عن رواية "سيد الذباب" التي لا تزال تذكّر بطبيعة البشر الوحشية

ردّ على الصورة التجميلية لأدب الاستعمار

Getty images
Getty images

عن رواية "سيد الذباب" التي لا تزال تذكّر بطبيعة البشر الوحشية

أكملت رواية "سيد الذباب"، عامها السبعين تقريبا، وهي أنجح أعمال الكاتب البريطاني ويليام غولدينغ الحائز جائزة نوبل في الأدب عام 1983، وأكثر الروايات التي ما زالت تثير الجدال إلى يومنا هذا. نُشرت الرواية التي كتبت عام 1952، بعد الرفض الذي أبداه بعض دور النشر، في عام 1954، بفضل اهتمام ت. إس. إليوت بمحتواها الخارج عن المألوف. كان إليوت نفسه هو من اختار العنوان النهائي بدءا من الترجمة العبرية لاسم "بعلزبول"، الذي هو في الأصل كلمة آرامية "بَعل زبُوب"، أي "سيد الذباب"، ويمثل رمز الشرّ الذي يطغى على الجزء الثاني من الرواية. وكان إليوت مصيبا في منح الثقة لرواية غولدينغ التي ابتدأ بها مسيرته الأدبية، لما حظيت به من نجاح هائل وغير متوقع فور صدورها، حيث بيعت منها ملايين النسخ في جميع أنحاء العالم، بالإضافة إلى استلهام فيلمين من قصتها.

تفسح الرواية المجال لقراءة رمزية ومجازية للشخصيات ومغامراتهم داخل العالم المصغّر الذي ينبض بالحياة في الجزيرة. من بين طيات القصة الرائعة، يتجسد موضوع الصراع الدائم بين الخير والشر، بين العقل والغريزة. سلوكيات متغايرة تتجسّد في شخصيات جاك، كناية عن العنف الوحشي وغير العقلاني، ورالف كناية عن الخير والتسامح، وبيغّي كتعبير عن الحكمة والعقلانية. هذه الشخصيات ذات القيم الإيجابية يطغى عليها أفراد شرسون وعنيفون، مثل روجر الذي يمثّل المكوّن الوحشي للنفس البشرية، الغريزة والقوة الغاشمة، من له اليد العليا على العقل. سطوة تبلغ ذروتها بموت بيغّي، الذي سحقته صخرة دحرجها روجر، كاستعارة للغريزة التي تسحق العقل وتقتله.

الادب الاستعماري

استوحى غولدينغ القصة من رواية "جزيرة المرجان" لروبرت مايكل بالانتاين التي صدرت عام 1858، وهي إحدى الروايات العديدة التي قدّمت الاستعمار البريطاني بوصفه قوة حضارية وليس كقوة مهيمنة، وقد فعل ذلك بنيّة محضة تتمثل في السخرية من الرواية الآنفة الذكر وقلب الصورة النمطية التي كانت منتشرة على نطاق واسع في أدب الأطفال والمراهقين في ذلك الوقت. ذات يوم سأل غولدينغ زوجته: "ماذا لو كتبت كتابا أبطاله من الأطفال ويتصرفون بعفوية الأطفال؟". وتبين في ما بعد أن الفكرة كانت جيدة، الى درجة أن المحاكاة الساخرة اكتسحت الأصل، وأصبحت رواية "سيد الذباب" نموذجا كلاسيكيا، في حين أن مصدر إلهامها لا يُذكر إلا في ما يتعلق بسياقها. قليلون اليوم يتذكّرون أن رالف وبيغّي وجاك، الشخصيات الرئيسة في رواية "سيد الذباب"، بالإضافة إلى شخصية سيمون الغامضة، ليست سوى محاكاة كاريكاتورية للأصل ويمكن التعرّف اليها بسهولة في شخصيات "جزيرة المرجان".

أصدر العديد من الكتّاب الإنكليز أعمالا تعكس الأيديولوجيا الاستيطانية وتروجها، وغالبا ما كانت هذه الأعمال تقدّم الأراضي المُستَعْمَرة على أنها أماكن يسودها الغموض وتطغى عليها الهمجية

لا بد من التوقف هنا عند الدور المهم الذي لعبه الأدب الإنكليزي في دعم الاستعمار البريطاني وتبريره، فخلال تلك الفترة، أصدر العديد من الكتّاب الإنكليز أعمالا تعكس الأيديولوجيا الاستيطانية وتروجها، وغالبا ما كانت هذه الأعمال تقدّم الأراضي المُستَعْمَرة على أنها أماكن يسودها الغموض وتطغى عليها الهمجية، مما يبرر الهيمنة البريطانية. لم يساهم الأدب الاستعماري في نشر الأيديولوجيا الاستيطانية فحسب، بل ترك أيضا آثارا كارثية على مفاهيم ثقافات الشعوب المُستَعْمَرة، حيث غالبا ما صُوّرت على أنها لا أهمية لها أو أنها، على أقل تقدير، بحاجة إلى التحضّر. رواية "روبنسون كروزو" لدانيال ديفو مثلا، يُنظر إليها بوصفها احتفاء بالفردية والتوسّع الاستعماري الإنكليزي، بينما "رحلات غوليفر" لجوناثان سويفت، على الرغم من كونها تحمل طابع السخرية، تعكس أيضا الأفكار الاستعمارية في ذلك الوقت. وكان روديارد كبلينغ من أشد المتحمّسين والمؤيّدين لفكرة الاستعمار معتبرا إياه مهمة حضارية، وهو ما أوضحه بصراحة في أعماله مثل "كتاب الغابة" و"عبء الرجل الأبيض". في العقود الأخيرة، سلّط النقد ما بعد الكولونيالي الضوء على الجوانب الإشكالية للأدب الاستعماري، موضّحا كيف ساهمت هذه الأعمال في تعزيز الصور النمطية وتبرير توسّع الإمبراطورية البريطانية على وجه الخصوص في المشرق العربي. وقد حلّل باحثون مثل إدوارد سعيد، من خلال كتابه "الاستشراق"، كيفية تمثيل الأدب الغربي للشرق بطريقة مشوّهة والحطّ من تراثه الحضاري.

الطبيعة البشرية

أثّرت تجربة غولدينغ كجندي خلال الحرب العالمية الثانية بعمق على رؤيته للعالم وعلى كتاباته التي تُظهر تشاؤمه تجاه الطبيعة البشرية وإمكان الحفاظ على النظام دون وجود هيكل سلطوي. عند نشر "سيد الذباب"، تباينت الآراء حولها، فأشاد بها بعض النقاد لعمقها وما تحمله من رموز تدعو إلى التأمل، في حين وجدها آخرون متشائمة وكئيبة للغاية. ولكن مع مرور الوقت، أصبحت الرواية من كلاسيكيات الأدب الإنكليزي وغالبا ما تُدرّس في المدارس والجامعات البريطانية وفي دول أخرى، حيث تظل عملا كلاسيكيا عن الطفولة والمراهقة وخيارا كلاسيكيا أوليا بالقدر نفسه لقراءات حصص اللغة الإنكليزية، كونها رواية قصيرة مليئة بالمغامرات والأفكار ومكتوبة بطريقة بسيطة، أو ما يمكن تسميته بالسهل الممتنع.

هذا على العكس من اليمين الديني المتطرف في الولايات المتحدة الأميركية الذي وضعها في قفص الاتهام وحظرها تسع مرات على مر السنين في ولايات مختلفة، كان آخرها الحظر الذي فرضته ولاية فلوريدا في عام 2009، ولا يزال الكتاب الثامن الأكثر حظرا في المكتبات والمؤسسات العامة والمدرسية في أميركا. وهو ما يمكن قراءته أيضا بوصفه دليلا على حيوية هذه الرواية الصغيرة، التي لا تزال تثير حفيظة المتعصبين لدى سماعهم قصة هؤلاء الأطفال والمراهقين الذين يجدون أنفسهم وحيدين في جزيرة غير مأهولة ذات طبيعة خلابة، وبحيرة ذات مياه صافية تحيط بها أشجار النخيل وشتى أنواع النباتات، وهي مكان لقاء بطلي الرواية الأولين، رالف الصبي الأشقر الذي يبلغ من العمر اثني عشر عاما، وطفل بدين يعاني من قصر النظر، ملقّب بالخنزير الصغير "بيغّي". يعثر الطفلان على قوقعة بحرية بيضاء كبيرة ويقرران استخدامها بوقا لنداء بقية الناجين. يجذب الصوت المهيب التوأم سام وإيريك رفقة أطفال آخرين وجوقة موسيقية يقودها جاك الأسمر.

من بين أعضاء الجوقة، يبرز سيمون خجولا ولا يميل إلى التفاعل مع الأولاد الآخرين الذين يسخرون منه بسبب إصابته بين الفينة والأخرى بنوبات الصرع، وروجر، الصغير الحذر والمنعزل تقريبا، كأنه يشعر بالرعب من الصحبة، إلا أن غياب البالغين يفسح الطريق ليتشكل في أذهان الأولاد الناجين وهم جنة الألعاب والمرح الجامح. لكن القيم التربوية التي لا تزال حية في ضمائرهم، كانت تذكّرهم بواجب بناء مجتمع يقوم على احترام القواعد الأساسية للبقاء في ذلك العالم دون مساعدة الكبار. بادئ ذي بدء، تنشأ الحاجة إلى انتخاب قائد، فيتم انتخاب رالف قائدا للمجموعة، الذي يبدو على الفور حذقا ويتمتع بكاريزما تمكّنه من السيطرة على الوضع. استنادا إلى نصائح بيغّي الحكيمة، الذي سرعان ما يصبح موضع سخرية بسبب مظهره الأخرق والسقيم، يوزّع رالف المهام بين الأولاد، كبناء الأكواخ على الشاطئ، وتأمين الغذاء من خلال الصيد في الغابة، وهي المهمة التي يتعهد بها صبية الجوقة رغم أن جاك يبدو أنه لا يقبل بارتياح هيمنة رالف. ومع ذلك، فإن القرار الأهم يتعلق بإشعال نار كبيرة على الجبل الذي يطلّ على الجزيرة على أمل أن يجذب الدخان المتصاعد انتباه السفن المارة لإنقاذهم.

العودة إلى الغرائز

بعد مرحلة أولية حماسية ومندفعة، اتسمت بالنظام والتعاون، كان من المحال ألا يتدهور الوضع. إذ يبدأ الأطفال والمراهقون في إهمال واجباتهم، ويتركون أنفسهم للعب والمرح، ويتوقفون عن بناء الأكواخ وحتى إبقاء النار مشتعلة. يبدأ الانجذاب إلى الصيد، الذي كان ضروريا في البداية للبقاء على قيد الحياة، في ممارسة جاذبية غريزية وبدائية لا تقاوم لدى معظم الأولاد الذين سئموا تحذيرات ونداءات رالف، وبدأوا في الانضمام إلى مجموعة الصيادين. النظام شبه الديمقراطي الذي أنشأه رالف وبيغّي يبدأ بالانهيار مع ترسّخ نموذج المجتمع الاستبدادي والعنيف والقبلي تقريبا الذي فرضه جاك.

من هنا، فإن كتاب "سيد الذباب" له دلالة أنثروبولوجية وفلسفية قوية لأنه يشكل رمز التصور المتشائم للطبيعة البشرية، التي يعتبرها غولدينغ شريرة في جوهرها، وأن الإنسان مكرّس بطبيعته للشر تجاه الآخرين وتجاه المجتمع، وهي رؤية تتلخص في عبارة لا لبس فيها: الإنسان ينتج الشر كما ينتج النحل العسل.

إن اختفاء الأسماء، وهي التسميات التي فرضها المجتمع المدني والتي لا يمكن الرجوع إليها في الجزيرة، يرمز إلى فقدان الفردية والانحدار نحو حالة بهيمية، نوع من "القطيع" البشري الذي يقوده العنف والغريزة حيث حتى الصغار ينتهي بهم الأمر إلى نسيان أسمائهم. من جهة أخرى، لا توجد مراجع زمنية في الكتاب، ولم يحدد المؤلف العصر الذي تدور فيه أحداث السرد، ولا مدة بقاء الأولاد في الجزيرة، المعلومات الوحيدة التي تظهر من حواراتهم هي اقتراب صراع كوني، كل هذا يعطي بعدا عالميا للعمل الذي تتوسع حدوده بمرور الوقت.

وحشية المجموعة ترجع أساسا إلى حقيقة أن الثقافة الغربية، بقصارى إمكاناتها، يمكنها في أقصى الأحوال إخفاء الدوافع البشرية الحقيقية

يمكن القول إنها إحدى تلك الروايات التي تترك طعما سيئا في الفم عند قراءتها، ولا يسع المرء إلا أن يشعر بإحساس من الألم والتوتر في مواجهة العنف وانعدام الضمير الذي يهيمن على مجريات الأحداث، وعلى مشاهد الصيد أو الضراوة والوحشية التي رافقت مقتل سيمون. إن من أجمل صفحات الرواية بأكملها وأكثرها تأثيرا هو ذلك التناقض بين إثارة القتال، الذي يؤكده إيقاع السرد الملحّ، والهدوء غير الواقعي تقريبا للمراحل التي يتم فيها سحب جسد سيمون الهامد بعيدا عن الأمواج، والطبيعة الساكنة بكل عظمتها في وجه البؤس الإنساني.

يبقى أن نذكر أن الموضوع السائد في الرواية يتعلق بالرؤية المتشائمة لمفهوم الإنسان، الذي يعتقد المؤلف أنه "سيئ" في جوهره، سواء في الطبيعة أو في المجتمع. بينما الموضوع المهم الثاني يتعلق بتحول الأطفال، أبطال القصة، إلى مجموعات قبلية همجية. في الواقع، تتضمن الرواية نوعا من "الوحشية الجماعية"، حيث يبدأ أبطال القصة، بقيادة نسخة مصغّرة من كورتز، بطل قصة "قلب الظلام" لجوزيف كونراد، أي جاك، بتقديم الأضاحي البشرية. تنتهي الرواية بضابط إنكليزي يقول:إنه كان يتوقع شيئا أفضل من الأطفال الإنكليز. تصريح يشير بشكل مثير للسخرية والمأسوية إلى أن تزايد وحشية المجموعة يرجع أساسا إلى حقيقة أن الثقافة الغربية، بقصارى إمكاناتها، يمكنها في أقصى الأحوال إخفاء الدوافع البشرية الحقيقية، التي تقدم نفسها هنا على أنها الرغبة في الهيمنة، حتى لو أدّى ذلك إلى استعمال كل الوسائل المتاحة.

font change

مقالات ذات صلة