مع الضربات المتتالية التي تشنها إسرائيل ضد قيادات ومخازن "حزب الله"، ومع حجم الاختراق الكبير والمفاجئ لتركيبة "الحزب"، وبنيته العسكرية والسياسية، والتي أدت إلى اغتيال أمينه العام حسن نصرالله، ومن ثم المرشح ليكون خليفته هاشم صفي الدين، الذي يتردد أنه قُتل أيضا في غارة أخرى، إضافة إلى عملية "البيجر" و"التوكي ووكي"، ارتفعت أصوات تتهم إيران بأنها هي التي تقف وراء هذا الخرق، بل وذهب البعض أبعد من ذلك، بما فيهم بيئة "الحزب" نفسها، واتهمت طهران بـ"بيع الحزب" لإسرائيل مقابل بعض المكاسب الإضافية التي قد تحصل عليها بمفاوضاتها النووية.
ردة الفعل العاطفية هذه زادت حدتها بعد الرد الإيراني المحدود والمدروس على إسرائيل بعيد اغتيال نصرالله، وتكرار المسؤولين الإيرانيين أن بلادهم لن تنجر إلى حرب مباشرة مع تل أبيب، بل وعرقلتهم لأي حل ينهي معاناة اللبنانيين ويوقف الحرب، بعدما جاء رفض فك الارتباط بين الحرب على لبنان، والحرب على غزة على لسان وزير الخارجية الإيراني خلال زيارته إلى بيروت، والذي تمسك خلالها بمقولة "وحدة الساحات".
ولكن بقليل من التعمق، قد تبدو هذه الاتهامات لطهران بعيدة عن الواقع، فمنذ قيام الجمهورية الإسلامية في إيران والنظام الإيراني يستثمر في "حزب الله"، ولا أظن أن إيران كانت مستعدة لخسارة بهذا الحجم، فـ"الحزب" ليس فقط أداة إيرانية، بل هو الأداة الأكثر قوة وأهمية في المشروع الإيراني، ويصح وصفه بأنه "يد إيران اليمنى".
الحزب" ليس فقط أداة إيرانية بل هو الأداة الأكثر قوة وأهمية في المشروع الإيراني، ويصح وصفه بـ"يد إيران اليمنى
وقبل عامين صرح رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت بأن إسرائيل انتقلت في العام الماضي، أي في عام 2021، لضرب ما وصفه بـ"رأس أخطبوط الإرهاب" وليس أذرعه فقط، كما حدث طوال العقد الماضي. وشهدت السنوات الأخيرة عمليات عسكرية واستخباراتية عدة، واغتيالات قامت بها إسرائيل داخل إيران وخارجها، وتحديدا في سوريا، إلى أن جاء "طوفان الأقصى" و"حرب الإسناد"، فكانت فرصة اعتبرها بنيامين نتنياهو فرصته التي لن تتكرر، لفك حصار إيران عبر ميليشياتها لإسرائيل، والقضاء على أي خطر محتمل قد تشكله إيران في المستقبل، وما زاد من قدرة نتنياهو على شن حربه دون إعلان صريح، هو انسحاب الرئيس الأميركي جو بايدن من السباق الرئاسي في الولايات المتحدة، فلم تعد الحكومة الإسرائيلية اليوم تأخذ بالاعتبار مواقف الإدارة الأميركية الحالية.
يعي نتنياهو جيدا كما تعي إسرائيل أن أي عملية خنق لإيران، سيأتي الرد عليها من قبل "حزب الله" أولا ومن قبل باقي ميليشيات إيران مثل "الحوثي" في اليمن، و"الحشد الشعبي" في العراق، وغيرهما من فصائل وميليشيات في المنطقة. وبالعودة قليلا إلى الأشهر الأخيرة، نرى أن معركة تل أبيب لضرب "حزب الله" وبنيته قد بدأت من لحظة إعلان "الحزب" دخوله في "معركة الإسناد".
فعلى مدى عام تقريبا، كانت إسرائيل تشن عمليات اغتيال دقيقة وموجهة تمكنت خلالها من قتل مئات القيادات في "الحزب"، قيادات ميدانية من الصف الثاني، قبل أن ترفع من مستوى عملياتها، لتبدأ بعد عملية "البيجر" في تصفية قيادات الصف الأول وصولا إلى الأمين العام ومن يخلفه، دون أن نغفل الضربات الموجعة والمؤثرة التي تتلقاها إيران في سوريا.
يصح القول إن معركة نتنياهو وسباقه مع الوقت هما لإلغاء مفاعيل "عقيدة أوباما" وضمان عدم إعادة تثبيتها أيا ما تكن نتيجة الانتخابات الأميركية
كذلك تعي طهران مدى الضعف الذي أصابها، وحجم الخسارة التي منيت بها، وواهم من يظن أن إعادة بناء "حزب الله" ليعود إلى ما كان عليه ممكنة، وبين طهران وتل أبيب أمام المنطقة أسابيع صعبة جدا، فنتنياهو يريد أن يلحق أكبر قدر من الهزائم بإيران قبل الانتخابات الأميركية، واستلام الرئيس/ة الأميركي/ة الجديد/ة مهامه/ا، وطهران تريد ممارسة أكبر قدر من ضبط النفس كي لا يتعرض "رأس الأخطبوط" لضربة مباشرة، إلى أن تتسلم الإدارة الأميركية الجديدة، والتي تأمل إيران أن تترأسها كامالا هارس لتعود إلى طاولة المفاوضات، ولذلك نسمع تصريحات المسؤولين الإيرانيين المطالبة باستمرار لبنان من خلال ما بقي من "حزب الله" بعملية الانتحار.
إذن يصح القول إن معركة نتنياهو، وسباقه مع الوقت هما لإلغاء مفاعيل "عقيدة أوباما" وضمان عدم إعادة تثبيتها أيا ما تكن نتيجة الانتخابات الأميركية. فما نراه اليوم من أخبار متلاحقة ومن ضربات وضربات مقابلة يجب أن لا يدفعنا للغرق في تحليل هذه التفاصيل، وأن لا يغطي على حقيقة الصراع الاستراتيجي في المنطقة، والذي تجلى إلى حد كبير في خطبة المرشد علي خامنئي يوم الجمعة عندما قال: "إن الغرب يحاول تحويل إسرائيل إلى منصة لتصدير النفط والغاز إلى أوروبا، ونقطة لاستيراد البضائع من أوروبا إلى المنطقة".
والمرشد الذي كان قد وضع خطة "إيران في أفق عام 2025" والتي أصبحت منذ عام 2003 الوثيقة الثانية الملزمة في إيران بعد الدستور، يدرك أن الصراع مع إسرائيل هو صراع على الدور والوظيفة، وهو صراع على المنطقة، وليس مجرد صراع في المنطقة.
وكي تحقق إيران حلمها لا بد من حماية استقرارها الداخلي ونظامها السياسي، وهو ما يتطلب من وجهة نظرها امتلاكها السلاح النووي.
لقد أنشأت إيران أذرعا قوية محيطة بإسرائيل مثل "حزب الله" لتلافي الاختلال في موازين القوى مع تل أبيب، ولمنعها من تدمير حلم إيران بامتلاك السلاح النووي، ولذلك كان دور "حزب الله" في حقيقة الأمر هو الدفاع عن البرنامج النووي الإيراني، ومنع إسرائيل من تدميره، وذلك عبر حشد عشرات آلاف الصواريخ على حدود إسرائيل الشمالية.
إن خسارة إيران لـ"حزب الله" تعني أن الداخل الإيراني بات مكشوفا، وأنه لن يكون هناك ما يمنع إسرائيل من تدمير منشآتها النووية، ولذلك تسعى طهران لضمان عدم وصول النار إليها، عسى أن يحمل التغيير في واشنطن معادلة تمنع إسرائيل من تدمير منشآتها النووية.