك إيران أيضا بعدم الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل دون غيرها من الدول، لأنها تدرك أن الحرب مع إسرائيل لن تكون معها وحدها، بل مع المجتمع الدولي، مع الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبية، حتى روسيا الحليفة سوف تتنكر لها بسبب علاقاتها الوثيقة مع إسرائيل.
أمر آخر يتعلق بالانتخابات الرئاسية الأميركية في الشهر المقبل. تعلم إيران أن التوترات الإقليمية المتزايدة، والخطر الوجودي الذي تشكله الحرب على إسرائيل، أمور لن يستفيد رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو منها فحسب، بل ربما ستدفع باتجاه فوز دونالد ترمب، الذي تخشى وصوله إلى البيت الأبيض، بناء على تجربة أربع سنوات أمضاها في السلطة، خرج خلالها من الاتفاق النووي وأعاد تفعيل العقوبات الدولية عليها.
في ظل هذه المعطيات الضاغطة، تبدو إسرائيل غير قلقة بشأن استراتيجية الرد المناسبة التي ستختارها إيران، بعدما ثبت أنها غير قادرة على تنفيذ "الانتقام القاسي"، ولا على توجيه ضربة مؤلمة فعليا ضدها.
ومع التصعيد العسكري الإسرائيلي الأخير ضد لبنان واغتيال نصرالله، واحتمال توجيه ضربة كبيرة ضد منشآت استراتيجية في إيران ردا على ردها الصاروخي الأخير، تكون إسرائيل قد قذفت إيران إلى منطقة الحرب الحمراء، وأفشلت كل خططها الاستراتيجية السابقة، وجرتها تدريجيا إلى خرابها، كما جرت "حماس" و"حزب الله" من قبلها.
في هذا الوقت، تُظهر خطابات بنيامين نتنياهو عدم وجود نية إسرائيلية لوقف الهجمات على غزة ولبنان ووجود رغبة شديدة في ضرب إيران، فيما تبدو كل الخيارات أمام إيران صعبة ومكلفة ومحدودة.
ربما، هذا هو السبب وراء الخطاب الهادئ الذي ألقاه المرشد الايراني علي خامنئي في صلاة الجمعة في طهران، توازيا مع الحديث الممجوج الذي يصدر عن داوئر "الحرس الثوري" حين اشتداد الأزمات، عن اقتراب إيران من وضع اللمسات الأخيرة على قنبلتها الذرية.