"احذر مما تتمناه، فقد يتحقق"...
حكمة بسيطة ومقلقة، تحققت في الأسابيع الماضية عندما استفاق الشعب اللبناني والعالم على اليوم التالي لاغتيال الأمين العام لـ"حزب الله"، حسن نصرالله. الضربة الجوية التي دمرت المجمع الضخم حيث مقر "الحزب" لم تنجح فقط في قتل ما تبقى من القيادة العسكرية العليا للميليشيات الإيرانية العاملة في لبنان، بل استطاعت أن تعيد ضبط، إن لم نقل تدمير، الكثير من المفاهيم أو الأوهام اللبنانية. من أهمها التسليم بأن "حزب الله" وسلاحه الإيراني قد أصبحا جزءا من مقدمة الدستور اللبناني، وأن تمثيله لشيعة لبنان راسخ كرسوخ الأرزة على علم البلاد.
في الواقع، التحلل السريع والمخيف لبنية "حزب الله" العسكرية والسياسية، وفشل الدولة اللبنانية في تطبيق خطة إغاثة جدية، والغموض التام حول مصير لبنان واللبنانيين، يدفع المرء- ولو بسذاجة- إلى محاولة جدية للتفكير في طرق للخروج من أتون الحرب والانتقال إلى مسار واقعي يعيد لبنان إلى مداره الطبيعي.
الطريق الوحيد الواقعي والإنساني يبدأ بإعلان وقف إطلاق النار، ولو من طرف لبناني واحد، لضمان وقف سفك دماء الأبرياء من المدنيين وعناصر "الحزب" المرابطين على الجبهة الجنوبية، والذين قد تكون خطيئتهم الوحيدة صدقهم وعطشهم للشهادة، وهي التضحية التي استخفت بها قيادة "الحزب" وكذلك المسؤولون في طهران. من هنا، المطلوب من المنظومة الحاكمة في لبنان ومن معارضيها أن يطالبوا بتطبيق الدستور اللبناني في شقه السيادي الواضح، والطلب من قادة "حزب الله" من الصف الثالث والرابع، الذين أصبحوا خلال الأيام العشرة الماضية القيادة الفعلية لـ"الحزب" من دون استشارتهم، أن ينضموا للجيش اللبناني وأن تتم "لبننة" عقيدتهم، إذا أمكن.
قد يبدو هذا الطرح مستحيلا أو طوباويا، خاصة أن "الحزب" وبيئته المباشرة لا يزالان يتكبران على الكارثة أو لا يدركان حجمها. إلا أن الدستور اللبناني، الذي وُضع منذ أكثر من قرن، يمنح احتكار السلاح والعنف إلى المؤسسات السياسية الدستورية. وهو دستور نسيه أهل السلطة في لبنان حتى ذكّرهم المجتمع الدولي بمحتواه عبر قرار مجلس الأمن 1559، الذي دعا إلى حل جميع الميليشيات اللبنانية ونزع سلاحها.
المرحلة المقبلة لا تتطلب فقط نزع سلاح "حزب الله" الفعلي، بل تحتاج إلى تدخل وطني جدي من جميع الأطراف لإيقاظ بيئة "حزب الله" من كابوسها، دون إحداث آثار جانبية سياسية ونفسية ودون عزلها بطريقة تجعل منها خطرا على نفسها وعلى ما تبقى من فكرة لبنان. هذا الموقف السياسي والأخلاقي يجب أن لا يخلو من الحزم الأخوي، إن لم نقل الأبوي، بأن السلاح فشل وسيفشل في حماية لبنان وشعبه، وحتى شيعته، كما سيفشل في منح إيران القدرة على التوسع السياسي والمقامرة بدماء اللبنانيين والفلسطينيين والعرب بشكل عام.
النقاش السياسي الهادئ الذي سيلي هذه المرحلة المقترحة سيتطلب إعادة النظر في بنية النظام السياسي اللبناني. سلاح الطوائف المعنوي والمادي لا يمكن أن يُعطى الأولوية على مصلحة الجماعة المتخيلة. البندقية، مهما كان لونها، لا يجب أن تتحول إلى لعنة على حاملها. بل يجب على شيوخ الطوائف وزعمائها، في هذه الحالة، أن يدركوا عواقب انجرارهم إلى لعبة إيران التوسعية التي- للمفارقة- قررت السلطات في طهران التخلي عنها، تاركة "حزب الله" واللبنانيين لمصيرهم.
المرحلة المقبلة لا تتطلب فقط نزع سلاح "حزب الله" الفعلي، بل تحتاج إلى تدخل وطني جدي من جميع الأطراف لإيقاظ بيئة "حزب الله" من كابوسها، دون إحداث آثار جانبية سياسية ونفسية
من لا يرغب في نبذ العنف والمطالبة بالسلام، ومن لا يريد فقط النجاة بنفسه في هذه المرحلة، عليه أن ينزع ذريعة بنيامين نتنياهو في حملته المستمرة لتدمير "حزب الله" والمنازل التي يختبئ فيها.
"حرب لبنان الثالثة"، كما يسميها الإسرائيليون، يجب أن لا تكون فرصة لتحقيق نصر سياسي لإسرائيل، بل فرصة للبنانيين لبناء وطن يستحق القتال من أجله، أو- ربما الأجرأ من ذلك- تحصينه عبر السلام. فكرة لم يستوعبها حسن نصرالله، ودفع حياته ثمنا لها.
الأكثرية الساحقة من اللبنانيين لطالما تمنت نهاية "حزب الله"، ومنهم أشخاص منافقون ادّعوا العكس. ولكن مع فرضية ضعف أو حتى نهاية "الحرس الثوري" بفرعه اللبناني، ستسقط ذريعة اللبنانيين لبناء وطن. فكرة مخيفة ومرعبة للكثيرين من تجار المذهبية والفساد، من "ملوك الطوائف".