الاستثمارات الكويتية... ضرورة الترشيد والحوكمة على غرار النروج

استخدام عوائد الصندوق السيادي قد يكون ضرورياً بعد سنوات

Shutterstock
Shutterstock

الاستثمارات الكويتية... ضرورة الترشيد والحوكمة على غرار النروج

بعد ارتفاع عوائد النفط في مطلع خمسينات القرن الماضي قرر الأمير الراحل الشيخ عبد الله السالم الصباح تأسيس صندوق سيادي بمعرفة البريطانيين لإدارة الأموال التي أودعت فيه. مثّل قيام ذلك الصندوق تطوراً مهماً في الفكر الاقتصادي في الكويت وعزز قدراتها المالية في مرحلة تاريخية كانت الدول النامية تعاني من المصاعب الحياتية وتواضع القدرات في الإدارة المالية.

تطور الاستثمار الخارجي على مدى العقدين التاليين، وفي عام 1976 عندما كان الأمير الراحل الشيخ جابر الأحمد الصباح ولياً للعهد ورئيساً للوزراء تم إصدار مرسوم بإنشاء صندوق احتياطي الأجيال القادمة. ظلت الاستثمارات الخارجية منوطة بإدارة الاستثمــار فــي وزارة المالية، التي كان يشرف عليها المرحوم خالد أبو السعود والذي كان مستشاراً مالياً للمرحوم الشيخ جابر الأحمد الصباح. استمر الاعتماد بصفة رئيسة على مكتب الاستثمار في لندن لإدارة الإصول.

قرار تأسيس صندوق احتياطي الأجيال القادمة اقترن بإلزامية استقطاع 10 في المئة من إيرادات الدولة سنوياً تسدد للصندوق.

اقترن قرار تأسيس صندوق احتياطي الأجيال القادمة بإلزامية استقطاع 10 في المئة من إيرادات الدولة سنوياً تسدد للصندوق

ظل الصندوق يتمتع بتدفقات مهمة بما عزز قدراته على اقتناء الأصول المسعرة والأصول العقارية ورفع إيداعاته النقدية. تطورت الأوضاع المؤسسية عندما تم تأسيس الهيئة العامة للاستثمار لتشرف على توظيف الأموال السيادية بما في ذلك أموال صندوق الأجيال القادمة في عام 1982.

الحرب العراقية الإيرانية والأخطار الأمنية

عانت الكويت اقتصادياً في الأعوام التي تلت تأسيس الهيئة العامة للاستثمار. نشبت الحرب العراقية الإيرانية وواجهت البلاد اخطارا أمنية غير مسبوقة واضطرت لتقديم الدعم اللوجستي والمالي لدولة العراق التي تورطت في حرب طويلة مع إيران واستنزفت احتياطياتها المالية من أجل الإنفاق العسكري.

Shutterstock
ترشيد الاستثمار ضمانة الاستدامة المالية في الكويت.

في الوقت نفسه واجهت الكويت أزمة سوق المناخ وارتفاع مديونية شركات وأفراد القطاع الخاص وانكشاف النظام المصرفي، مما اضطر الحكومة لإصدار تشريعات لتعويم المتعاملين بالأوراق المالية الذين عجزوا عن أداء التزاماتهم بعد إصدار شيكات الأجل المبالغ في قيمتها. واستمرت الأزمة حتى نهاية الاحتلال وعودة الحياة النيابية عندما صدر قانون المديونيات الصعبة في عام 1993، القاضي بشراء الديون من المصارف مما دفع الهيئة العامة للاستثمار إلى تسديد ما يزيد على 4.3 مليارات دينار كويتي (14 مليار دولار) للبنوك لتسوية ديون المتعاملين في سوق الأوراق المالية قبل الاحتلال العراقي في عام 1990.

كلفت عملية التحرير التي قام بها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ما يقارب 54 مليار دولار، ساهمت الكويت بـ 16 مليار دولار منها، اقتطعت من احتياطي الأجيال القادمة

بعد الاحتلال العراقي للكويت فرضت التزامات واستحقاقات على الحكومة أهمها مساهمة الكويت في تكاليف تحرير البلاد. كلفت عملية التحرير التي قام بها التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ما يقارب 54 مليار دولار ساهمت الكويت بـ 16 مليار دولار اقتطعت من احتياطي الأجيال القادمة. كانت هناك تكاليف باهظة ناتجة من الاحتلال وعمليات التحرير وإعادة تأهيل قطاع النفط بفعل الحرائق المتعمدة من قوات الاحتلال. 

هذا ناهيك عن إعادة تأهيل البنية التحتية المدنية والإدارة الحكومية والمرافق الحيوية. كانت قيمة الاحتياطيات في الصندوق السيادي عشية الاحتلال في عام 1990 لا تتجاوز الـ 90 مليار دولار. بعد التحرير اتضحت مشكلات عدة تتعلق بتوظيف الأموال، وظهرت في العديد من الاستثمارات في إسبانيا وغيرها بما أثقل على الهيئة العامة للاستثمار. لكن الأمور صارت أكثر إيجابية بعد ارتفاع أسعار النفط، وتحسن التدفقات للصندوق، بما عزز إمكانات ارتفاع القيمة على مدى السنوات اللاحقة. وتأثر صندوق احتياطي الأجيال القادمة بتراجع أسعار النفط منذ عام 2014 بعد تحقيق عجوزات في الموازنة العامة على مدى سنوات مالية متتالية، مما دفع الحكومة ومجلس الأمة لاتخاذ قرار وقف تخصيص الـ 10 في المئة من قيمة الإيرادات السيادية المخصصة للصندوق.

تطوير استراتيجيات الاستثمار على غرار النروج

تأسس صندوق احتياطي الأجيال القادمة من أجل ضمان استدامة المالية العامة، وعندما تبين أن إيرادات النفط لم تعد كافية لتسديد التزامات الإنفاق العام، لم تقم حكومة الكويت بالاعتماد على عائدات الصندوق السيادي لدعم إيرادات الخزينة العامة. هناك نماذج أخرى من الصناديق السيادية، حيث يوظف الصندوق السيادي في النروج إيرادات النفط في أفضل الأدوات الاستثمارية ويخصص العائدات للإنفاق على الرعاية الصحية والتعليم.

تصل عائدات الصندوق السيادي الكويتي إلى ما يقارب الخمسين مليار دولار سنوياً بموجب تقديرات المختصين بالشؤون الاستثمارية

 تعتمد حكومة النروج على الإيرادات النفطية، ولكنها توظفها بالكامل. أما الكويت فتعمد بشكل أساسي على إيرادات النفط للإنفاق العام، وما يفيض عن الإنفاق العام يتم رصده للصندوق السيادي. لكن عائدات الصندوق تجري إعادة توظيفها. لم يتم السحب من احتياطيات الأجيال القادمة إلا خلال فترة الاحتلال لمواجهة الأعباء ومتطلبات التحرير بعد توقف تدفق إيرادات النفط. وحاليا تطرح تساؤلات عما إذا آن الأوان للاعتماد على العائدات التي تصرف ما يقارب التريليون دولار في دعم موازنة الدولة ومواجهة العجز المتوقع.

Shutterstock
أوراق نقدية من الدينار الكويتي.

تصل عائدات الصندوق السيادي الكويتي إلى ما يقارب الخمسين مليار دولار سنوياً بموجب تقديرات المختصين بالشؤون الاستثمارية. هناك من يعارض أي توجهات للاعتماد على عائدات الاستثمارات الخارجية ويؤكد أهمية تعزيز قيمة الصندوق السيادي لمواجهة متطلبات الأجيال القادمة بعد عقود زمنية يمكن أن تتضح خلالها تطورات اقتصاديات الطاقة.

استشعار المتغيرات وأمانة مديري الاستثمار

يهتم الاقتصاديون في الكويت بتطوير الاستراتيجيات الاستثمارية وتعزيز القدرات على توزيع الأخطار جغرافيا وحسب العملات الرئيسة وتجنب الاستثمار في البلدان غير المستقرة سياسياً أو التي تعاني من تدهور مستمر في أوضاعها الاقتصادية. كما يؤكد الخبراء دور مديري الاستثمار والتثبت من حسن الأداء وإجراء المراجعات الدورية، حيث أن الكويت تعتمد على بنوك استثمارية ومؤسسات مالية عالمية لإدارة المحافظ. معلوم أن الأوضاع في الأسواق المالية قابلة للتغيير لأسباب عدة منها تبدل السياسات الاقتصادية والمالية والنقدية في البلدان المضيفة وتأثيرها على الأسواق أو تغير سعر صرف العملات التي تقوم بها الأصول الاستثمارية.

يجب أن تعتمد إدارة الاستثمار واستخدام عوائده على استراتيجيا محددة للتنمية والاستدامة المالية وتأكيد أهمية خفض مخصصات الإنفاق العام وإصلاح الهيكل الاقتصادي

لا يستطيع مديرو الاستثمار التأثير في السياسات الاقتصادية والنقدية في البلدان المضيفة، لكنهم يجب أن يتحلوا بالقدرة على استشعار المتغيرات وأهمية التحوط لحماية الأصول، أو الانتقال في الوقت المناسب من أداة استثمارية إلى أخرى أكثر جودة وإدراراً للعائد. معلوم أن إدارة الاستثمار هي علم اقتصادي، بالإضافة إلى أهمية قياس خبرات المديرين وأمانتهم للحفاظ على قيمة الأموال وتنميتها.

أهمية ترشيد الانفاق والاستدامة المالية

يظل ترشيد الإنفاق العام خلال السنوات المقبلة هدفاً أساسياً من أجل ضمان عدم الاضطرار للسحب من احتياطي الأجيال القادمة. واستمرت موازنة الحكومة الكويتية تنمو خلال العقدين الماضيين وهي تتجاوز الـ 24 مليار دينار (79 مليار دولار)، في السنة المالية الحالية 2024/2025، بما يؤكد أن الإيرادات النفطية لن تكون كافية لمواجهة مخصصات الإنفاق الجاري والإنفاق الاستثماري. إستخدام عوائد الاستثمار قد يكون ضرورياً بعد سنوات، وهو إجراء معمول به في عدد من البلدان التي تملك صناديق سيادية.  

 لكن هل يمكن دعم الاحتياطيات  بجزء من إيرادات النفط وغيرها من إيرادات سيادية كما كان معمولا به قبل سنوات ثم توريد جزء من العائدات من الاستثمار للإنفاق على متطلبات ذات أهمية مثل التعليم والرعاية الصحية؟ يجب أن تعتمد إدارة الاستثمار واستخدام عوائده على استراتيجيا محددة للتنمية والاستدامة المالية وتأكيد أهمية خفض مخصصات الإنفاق العام وإصلاح الهيكل الاقتصادي وتعزيز دور القطاع الخاص في مختلف القطاعات التي لا تزال الدولة مهيمنة عليها.

font change

مقالات ذات صلة