أهالي غزة بين جحيم الحرب ومافيا الحوالات المالية

صراف آلي واحد و"بلطجية" وتجار عملة جشعون والعملات الرقمية هي البديل

Shutterstock
Shutterstock
فلسطينيون يستلمون مخصصات مالية كجزء من المساعدات التي تقدمها دولة قطر، في مكتب بريد في مدينة غزة، 13 يوليو 2019

أهالي غزة بين جحيم الحرب ومافيا الحوالات المالية

منذ العام المنصرم، ومع بدء الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة في الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول 2023، تفاقمت العديد من المشاكل والأزمات التي واجهها سكان قطاع غزة البالغ عددهم مليونين و300 ألف فلسطيني، بسبب الحرب، منها أزمة انقطاع الكهرباء والماء وغاز الطهي واختفاء الخضروات والفواكه وغيرها من المستلزمات، بالإضافة إلى أزمات أساسية في عمليات تسلم الحوالات المالية من الخارج وصرفها نقدا ليتمكنوا من شراء المستلزمات.

تصاعدت الأزمات المالية لسببين؛ الأول، تعثر استقبال حوالات مالية من الخارج بشكل كبير، والثاني، استهداف المصارف والصرافات الآلية التابعة لها في القطاع، أبرزها بنك فلسطين، باستثناء صرافَين آليين اثنين يعملان بشكلٍ متقطع حتى الآن. هذا إضافة إلى عدم قدرة المصارف على تأمين موظفيها واستدعائهم للعمل، وعدم توفر البديل.

في الأشهر الأولى للحرب، ركز الأقارب والأصدقاء وأرباب العمل في الخارج، على اعتماد "ويسترن يونيون" و"موني غرام" لإرسال الحوالات المالية الفورية، حيث كان لا يزال واحد أو اثنان من مكاتب صرافة العملات يعملان على مستوى القطاع. وأقبل الناس بالعشرات وبشكل يومي على أبواب المحلات، في جنوب القطاع تحديدا، إلا أنّ الأمر لم يستمر طويلاً، أولا بسبب عدم قدرة العاملين في هذا المجال على تيسير الأعداد الكبيرة من أصحاب الحوالات المالية.

يرتبط النظام المالي الفلسطيني بالنظام المالي الإسرائيلي منذ إنشاء السلطة الفلسطينية عام 1994، ويعود ذلك إلى عدم سماح إسرائيل للسلطة، بإصدار عملة فلسطينية

أما السبب الثاني، فهو الضغط الإسرائيلي لتقنين عمليات التحويل، بحجة تمويل منظمات "إرهابية". هذا عدا عمليات القصف الإسرائيلي المتعمد لمحلات الصرافة وللعاملين في مجال الحوالات المالية من الخارج.

بلطجة وسط الأزمات

يرتبط النظام المالي الفلسطيني بالنظام المالي الإسرائيلي منذ إنشاء السلطة الفلسطينية عام 1994، ويعود ذلك إلى عدم سماح إسرائيل للسلطة الفلسطينية، التي أنشأت سلطة النقد الفلسطيني، بإصدار عملة فلسطينية.

غيتي
ماكينة صراف آلي لبنك فلسطين معطلة في رفح، غزة، في 2 أبريل 2024.

واستمر الفلسطينيون بتداول العملة النقدية الإسرائيلية، الشيكل، واستخدامها، إلى جانب ربط المصارف وعمليات التحويل بالنظام المالي الإسرائيلي، ليكون هو صاحب القرار والمتحكم بالنظام المالي والاقتصاد الفلسطيني ككل.

أسبوع انتظار في الطابور

يقول قاسم أبو شمالة، 36 عاما، يعمل في المجال الهندسي مع شركات عربية: "يعتمد عملي كله على استقبال حوالات مالية سريعة من العملاء في الخارج، لكن بعد الحرب أصبح لدي مشاكل مالية كثيرة، ولم أتمكن من استقبال أي حوالات مالية مع أنني كنت بأمس الحاجة إلى سيولة نقدية". ويوضح لـ"المجلة"، أنه كان يذهب بشكل يومي ليقف في طابور منذ ساعات الصباح الباكر حتى ساعات المساء أمام محل الصرافة لتسلم حوالة مالية، فلا يتمكن من ذلك إلّا بعد أسبوع من الانتظار، بسبب الطلب الكبير من الناس، إضافة إلى أن النقود المتوفرة لدى المحل الذي سيستلم منه التحويل كانت تنفد قبل وصول دوره.

"مافيا الصرافات الآلية"، وهم مجموعة من البلطجية الذين يسيطرون على الصراف الآلي ويمنعون استخدامه بشكل مباشر إلا عن طريقهم، في مقابل استقطاع 10 إلى 15% من قيمة المبلغ المراد سحبه من الصراف

ولم تكن مشكلة الانتظار لأيام للحصول على قيمة الحوالات المالية هي الوحيدة، حيث عمل أصحاب المهنة على اقتطاع 5 في المئة من قيمة مبلغ الحوالة الإجمالي، بحسب العديد من الشهادات، كما أجبر أصحابها على استلامها بالشيكل الإسرائيلي وليس بالعملة الأجنبية المرسلة في الأصل، الدولار الأميركي مثلا، مما يعرضهم مرة أخرى إلى خسارة جزء من قيمة الحوالة النقدية بسبب فرق العملات وصرفها بقيمة أقل من قيمتها السوقية بعدة شواكل.

استمر الحال على ما هو عليه، لكن الغزيين واجهوا مشكلة ثانية أمام الصراف الآلي التابع للمصارف الفلسطينية، حيث كان هناك عدد كبير من المواطنين يسعى للحصول على راتبه الشهري من طريق المصرف، وكان آخرون يحاولون سحب النقد من حساباتهم المصرفية. ونظرا الى الحاجة الكبيرة للحصول على النقد، اضطر الغزيون للوقوف في طوابير طويلة أمام الصرافات الآلية التي كانت لا تزال تعمل في جنوب قطاع غزة، ليظهر  بسبب هذا الوضع ما سموه بـ"مافيا الصرافات الآلية"، وهم مجموعة من البلطجية الذين يسيطرون على الصراف الآلي ويمنعون استخدامه بشكل مباشر إلا عن طريقهم، في مقابل استقطاع 10 إلى 15 في المئة من قيمة المبلغ المراد سحبه من الصراف.

Shutterstock
تطبيق ويسترن يونيون المالي المخصص للحولات الدولية

وكانت شدة الحرب والقصف الإسرائيلي واختفاء الأمن الفلسطيني التابع لحركة "حماس" التي كانت تسيطر على الحكم في القطاع منذ عام 2007، من الأسباب الرئيسة التي سمحت لتلك المافيات بالانتشار دون محاسبة.

تاجر العملة شريكا في الراتب

واتسم النصف الأول من عام الحرب بتلك الممارسات، لكن بسبب توقف استقبال الحوالات المالية الفورية، وخروج غالبية المصارف من الخدمة، صارت الطريقة الوحيدة لسحب الأموال من الحسابات المصرفية، هي السيولة النقدية المتوفرة في أيدي التجار وتجار العملات، ويتم ذلك من طريق استخدام التطبيقات المصرفية عبر الهواتف الخليوية، أبرزها التطبيق التابع لبنك فلسطين وهو الأكثر تداولاً بين الغزيين. وتتم العملية من خلال تحويل العميل حوالة مالية فورية عبر حسابه على التطبيق المصرفي إلى حساب تاجر العملات فيمنحه هذا الأخير المبلغ نقدًا بعد اقتطاع قيمة الفائدة التي وصلت أخيرًا إلى 20 في المئة من قيمة المبلغ الإجمالي.

نحن مضطرون ولسنا مخيرين، الحرب أجبرتنا على أن نخسر بيوتنا وعملنا وأقاربنا، وكذلك نخسر مالنا، وبات تاجر العملة شريكا معنا في الراتب أو في الحوالات المالية الخاصة بنا

سامي الشنعوبي، فلسطيني من سكان غزة

يقول سامر الشغنوبي، 42 عاما، أنّه في حاجة إلى توفير النقود بشكل دائم حتى يتمكن من تأمين احتياجات أسرته، مشيرًا إلى أنه وبسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية الأساسية في الأسواق وغيرها من الاحتياجات، يضطر إلى سحب مبالغ مالية أكبر مما كان يحتاجه شهريا قبل الحرب. 

ويضيف "نحن مضطرون ولسنا مخيرين، الحرب أجبرتنا على أن نخسر بيوتنا وعملنا وأقاربنا، وكذلك نخسر مالنا، وبات تاجر العملة شريكا معنا في الراتب أو في الحوالات المالية الخاصة بنا".

لم تتوقف المشاكل والأزمات النقدية عند هذا الحد، حيث ظهرت مشكلات إضافية مثل انتشار العملات المهترئة التي يرفضها الباعة عند شراء المستلزمات، وبعضهم أصبح يرفض البيع ببعض الفئات مثل فئة العشرة شيكل، وهي نقود معدنية، بحجة انتشار كميات تالفة ومزورة منها، في وقت يفرض تجار العملات تلك الفئات من النقود أو الأوراق المهترئة والقديمة على أصحاب السحب النقدي بحجة أنها "هيدا المتوفر، مش عاجبك ما تسحب"، وهي الجملة التي يرددها غالبيتهم لعملائهم المضطرين للسحب النقدي.

البحث عن بدائل

ويقول الشغنوبي "أصبح لدي في المنزل مبلغ مالي تالف، ولا يوجد مصرف نستبدل منه العملات المهترئة، ولا أحد يقبل بأخذها عندما نشتري منهم، وصارت هذه خسارة إضافية فوق خسارتنا بنسب السحب النقدي المرتفعة".

انتشرت المحافظ على هواتف الغزيين الذين يستقبلون مبالغ مالية من الخارج، إما من أقارب أو بدل التفرغ لعمل ما، أو الناشطين على تطبيق التواصل الاجتماعي "تيك توك"، حيث يتلقون التبرعات من الآخرين

مع تصاعد الأزمات المالية الاقتصادية وتقييد التحويلات المالية من الخارج، لجأ العديد من الغزيين الى البحث عن بدائل، لا سيما أن بعض الدول والمصارف الدولية في الخارج أصبحت ترفض أي حوالة مالية مُرسلة إلى قطاع غزة بسبب التخوف من أن تتهمها إسرائيل بتمويل منظمات "إرهابية".

إقرأ أيضا: "7 أكتوبر" بعد عام: هل كان مدروسا؟

سمير عبد العاطي، ٣٥ عاما، يعمل مع شركات في الخارج وكان يستقبل حوالات مالية عبر حسابه المصرفي بشكل طبيعي قبل الحرب وخلال الأشهر الأولى من عمرها، إلا أنه ومنذ 7 أشهر بدأ يواجه مشكلة عدم قدرة عملائه في الخارج على تحويل الأموال إلى حسابه المصرفي بسبب وجوده في قطاع غزة، ليبدأ البحث عن بدائل. وأبلغ "المجلة"، أنّه اضطر في البداية الى الطلب من العملاء التحويل إلى صديق له في الأردن، ثم الطلب من أصدقاء نقل المبلغ المالي أثناء عودة أحدهم إلى الضفة الغربية وإيداع النقود في حسابه المصرفي بشكل سلس، "لكن أيضا لم يكن بالإمكان الطلب منهم باستمرار، كان هناك حاجة لطريقة ثانية بعيدة عن الاحراجات".  

سأل وبحث كثيرًا حتى توصل إلى العملة الرقمية (USDT)، التي يتم تداولها من طريق محفظة تدار عبر تطبيق على الهاتف الجوال، حيث يرسل العميل حوالة مالية الى حساب الشغنوبي، ثم يحول قيمة المبلغ إلى حسابه المصرفي بشكل سهل مع خسارة مبلغ بسيط هو ثمن رسوم الحوالات المالية.

الشغنوبي ليس وحده من يتعامل بتلك العملة الرقمية، إذ انتشرت المحافظ على هواتف الغزيين الذين يستقبلون مبالغ مالية من الخارج، إما من أقارب أو بدل التفرغ لعمل ما، أو الناشطين على تطبيق التواصل الاجتماعي "تيك توك"، حيث يتلقون التبرعات من الآخرين ثم يعملون على تحويلها. لكن، ومع تسهيل التحويل من الخارج، تبقى عمليات السحب النقدي من تجار العملات في قطاع غزة أمرًا مكلفًا للمواطنين المنهكين من الحرب وانعكاساتها على حياتهم اليومية.

font change

مقالات ذات صلة