مصطلح تطغى عليه السياسة... ليس للشاعر مذهب بل مذاهبhttps://www.majalla.com/node/322505/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D9%88%D9%85%D8%AC%D8%AA%D9%85%D8%B9/%D9%85%D8%B5%D8%B7%D9%84%D8%AD-%D8%AA%D8%B7%D8%BA%D9%89-%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%87-%D8%A7%D9%84%D8%B3%D9%8A%D8%A7%D8%B3%D8%A9-%D9%84%D9%8A%D8%B3-%D9%84%D9%84%D8%B4%D8%A7%D8%B9%D8%B1-%D9%85%D8%B0%D9%87%D8%A8-%D8%A8%D9%84-%D9%85%D8%B0%D8%A7%D9%87%D8%A8
الشاعر الصعلوك، ونموذجُه عروة بن الورد، ليس له مذهب، وإنما له مذاهب. ومذاهبه هذه ليست معروفة أو متوقعة، وإنما هي مفتوحة على جميع التوقعات. مذاهب الشاعر هي كالمفاجآت. وهذا المعنى متحقق في قول عروة "مذاهبه أنّ الفجاجَ عريضةٌ". وكلمة "الصعلوك" في كلام عروة تعني الشاعر الحرّ، من جملة ما تعنيه من معان كثيرة. وحرية الشاعر هي في جوهرها نفي لكلّ شكل من أشكال "المذهبية"، أو "التمذهب".
لقد أُرهقت كلمة "المذهب" كثيرا، وصارت في كثير من المجالات مرادفا للتعصب، وربما للتخلف أو التحجر. واشتُقّ منها المصدر الصناعي "المذهبية"، الذي يعني مختلف أنواع الفرقة أو الشقاق في المجتمع. ومع ذلك، ظلّت كلمة "المذهب" تُستخدم ملحَقة بالشعر أو مضافة إليه، ولكن بصيغة الجمع في الغالب، كأنْ يقال "مذاهب الشعر" ويُقصد بها مدارسه أو تياراته أو اتجاهاته.
نادرا ما يقال "المذهب الشعري"، أو "مذهب الشعر". بينما يقال في العادة "مذاهب الشعر". ربما لأن جعْلَ المذهب مذاهبَ عند إضافته إلى الشعر يخفف وطأته عليه، يخفف ثقله الذي تأتى له من كثرة الاستعمال في المصطلَح السياسي، وكذلك في المصطلَح الديني أو الفقهي. إضافة كلمة "مذهب" إلى الشعر قد توحي بشيء من التناقض، نظرا لما تحمّلته هذه الكلمة من أثقال السياسة والفكر والدين، ونظرا لما يعنيه الشعر من تفلت وتحليق في فضاءات تعصى على أي تحديد أو تضييق أو ضبط.
ظلّت كلمة "المذهب" تُستخدم ملحَقة بالشعر أو مضافة إليه، ولكن بصيغة الجمع في الغالب، كأنْ يقال "مذاهب الشعر" ويُقصد بها مدارسه
نستطيع القول إن الشعر - بطبيعته - يتناقض مع كلّ تقوقع أو تعصب. لهذا، هو ينفر من "مذهب" أكثر من "مذاهب"، لأن الجمع هنا أكثر تسامحا من المفرد، لِما يعنيه من كثرة وتعدد، أو لنقلْ لأن المفرد أكثر صرامة من الجمع. وعبْر التاريخ، ظل الشعر الممثلَ الأبرز لمساحة الحرية، أو لفضائها، في أي مجتمع من المجتمعات.
النفور الذي تحدّثنا عنه بين كلمتي "الشعر" و"المذهب" ليس موجودا بين كلمات مثل "الفكر" و"الدين" و"الفلسفة" و"الفقه" و"السياسة" وحتى "الفن" من جهة، وبين كلمة "مذهب" من جهة ثانية. ولأن المدلول الثقافي لكلمة "الفكر" شامل لكل ما يتأتى عن أي نشاط من نشاطات الثقافة، فمن الممكن القول إن المذاهب على أنواعها ليست سوى مذاهب الفكر.
شعراء بلا مذاهب
في التصنيفات الشائعة للشعراء العرب، يحلو للمصنفين من مؤرخين أو دارسين أو نقاد أن يُلحقوا الشاعر بمذهب من المذاهب الدينية، وكأنهم يجدون في ذلك أمرا لازما، وإن كانوا يفتقدون الدليل على ذلك في ما نظمه الشاعر من قصائد. وهذا ينطبق خصوصا على شعراء في المرحلة العباسية تميّزت سِيَرهم بالتمرد الذي هو خلاف التمذهب. من هؤلاء الشعراء أبو نواس وأبو العتاهية وأبو تمام والبحتري وابن الرومي والمتنبي وأبو العلاء المعري. ربما يصح الكلام إزاء الواحد من هؤلاء الشعراء على طريقة خاصة به في قول الشعر، أي على مذهب فنيّ (أو مذاهب فنية). أما إدراجه في فئة عقائدية أو مذهبية دينية فأمرٌ يفتقر إلى مسوغات تُستقى من أقواله أو أشعاره. وليس أدلّ على ذلك من هذا البيت للمعري:
إذا سألوا عن مذهبي فهْو بيّنٌ
وهل أنا إلا مثل غيريَ أبلَهُ؟
إلى ما قبل الكلمة الأخيرة في هذا البيت، يبدو سياق الكلام عاديا، بل أقرب ما يكون إلى المألوف أو البديهي. ثم تأتي الكلمة الأخيرة (أبله) لتُحدث المفاجأة، وتقلب المتوقعَ إلى عكسه. في الشطر الأول، يوحي الشاعر لسائليه بأنه سيفصح عن مذهبه، الذي يصفه بأنه بيّن. ثم يعزز هذا الإيحاء بالسؤال الذي يبدأ به الشطر الثاني: وهل أنا إلا مثل غيري؟ تاركا في النهاية لكلمة "أبله" أن تصدم السائلين (عن مذهب الشاعر)، وتجذبهم إلى حقل واسع من الأسئلة واحتمالات الأجوبة والأفكار والشكوك والمعاني. بهذه الطريقة (الشعرية) يَظهر موقف الشاعر من المذهب ساطعا ومدوّيا.
بطريقته هذه، يعمد المعري إلى اجتذاب السائلين عن مذهبه بمنتهى الرفق، قبل أن يفجر موقفه الذي يعرف أنه بعيد جدا عما توقعوه أو اعتادوا عليه. فهم يعتقدون بأن المذهب ضروري للمرء مرتبط به، بل هو الذي يحدد له شخصيته وهويته. بينما يرى المعري أن صاحب المذهب أبله. فكيف له في هذه الحالة أن يردّ على سائليه إلا بهذه الطريقة التي تتسم بالبساطة والرفق ولُطف الاستدراج؟ كيف له، بغير هذه الطريقة، أن يثير لديهم الحيرة والارتباك، وأن يدفعهم إلى التعقل والمراجعة والتعمق، وهم المتمسكون بمذاهبهم، بينما هو لا يجد في هذا التمسك سوى ضرب من البلاهة؟
وإذا كان الشعر بعامة، لا يرمي إلى الإقناع وسوْق الأدلّة، فالمعري يبرع من خلال طريقته (الشعرية) في جعل أشعاره تنطوي على أبعاد أو أعماق إقناعية، تتناسب مع تمجيده العقل وتحكيمه في كل شيء، وإن كان في ذلك إنما ينفح أشعاره بنفحة نثرية. والبيت الذي أوردتُه هو في رأيي من أبرز الأمثلة الموضحة للطريقة الشعرية الفريدة للمعري.
لقد بلغ الأمر بالمعري أن تهكم على جميع المذاهب (العقائدية) في زمانه، لأنه نبذ التقوقع وأراد الانفتاح والتنوع. وهو في ذلك إنما انتصر للفكر والشعر معا. فالشعر يستفيد كثيرا من تنوع الفكر ومن تعدد مذاهبه. والتنوع والتعدد الفكريان في مجتمع معيّن، أو في بيئة معيّنة، هما اللذان يخلقان جوا من الحيوية الثقافية التي تتيح لآفاق الشعر أن تُشرق وتتوسع. ومن البديهي القول إن التنوع والتعدد في الفكر لا يقومان إلا على مبادئ الانفتاح والاعتراف بالآخَر.
نظرة إلى الحاضر
شِعرنا العربي، يعاني اليومَ من ضيق في آفاق الفكر، ومن انكماش في مذاهبه. وربما كان ذلك سببا أساسيا لِما بات شائعا من كلام على أزمة في الأدب بمختلف مناحيه. لقد شهدَ النصف الثاني من القرن العشرين تجارب كثيرة في البحث عن آفاق جديدة للفكر العربي، وفي البحث عن إجابات حيال أسئلة تتعلق بالمستقبل وبالمصير العربييْن. ولكنْ - ويا للأسف- انتهت تلك التجارب كلها إلى حالة هي أشبهُ بالضياع أو التخبط. وهذا الواقع ينعكس اليومَ على شعرنا - وعلى أدبنا بعامة- حالة من الركود والمراوحة.
على الأدب والفكر العربيين أن يسْمُوَا على كل انتماء ضيّق، أو بالأحرى على كل تمذهب أو تقوقع في مقولات جاهزة أو نهائية
في العقود الأخيرة الماضية، تشابكت المشاكل في الساحة العربية إلى درجة بات معها من الصعب تحديد الأولويات في محاولات التصدي لها، أو حتى في تصنيفها من الأخطر إلى الأقل خطورة. مشاكل وجودية (أمنية) ومشاكل اقتصادية (معيشية) ومشاكل ثقافية... وغير ذلك. وفي الحقل الثقافي، من أين نبدأ؟ من الفكر أو من الأدب أو من التربية والتعليم... أو من هذه كلها معا؟ وكيف نعمل؟ ونجترح الرؤى؟ والمذهبيات المتنوعة في تصاعد وانتشار، في الفكر وفي الأدب، وخصوصا في التدين والسياسة والتنظيم الاجتماعي. وهذا لا يورث سوى المزيد من التعصب الذي هو مظهر من مظاهر العنف. ولا يخفى علينا أن الصراع العربي الإسرائيلي له التأثير الأكبر في تغذية الانقسامات العربية، وفي إذكاء التعصب على أنواعه.
إزاء هذا الواقع المعقد، تتجلى المهمات أمام الفكر والأدب في منتهى الصعوبة والتعقيد، ولكنها تُلحّ عليهما أكثر فأكثر. وللتقدم في مجاليهما، على الفكر والأدب العربيين، في رأيي، أن يتحليا بالرحابة وسعة الأفق، عليهما أن يسْمُوَا على كل انتماء ضيّق، أو بالأحرى على كل تمذهب أو تقوقع في مقولات جاهزة أو نهائية. وفي الشعر، إذ كلامنا يدور في المقام الأول عليه وعلى مذاهبه، علينا التخلي عن السجالات الضحلة التي مضى عليها الزمن، والتي لا تزال تشغلنا وتملأ ساحاتنا، وعلينا بدلا من ذلك البحث عن قِيَم جمالية ورؤى وفضاءات جديدة، من شأنها أن تتيح لنا السير في مسارات التجدد والتنوع.