خلال فترة قصيرة، واجهت القوى السياسية التركمانية في العراق عدة "نكسات سياسية"، أفقدتها الإحساس بالأمان والقدرة على الاستمرار كممثلة لما تقول إنها "القومية الثالثة" في العراق، وتاليا صاحبة حق في التمثيل السياسي، سواء في البرلمان أو أعلى هرم السُلطة، أو مالكة "حصة مضمونة" ضمن أجهزة الحُكم ومؤسسات الدولة، أسوة بالعرب والكرد.
التركمان الذين تتفاوت التقديرات بشأن حجمهم الديموغرافي ونسبتهم إلى عموم السكان، بين 1 و5 في المئة. إذ تقول الأحزاب والشخصيات السياسية التركمانية إنهم يقاربون مليوني نسمة، بينما تُشير الأرقام الانتخابية إلى أنهم بقرابة 400 ألف فحسب. يسكنون بكثافة في سهب ممتد من بلدة تلعفر شمال غربي مدينة الموصل، نزولا باتجاه الجنوب والشرق، وصولا إلى مدينة كركوك وأريافها الجنوبية والشرقية.
"انكسارات سياسية" متتالية
أوائل العام الجاري، أصدرت المحكمة الاتحادية العراقية العُليا قرارا بإلغاء "كوتة الأقليات الدينية والعرقية" في برلمان إقليم كردستان، حيث كان للتركمان خمسة مقاعد من أصل 111 مقعدا. فقد التركمان ما كانوا يعتبرونه "التمييز السياسي الإيجابي الوحيد" الممنوح لهم ضمن القوانين والفضاء السياسي العراقي، والمكانة السياسية النادرة المحفوظة لهم بـ"قوة القانون" كقومية تركمانية. بعد جدال سياسي طويل الأمد، استمر لأشهر، تراجعت المحكمة الاتحادية العراقية عن قراراها، لكن نسبيا فحسب، إذ لم يبقَ للتركمان إلا مقعدان فحسب ضمن برلمان الإقليم.
قبل قرار المحكمة بعدة أشهر، كانت الحكومة الاتحادية العراقية قد صادقت على تحويل "قضاء حلبجة" ضمن محافظة السليمانية إلى محافظة مستقلة، وبدأ البرلمان العراقي مناقشة أوراق مشروع القانون الذي رُفع إليه من الحكومة الاتحادية. حدث ذلك، في وقتٍ لم تلتفت فيه الحكومة الاتحادية، ومثلها مختلف القوى السياسية العراقية المركزية، العربية والكردية على حد سواء، إلى مطالب نظيرتها التركمانية، المنادية بتحويل "قضاء تلعفر"، الذي يشكل التركمان فيه أغلبية سكانية، شمال غربي محافظة نينوى (الموصل) إلى محافظة خاصة، ليستطيع التركمان عبرها حماية وجودهم وخصوصية هويتهم القومية/ السياسية والثقافية/ اللغوية.
لم تمضِ عدة أسابيع على قرار المحكمة الاتحادية، حتى حجمت نتائج انتخابات مجالس المحافظات نفوذ القوى السياسية التركمانية تماما. فلم تشكل مختلف اللوائح الانتخابية التركمانية كُتلة ضمن مجلس محافظة نينوى (الموصل)، وفي محافظة كركوك، التي كانوا يقولون إنهم يشكلون ثُلث سكانها ويطالبون بـ"تمثيل متوازن" مع كُل من العرب والأكراد ضمن مؤسسات حُكم المحافظة، بنسبة 32 في المئة لكل قومية، فإن مرشحين تركمانيين فقط حصلا على مقاعد ضمن مجلس المحافظة، من أصل 16 عضوا، أي إن نسبة التمثيل السياسي التركماني في المحافظة لم تتجاوز 12.5 في المئة.
خلال المباحثات المطولة بشأن تشكيل الحكومة المحلية، وعلى الرغم من إصرار القوى التركمانية، وعلى رأسها الجبهة الموحدة لتركمان العراق، بأن يكون محافظ كركوك من التركمان، على أساس أن الكُرد والعرب تناوبوا على منصب المحافظ منذ العام 2003، وتالياً فالدورة الراهنة من المفترض أن تكون "من حصة التركمان". لكن ما جرى كان مفاجئاً للجبهة التركمانية، إذ تآلف الاتحاد الوطني الكردستاني مع جزء من الكتلة العربية، وشكلا الحكومة المحلية، دون أي اتفاق مع ممثلي التركمان، تاركين لهم منصب "نائب رئيس مجلس المحافظة" فحسب. الأمر الذي شخصته الجبهة التركمانية العراقية الموحدة كإخراج مُبرم لهم من المعادلة السياسية للبلاد، بشقيها المركزي/ الاتحادي والمحلي في محافظتي كركوك ونينوى (الموصل).
دعم تركيا وحده لا يكفي
يدفع تركمان العراق أثمان رهن انتظامهم وفاعليتهم السياسية بالاستراتيجية والرؤية التركية للعراق، وكامل المنطقة، تحديدا بعد العام 2003، كما يشرح الباحث عمر ملا عبد القادر في حديث مع "المجلة"، مضيفا: "طوال عقدين كاملين، منذ تأسيس النظام السياسي الجديد في العراق وحتى الآن، واجه تركمان العراق سوء توازن سياسي، متأتٍ من تراكب أربعة عوامل سياسية، نتجت كلها عن ربط القوى السياسية التركمانية لتطلعاتها بالرؤية التركية، التي كانت تملك مُحددات مستحيلة التحقق، بحكم الوقائع الجديدة".
يضيف الباحث ملا عبد القادر: "فحين التأسيس، اندرجت القوى السياسية التركمانية في الرؤية التركية، وحاولت إعاقة تطور المشروع الأميركي في العراق، لكنها بسبب ذلك واجهت انقساماً داخلياً حاداً، بقي يؤثر على صلابتها الداخلية طوال عقدين كاملين، وغدت عاملاً في حرب أهلية تركمانية داخلية بعد سنوات قليلة. فالمجتمع والشخصيات والتيارات التركمانية الشيعية، الذين يشكلون قرابة 20-30 في المئة من مجموع التركمان العراقيين، وعلى العكس من نظرائهم التركمان/السُنة، الممثلين بالأغلب في الجبهة الموحدة لتركمان العراق، دافعوا وانخرطوا في عملية التغيير، وحين لم يجدوا مكانة سياسية واضحة لرؤاهم واستراتيجيتهم ضمن الجبهة التركمانية، صاروا جزءا من الأحزاب الشيعية المركزية، الدينية الطائفية بالتحديد، وصار المجتمع السياسي التركماني منقسماً بسبب ذلك".
يتابع الباحث ملا عبد القادر "تحول ذلك بالتقادم إلى تعارض دائم بين التركمان المندمجين والمعتمدين على النفوذ والدور التركي، وبين السياق والمسار الذي أخذته السلطة الاتحادية المركزية، التي كانت مبنية غالباً على التوافق الأميركي الإيراني، أو على نفوذ واستراتيجية أحدهما على الأقل. في الحالتين، كانت تركيا تعتبرهما متعارضين مع مصالحها ودورها، وبذا غدا التركمان العراقيون على خلاف مع السلطة المركزية. أضيف لذلك عامل ثالث، هو معاندة التركمان لتطور الوضع الكردي في العراق، ودائما بسبب ربط تحركاتهم السياسية بالنفوذ والدور التركي. فقد تعاملت القوى التركمانية بحساسية فائضة مع نظيرتها الكردية في المناطق المتنازع عليها، تحديدا في محافظة كركوك، وحتى في الموقف من إقليم كردستان، معتبرة تنامي النفوذ والدور الكردي على حساب تطلعاتها وشعاراتها السياسية العليا، وبذا عاشوا طوال عقدين كاملين على تناقض مع الجهتين الرائدتين في العراق الحديث، السلطة الاتحادية وقواها السياسية المقربة من إيران، وإقليم كردستان وأحزابه الرئيسة. لأجل ذلك استُبعد التركمان من الفاعلية السياسية، ومانعت الكثير من القوى العراقية تحقيق تطلعاتهم".