كيف ستعيد الشراكة السعودية- الأميركية تشكيل قطاع الفضاء؟

تطوير التعاون الدولي لتحقيق "رؤية 2030"

واس
واس
تركز اتفاقية توسيع التعاون بين وكالة الفضاء السعودية و"ناسا" على التعاون في مجال استكشاف الفضاء الخارجي واستخدامه للأغراض السلمية

كيف ستعيد الشراكة السعودية- الأميركية تشكيل قطاع الفضاء؟

في عام 1985، اتجهت أنظار المنطقة العربية نحو السماء عندما انطلق أول رائد فضاء عربي، الأمير سلطان بن سلمان بن عبد العزيز آل سعود، في مهمة فضائية رائدة على متن المكوك الأميركي "ديسكفري". كانت تلك اللحظة بمثابة تجسيد لطموح جديد لا حدود له، حيث شق الأمير سلطان، الابن الثاني للملك سلمان بن عبد العزيز، طريقه نحو الفضاء، محققا إنجازا تاريخيا ليس فقط للمملكة العربية السعودية، بل للعالم العربي والإسلامي ككل.

والآن تقطع المملكة العربية السعودية خطوات أخرى نحو طموحها العلمي. ففي تطور كبير يعكس الرؤية المستقبلية للمملكة في مجال الفضاء، وقعت المملكة اتفاقية إطارية مع الولايات المتحدة الأميركية تهدف إلى توسيع التعاون بين وكالة الفضاء السعودية ووكالة الفضاء الأميركية (ناسا). تُعد هذه الاتفاقية بمثابة نقطة تحول في مسيرة المملكة نحو تعزيز حضورها في عالم الفضاء، لتفتح آفاقا جديدة في مجالات مثل علوم الفضاء، الاستكشاف، وعلوم الطيران.

وقّع الاتفاقية عن الجانب الأميركي مدير وكالة "ناسا" بيل نيلسون، وعن الجانب السعودي الرئيس التنفيذي لوكالة الفضاء السعودية، الدكتور محمد بن سعود التميمي.

وأكد نيلسون أهمية هذه الشراكة بقوله: "نحن نعيش في العصر الذهبي للاستكشاف – عصر يعتمد على الشراكة. توضح هذه الاتفاقية الجديدة كيف سنعمل معا ونستكشف معا لصالح البشرية.". ومن جانبه، صرّح المهندس عبدالله بن عامر السواحة، رئيس مجلس إدارة وكالة الفضاء السعودية، بأن هذه الاتفاقية تعكس التزام المملكة الراسخ تطوير قطاع الفضاء وتأكيد مكانتها كشريك دولي مؤثر في استكشاف الفضاء.

وتؤسس هذه الاتفاقية الإطار القانوني لتسهيل التعاون بين البلدين وتعزيزه، وترسخ الجهود المشتركة في استكشاف الفضاء لأغراض سلمية، كما تأتي في سياق التزام المملكة اتفاقيات "أرتميس"، التي وقّعتها في يوليو/تموز 2022، والتي تهدف إلى استكشاف الفضاء بشفافية ومسؤولية.

وهذه الشراكة ليست فقط خطوة رمزية، بل تمثل التزاما عمليا بالمشاركة في برامج الفضاء العالمية الكبرى، مثل برنامج "أرتميس" التابع لوكالة "ناسا"، الذي يسعى لإعادة البشر إلى القمر واستكشافه بشكل مستدام.

نحن نعيش في العصر الذهبي للاستكشاف، عصر يعتمد على الشراكة، وتوضح الاتفاقية الجديدة مع السعودية كيف سنعمل معا ونستكشف معا لصالح البشرية

نيل نيلسون- مدير وكالة "ناسا"

ويعزز هذا التعاون العلاقات السعودية الأميركية في مجال الفضاء، ويأتي بعد زيارة مهمة قام بها مدير وكالة "ناسا" للمملكة لمناقشة سبل التعاون المستقبلي. كما أن هذا التطور يعزز حضور المملكة في مجال الفضاء الدولي، خاصة بعد مشاركة رائدي الفضاء السعوديين علي القرني وريانة برناوي في مهمة "أكسيوم 2" في مايو/أيار 2023، التي أظهرت قدرة المملكة على المشاركة الفاعلة في الأبحاث العلمية الدولية التي تجرى على محطة الفضاء الدولية.

ولكن، ما أهمية هذا الاتفاق الإطاري الأخير بين المملكة ووكالة "ناسا"؟ وما هي انعكاساته على مكانة السعودية إقليميًا ودوليًا؟ هل هناك استراتيجيا سعودية واضحة لاستكشاف الفضاء، أم أن هذا الاتفاق يأتي نتيجة لزيارة نيلسون للمملكة هذا العام؟ تشير المعطيات إلى وجود استراتيجيا واضحة وخطة طموحة ترمي إلى تثبيت المملكة كقوة رئيسة في هذا المجال.

أهمية استراتيجية

في السنوات الأخيرة، برزت المملكة العربية السعودية كلاعب أساس في قطاع الفضاء، مستندة إلى "رؤية 2030" الطموحة التي تهدف إلى تحويل المملكة إلى مركز عالمي للابتكار والتكنولوجيا. يُعتبر تطوير القطاع الفضائي أحد الأهداف الاستراتيجية الرئيسة لهذه الرؤية، حيث تسعى المملكة لتحقيق تقدم ملحوظ من خلال تطوير البنية التحتية وتعزيز الشراكات الدولية.

تهدف "رؤية 2030"، التي أطلقها ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، إلى تحديث الاقتصاد الوطني وتحقيق تنوع اقتصادي مستدام. وتعتبر صناعة الفضاء جزءاً أساسياً من هذه الرؤية، حيث تسعى المملكة إلى تعزيز قدراتها في هذا المجال وتطوير البنية التحتية اللازمة لدعم مشاريع الفضاء، كما أن "رؤية 2030" بمثابة خريطة طريق لتوسيع نطاق الابتكار والتكنولوجيا في المملكة، بما في ذلك المجالات العلمية مثل الفضاء.

تعتبر الهيئات الفضائية السعودية الأساس الذي يرتكز عليه تطوير قطاع الفضاء في المملكة وتحقيق أهداف "رؤية 2030". بدأت هذه الجهود بتأسيس هيئة الفضاء السعودية في عام 2018 تحت قيادة الأمير سلطان بن سلمان، أول عربي ومسلم يصل إلى الفضاء، مما مثل نقطة انطلاق لبرامج الفضاء وتعزيز القدرات الفضائية للمملكة.

واس
خلال جلسة حوارية جمعت مدير وكالة "ناسا" و4 من روّاد الفضاء السعوديين

وفي يناير/كانون الثاني 2023، أُعلن إنشاء الهيئة العليا للفضاء، التي تتولى مسؤولية رسم السياسات والاستراتيجيات الفضائية. تقدم هذه الهيئة تقاريرها مباشرة إلى ولي العهد، مما يضمن توجيه السياسات الفضائية بفعالية ومتابعتها بشكل دقيق.

كما شهد عام 2023 تحول هيئة الفضاء السعودية إلى وكالة الفضاء السعودية تحت إدارة الرئيس التنفيذي محمد بن سعود التميمي. إذ تهدف هذه الوكالة إلى تنفيذ السياسات وتنظيم الأنشطة المتعلقة بالفضاء، مما يعزز  قدرة المملكة على تحقيق أهدافها الطموحة في هذا المجال.

تعكس الاتفاقية التزام المملكة الراسخ تطوير قطاع الفضاء وتأكيد مكانتها كشريك دولي مؤثر في استكشاف الفضاء

عبدالله بن عامر السواحة رئيس مجلس إدارة وكالة الفضاء السعودية

وفي خطوة أخرى، تم تعديل اسم "هيئة الاتصالات وتقنية المعلومات" في عام 2022 ليصبح "هيئة الاتصالات والفضاء وتقنية المعلومات"، وهو تغيير يعكس الأهمية المتزايدة للقطاع الفضائي، وتتحمل هذه الهيئة مسؤولية إصدار اللوائح والإشراف على تنظيم صناعة الفضاء، مما يساهم في تطوير هذا القطاع الحيوي في المملكة.

لم تقتصر جهود السعودية على المستوى المحلي فقط، بل توسعت لتشمل التعاون الدولي، حيث وقعت هيئة الفضاء السعودية اتفاقية مع المنتدى الاقتصادي العالمي (WEF) لإنشاء مركز "مستقبل الفضاء"، الذي من المتوقع افتتاحه في خريف هذا العام.

ويستضيف هذا المركز هيئة الفضاء السعودية، ويعمل على تطبيق أفضل الممارسات المعتمدة من المنتدى، مما يساعد المملكة في تحقيق أهدافها الفضائية ضمن "رؤية 2030" وتنويع مصادر دخلها من خلال الاستفادة من الخبرات الدولية.

تعكس هذه الهيكلة الحكومية والتعاون الدولي إرادة المملكة السياسية في تعزيز قطاع الفضاء كوسيلة لتنويع الاقتصاد الوطني. كما تدعم هذه الجهود مكانة السعودية إقليميًا، من خلال امتلاك أحدث تقنيات الاتصالات عبر الأقمار الصناعية، التي أصبحت من البنى التحتية الجاذبة للاستثمار.

منافسة إقليمية وتحرك سعودي

في السنوات الأخيرة، أطلق العديد من الدول الإقليمية أقمارًا صناعية، مما عزز  حدة المنافسة في مجال الفضاء. وقد دفعت هذه التطورات المملكة إلى تخصيص موارد كافية لتحقيق التفوق في هذا المجال. من بين هذه الدول الهند، التي نجحت في أغسطس/آب 2023 في هبوط مركبتها الفضائية "تشاندرايان-3" على سطح القمر، والإمارات العربية المتحدة التي أطلقت مركبة "الأمل" في عام 2021، ووصلت إلى المريخ، لتصبح أول دولة عربية تحقق هذا الإنجاز، مما يعكس اهتمامًا متزايدًا بتطوير القدرات الفضائية.

لم تكتف السعودية بتركيزها على الأهداف التقنية ضمن "رؤية 2030"، بل أعلنت في مارس/آذار الماضي استراتيجيا وطنية وشركة وطنية للفضاء، "نيو للفضاء"، تهدف إلى جذب استثمارات القطاعين الحكومي والخاص

في ظل المنافسة الإقليمية المتزايدة، ومع وجود إرادة سياسية قوية في المملكة تجسدها التشريعات وإنشاء منظمات متخصصة، بالإضافة إلى توفر الموارد اللازمة، حققت السعودية أحد أبرز إنجازاتها في مجال الفضاء في مايو/أيار 2023. فقد تم إرسال فريق من رواد الفضاء ضمن مهمة "أكسيوم" التي استمرت ثمانية أيام على متن محطة الفضاء الدولية. تميز الفريق بمشاركة أول امرأة عربية في الفضاء، ريانة برناوي، إلى جانب رائد الفضاء علي القرني. وقد لاقى هذا الإنجاز اهتمامًا واسعًا بين الشباب العربي، خصوصًا بعد مقابلة الفريق مع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان قبل انطلاق الرحلة، مما أكد أهمية هذه المهمة كجزء من رؤية المملكة لاستكشاف الفضاء.

واس
مدير وكالة الفضاء الأميركية يؤدي العرضة مع رئيس جامعة الأمير سلطان ومسؤولين سعوديين

بالإضافة إلى هذه البعثات، تمكنت السعودية من إطلاق 16 قمراً صناعياً تحت إشراف مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية خلال العشرين عامًا الماضية، وهو أعلى معدل في الدول العربية.

لم تكتف السعودية بتركيزها على الأهداف التقنية ضمن "رؤية 2030"، بل أعلنت في مارس/آذار الماضي استراتيجيا وطنية وشركة وطنية للفضاء، "شركة نيو للفضاء"، تهدف إلى جذب استثمارات القطاعين الحكومي والخاص.

وبالتزامن مع إطلاق تلك الشركة قال وزير الاتصالات وتقنية المعلومات، عبدالله السواحه، إن هذه الاستراتيجيا ستساهم في تحقيق أقصى استفادة من اكتشافات الفضاء، لا سيما في مجالات الاتصالات، الملاحة، وتوفير الإنترنت العالي السرعة للمناطق النائية، وقد استجابت شركة  "هالو سبيس" الإسبانية لهذا التوجه، وأعلنت خططا لتشغيل رحلات سياحية فضائية من المملكة بحلول عام 2026، بتكلفة تصل إلى 164,000 دولار للشخص الواحد.

ووفقًا لبيانات حكومية، حقق قطاع الفضاء في السعودية إيرادات بلغت 400 مليون دولار في عام 2022، وتطمح المملكة إلى زيادة هذا الرقم إلى 2.2 مليار دولار بحلول عام 2030. ويبدو هذا الهدف قابلًا للتحقيق في ظل الاهتمام السياسي الكبير، التعاون الدولي، وتطوير الكوادر الشابة المدربة على أحدث التقنيات العالمية.

فوائد سياسية وعسكرية

في هذا السياق، تسعى وكالة "ناسا" إلى تعزيز التعاون مع الدول الرائدة في مجال الفضاء، بما في ذلك المملكة العربية السعودية، حيث تشير هذه الخطوات إلى سعي المملكة إلى الانوجاد بقوة على الساحة الدولية عبر شراكات استراتيجية مع المؤسسات الفضائية العالمية.

يحتاج النظام الدولي الحالي إلى دول معتدلة مثل المملكة العربية السعودية للمساهمة في إعادة صياغة المعاهدات الدولية المتعلقة باستكشاف الفضاء

بالنسبة الى السعودية هناك فوائد سياسية أو علمية أو اقتصادية كبيرة من امتلاك برنامج فضائي متكامل وتسخير كل الموارد للنجاح في ذلك. ولكن أيضا مكانة السعودية الجغرافية والسياسية والاقتصادية مهمة للدول الغربية لتكوين وانجاح تحالف "ارتميس"، وخاصة في مواجهة أي محاولة لعسكرة الفضاء من أي دولة.

بموقعها الجغرافي المتوسط بين القوى الغربية والجانب الشرقي من الكرة الأرضية، خاصة روسيا والصين، تعزز السعودية موقعها الاستراتيجي في الساحة الدولية. وتنعكس هذه الأهمية الجغرافية في مجالات حيوية، بما في ذلك إدماج قدرات المملكة الاقتصادية والعلمية في مجال استكشاف الفضاء لصالح البشرية، بدلاً من استخدامها لأغراض التجسس أو تحقيق استفادة اقتصادية حصرية لبعض الدول.

ويحتاج النظام الدولي الحالي إلى دول معتدلة مثل المملكة العربية السعودية للمساهمة في إعادة صياغة المعاهدات الدولية المتعلقة باستكشاف الفضاء، فالعديد من هذه المعاهدات أصبح قديما ولا يتماشى مع التطورات السريعة في تكنولوجيا الفضاء. وتمتلك السعودية، بتوجهاتها الحديثة وضمن "رؤية 2030"، القدرة على لعب دور قيادي في تقديم تحديثات لهذه المعاهدات بما يتماشى مع الاستخدام السلمي والتعاوني للفضاء الخارجي.

وكالة الفضاء السعودية
فعالية الفضاء لتحقيق أهداف التنمية المستدامة

هذا التوجه لا يساهم فقط في حفظ السلم الدولي، بل يساعد في دفع عجلة الابتكار والتطور في مجال استكشاف الفضاء، بحيث يتم تعزيز الشراكات بين الدول لضمان أن يظل الفضاء ملكًا مشتركًا للبشرية، بعيدًا من سيطرة أو استغلال الدول الكبرى بشكل منفرد.

وتعكس الاتفاقية الإطارية الموقعة بين المملكة العربية السعودية ووكالة "ناسا" مؤشراً واضحاً الى التزام المملكة تعزيز مكانتها كقوة رائدة في مجال الفضاء، بما يتماشى مع "رؤية 2030" الطموحة.

ويتيح التعاون مع "ناسا" للسعودية الاستفادة من الخبرات والمعرفة المتقدمة في مجال الفضاء، مما يساهم في تطوير تقنيات جديدة وتعزيز القدرات العلمية. من خلال هذا التعاون، ستتمكن المملكة من تطوير مشاريع فضائية متطورة، مثل إطلاق الأقمار الصناعية المتقدمة وتنفيذ البعثات العلمية، مما يدعم الأبحاث العلمية ويزيد قدرة المملكة على المنافسة في هذا القطاع الحيوي.

من خلال التعاون مع "ناسا"، يمكن للسعودية تعزيز الصناعة الفضائية المحلية، مما يشجع على استثمارات جديدة في هذا القطاع. ستساعد هذه الشراكة على إنشاء شركات وتهيئة بيئة مناسبة للابتكار في مجالات الفضاء والتقنية، مما يساهم في نمو الاقتصاد الوطني، كما يمكن أن تساهم الشراكة مع "ناسا" في تعزيز الوعي بأهمية الفضاء بين الشباب السعودي، مما يشجع على الاهتمام بالعلوم والتكنولوجيا. ستفتح هذه الاتفاقية آفاقًا جديدة لبرامج التعليم والتدريب في مجالات الفضاء، مما يساهم في بناء جيل جديد من العلماء والمهندسين في المملكة.

واس
وكالة الفضاء السعودية و"ناسا" في جلسة حوارية "خارج حدود الأرض.. نحو النجوم" في جامعة الأمير سلطان

ولا يقتصر هذا الاتفاق على تعزيز التعاون الثنائي في مجالات متعددة، بل يبرهن على التزام السعودية العميق تحقيق تقدم كبير في هذا المجال الاستراتيجي. من خلال تعزيز قدراتها الفضائية وتوسيع شراكاتها الدولية، تسعى المملكة إلى أن تكون لاعباً رئيساً في تحالفات الفضاء العالمية، متفوقةً على منافسيها الإقليميين. وفي ظل التحديات التي تواجهها البيئة الفضائية، تساهم هذه الجهود في ضمان استخدام الفضاء لأغراض سلمية ومشتركة، مما يعزز السلام الدولي ويعزز الابتكار والتعاون بين الدول.

font change

مقالات ذات صلة